في ظروف يكتنفها الغموض كثرت في الآونة الأخيرة حالات الانتحار في مجتمعنا، لأسباب نجهلها وأخرى قد يرفع الستار في يوم عن معالمها، ظاهرة تستحق منا وقفة تأمل وتحليل عميق منا ومحاولة فهم أحداثها مع مختصين، من أجل الكشف عن أسرارها وحيثياتها، وأبعادها على المجتمع وطرق الوقاية منها، خاصة ومدينة فاس تعيش على إيقاع حادثتين هزتا ساكنتها يوم الخميس 2 يونيو 2011، بعدما أقدم مواطن فرنسي مقيم بالمغرب (ب.أ.أ.ج) البالغ من العمر 47 سنة، صاحب دار الزيتون للضيافة بالمدينة العتيقة،على إنهاء حياته شنقا، تاركا وراءه رسالة خطية كتب عليها باللغة الفرنسية » il y a toujours des limites « ، حالة مماثلة وقعت في نفس اليوم لشاب في مقتدر العمر شنق نفسه بحبل بشجرة من الأشجار المجاورة لمبنى قنصلية فرنسابفاس، ما زالت الأبحاث جارية لمعرفة ظروف وملابسات هذه النازلة. ظاهرة مركبة ومعقدة جدا، تحصد شخصا كل 15 ثانية، بحيث ينتحر كل عام ما بين 900 ألف و مليون شخص، ظاهرة تخفي معها أسرارا لظروف اجتماعية، اقتصادية، سياسية وأمنية التي توفر أو لا توفر للإنسان الشعور بالأمن والآمان، بالاستقرار والطمأنينة وبالتالي بالفرح والسعادة. تعتبر الأمراض النفسية من أقوى الدوافع نحو الانتحار وتدل على ذلك الإحصاءات التي سجلت أن خطورة الانتحار وسط المرضى النفسيين تتضاعف مقارنة مع باقي العموم، حيث ترتفع في بعض المناطق ب 12 مرة.. حيث نجد حوالي 35% من حالات الانتحار ترجع إلى أمراض نفسية وعقلية، 90 % من 450 مليون حالة انتحار في العالم، تعود تحديدا لحالة الكآبة، التي لائحة الأمراض الأوفر حظا في السيطرة على مشاعر من لديه قابلية للانتحار، وأخطرها المرتبطة بنوبات الاكتئاب الجسيم، و65% ترجع إلى عوامل متعددة مثل التربية وثقافة المجتمع والمشاكل الأسرية أو صدمات عاطفية، الفشل بجميع أنواعه، عدم تحمل فكرة الافتراق والبعد عن شخص قريب أو فارق الحياة، ضغط نفسي شديد مستمر، تعرض إلى اعتداء جنسي، الشعور الشديد بالذنب والخوف من الفضيحة، الآلام والأمراض الجسمية وعدم تقبله لها، تجنب العار، الإيمان بفكرة مبدأ أو عقيدة مثل القيام بالعمليات الانتحارية أو الامتثال لأمر ديني أو عقائدي أو سياسي أو وطني. قد تختلف أسباب الانتحار من مجتمع لآخر، كما تختلف بين الجنسين، إلا أن الأسباب في مجتمعنا تقريبا واحدة وقليلة، لا شك أن الزواج المبكر يسبب مشاكل متعددة، بسبب افتقار الزوجين إلى التجربة الحياتية الكافية لمواجهة ضغوطات الحياة، وبالتالي تصطدم الحياة الزوجية بتحديات خطيرة تؤدي في النهاية إلى الانتحار أو الطلاق أو .... وقد سجلت الإحصائيات التي أجريت بالولايات المتحدةالأمريكية على هذه الظاهرة خلال سنة 2002، أن حالات الانتحار فاقت 31 ألف حالة، منها 25 ألف رجل منتحر و 6 ألاف امرأة منتحرة، أكثر من 5000 شخص منهم من الفئة المسنة التي تتجاوز 65 سنة، وحوالي 4000 حالة سجلت في أوساط الشباب البالغ من العمر مابين 15 و 24 سنة. للأسف، لم نستطع الحصول على معطيات محلية تمكننا من وضع مقارنة علمية دقيقة بين المغرب وباقي دول العالم، لكن عموما يلاحظ في المجتمعات العربية أن نسبة المنتحرين أقل بكثير بالمقارنة مع الدول الغربية، راجع ذلك للموقف الديني الحاسم من مسألة قتل النفس. وحسب العالم النفسي فرويد، إن الشخص المنتحر، يملك نظرة عدائية موجهة ضد نفسه، فيختار إيذاء نفسه بدلا من أن يؤذي جهة ما يحبها أو تهمه، إحساس بالعداء والعدوانية يمتلكه الإنسان ضد نفسه، بسبب صراع في علاقة متناقضة بينه وبين أطراف تهمه، الأهل، الحبيب أو صديق فيفضل أن يؤذي نفسه بدلا من إيذاء الطرف الآخر، وينتقم منه في قتل نفسه، قد ينطبق هذا على الفرنسي الذي استسلم واستجاب لنداء صوت داخلي. ويكمن سلوك الشخص المقبل على الانتحار، حسب الأطباء النفسانيين، في وضعية تصرفاته وإقباله على التعاطي مع الأشياء المحيطة به، فمن الممكن ملاحظة استعماله المفرط لتناول بعض مسكنات آلام الرأس، اقتناءه أو حيازته للحبال بشكل ملفت، تناوله للأدوات الحادة والسكاكين وكيفية استعمالها، من الممكن أن يقم بتحضير الوصية وتقسيم أملاكه على الورثة إن وجدت، كتابة أشعار وكتابات تتحدث عن الموت وكره الحياة، ربما عن طريق رسوماته، وتصرفاته اتجاه نفسه أمام الغير، الحديث عن عدم وجود أي مذاق للاستمرار في الحياة، لفت الأنظار إليه لإشعارهم بالضائقة التي يعيشها. نقص مادة السيروتونين تقود إلى التفكير في الانتحار، وتعتبر من الأسباب العضوية إلى جانب الوراثة، وهناك أسباب اجتماعية فسرها عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم حيث فسر الانتحار بسبب تكسر الروابط الاجتماعية والانعزال، وقد تؤثر عوامل الضغوط النفسية وعدم القدرة على كبحها وخاصة الفقر والبطالة، وقد تكون هناك أسباب أخرى مثل ضعف الضمير وعدم القدرة على التكيف مع المجتمع وهنا تظهر فكرة إريك فروم حول الانتحار حيث الصراع بين الداخل والخارج وعدم الالتفات للعوامل الحضارية الاجتماعية. قد تباينت الردود على الانتحار ففي الهند واليابان يكون الانتحار مصدر شرف عندما تحترق الزوجة بجانب زوجها الميت أو مثل طياري الكاميكازي الانتحاريين، بينما المجتمعات الإسلامية تصنف الانتحار في خانة الجرائم والخطايا التي لا تغتفر. ولعل ازدياد حالات الانتحار في العالم، هو ما جعل الأممالمتحدة تخصص يوما عالميا لمنع الانتحار الذي يصادف يوم التاسع من شتنبر من كل عام، على أمل الحد من الحالات المتزايدة، وحسب تقرير قدمته منظمة الصحة العالمية، أن الدول الاسكندنافية ودول أوربا الشرقية تشهد أعدادا متزايدة من المنتحرين، في حين أن دول آسيا وأميركا اللاتينية تعتبر الأقل من حيث عدد الحالات سنويا.