القاعدة المعمول بها في الحياة العادية هي أن الأبوين يشقون ويعملون على توفير لقمة العيش للأجل أبنائهم باعتبارهم أهم مسؤول عن إنجابهم، وبالتالي فلا بد من تحمل أعبائهم، والسهر على تربيتهم والاعتناء بهم، حسب الإمكانيات المتوفرة ،إلى حين بلوغهم السن القانوني والطبيعي الذي سوف يؤهلهم لسوق الشغل.. لكن على ما يبدو أن الأمر انعكس عند بعض الأسر ،التي أضحت بسبب أوضاعها الاجتماعية ،تقوم بالاستثمار في فلذات كبدها ،وهو إن صح التعبير (استغلال ) وليس استثمار حيث يدفعونهم إلى عالم الشغل، الذي مهما قل تعبه إلا وله تأثير جد سلبي على البنية العامة للطفل، سواء من الناحية البدنية أو النفسية ،فالطفل ملزم بأن يتمتع بمراحله كاملة لينمو بشكل طبيعي ويتمتع بما يتمتع به اقرأنه من لحظات اللهو واللعب ويوفر طاقته البدنية لسنوات الدراسة والجد والعمل... شعور مؤلم ذالك الذي يحسه هذا الطفل الذي يمضي ساعات طوال مجبرا على العمل بينما أقرانه يلهون ويمرحون، هم يدرسون وهو لا يدرس، هم يلعبون وهو لا يلعب، إنهم يرتاحون وهو لا يعرف معنى الراحة.... إن إحساس هذا الطفل بالتمييز قد يولد له عقد كثيرة ،خاصة حين يرى كيف أن بعض الأبويين يضحون من أجل إسعاد أبنائهم وتوفير لهم كل المستلزمات الضرورية في جو يطبعه الحب والحنان الممزوج بالخوف عليهم ،يشعر هذا الطفل بالتمييز أكثر وهاجس توفير الدراهم لأبويه يلاحقه كل لحظة وهو حريص على ألا يضيع منهم فلسا لأنه متبوع بعملية تفتيش إجبارية، كما يشعر بالغبن والأسر تحتضن أبنائها خوفا من عالم الشارع، وهو يقضي جل أوقاته فيه، دون مراعاة لما يتعرض له من تهديد واحتقار، فالتعاطف إذا لم توفره العائلة أولا، فلا طعم له من الغرباء ... ظاهرة قد تبدو للمتتبع جد عادية، وهو يجوب الشوارع الرئيسية والساحات العمومية تتعلق بتجارة يحتكرها الأطفال إناثا وذكورا أغلبهم لم يتجاوز العشر سنوات يحرجون المارة وهم يمدونهم إحدى علب المناديل « عفاك شري من عندي هذي غير ب 2دراهم الله يرحم لك الولدين، عاوني أنا كنقرا ونصرف على خوتي.. أمي مريضة وبا سامح فينا ...»و أخر يكرر نفس الحكاية فقط يغير وضعية والده «با متوفي..» بهذه العبارات المأثرة يضطر الأخر لشراء أكثر من علبة لتعاطفه أولا مع ظروف الطفل ثم لان الطفل اختار أن يبيع هذه العلب ولم يختر السرقة مثلا، ثم أيضا فهو يبيع من أجل إعانة أهله وليس من أجل صرفها في الممنوعات ومادامت المناديل الورقية أصبحت ضمن المرفقات الضرورية من الأحسن شرائها منهم تشجيعا لظروف هذا الصبي أو الصبية... في القرب من برانس بالدارالبيضاء هناك طفل يدعى محمد (9) سنوات بالبيت الرابع وطفلة اسمها شيماء (8) سنوات تدرس بالبيت الثالث ابتدائي يحتكرون ذالك المكان، لا قرابة بينهم هم زملاء المهنة فقط ،رغم تواجد غيرهم يثيرك صغر حجمهم ،ثم قوة تأثيرهم على المارة حتى زبائن المقاهي ينادونهم لشراء المناديل، مما جعلهم في موقف غيرة وحسد من طرف منافسهم الذين لا يتجاوز أعمارهم العشر سنوات أيضا ... ونحن نقتني منهم علبة المناديل سألناهم كيف يزاوجون بين الدراسة وهذه المهنة رغم قلة أتعابها لكنها لا تناسب الأطفال ردت شيماء «أنا غير ندخل من المدرسة كاندير كاسكروط وندير الواجب بزربة باش ناخذ مع ماما الطوبيس، كانبيع وحنا راكبين فيه من حدا دارنا في سباتة حتى نوصلوا إلى باب مراكش ملي نجيو هنا أي ساحة برانس كانبقى نجتهد باش نبيع كلشي العلب وما يبقى والو ،حيث كلما بعناهم كاملين غادي نرجعو لدارنا بكري ونقدر ننعس مزيان لكن غادي نعاود نفس العملية في اليوم الموالي....» تتحدث بأسف شديد كونها غير راضية على هذا الوضع، وحين سألتها لماذا لا تعبر عن رفضها هذا لأبويها وتتحرر من هذا كله ردت متحسرة « راه عييت معاهم باش يصبرو عليا غير نوصل الإعدادي ،أنا راه بقى فيا الحال بزاف ملي شافتني واحد البنت تقرا معايا وصلتها كاع لتلاميذ القسم وانا نكرت انا نبيع (مناديل كلن...) وهي بقات تحلف انها شافتني لكن مشيت للدار وبقيت كانبكي ونغوت انني مابغى نبيع حتى نكبر ونخدم فشي خدمة مزيانة باش ما يعيروني صحاباتي، أنا أصلا كنت تفقت معاهم نبيع غير في العطلة الصيفية باش نشري حوايجي ديال المدرسة هما شافوني كانبيع مزيان واستحلاو الفلوس جاوهم ساهلين زعما ،لكن راني كانتعذب أنا باش نجيبهم ..» الظاهر أن شيماء تحترق داخليا،بل تكذب تلك السعادة التي تغمرها وهي تجري بين الزبائن حين تأخذ مقابل حجم مبيعاتها،إنها تتحدث بغبن وهي تحكي واقعها المرفوض والذي فرض عليها من طرف أبوين لا يعلمون نتائج كل ذالك، خاصة و يبدو أن الفتاة جد ذكية ولها شخصية قوية من خلال انتقاء المصطلحات التي تحاول أن تبرر بها تواجدها بهذه المهنة كما استخدمت عبارات صريحة مثلا، كون أن والديها بإمكانهم الاستغناء عن عملها خاصة وأنهم لا يعانون من أي مرض و والدها يشتغل في معمل في حين والدتها توظفها هي منذ أن اشتغلت بالعطلة الصيفية وربحت نقودا كثيرة ،حيث أصيب والديها بطمع مداخل هذه الحرفة البسيطة في نظرهم والثقيلة على كاهل طفلتهم... مؤسف جدا أن يحس الأطفال أنهم مستغلون من طرف أقرب الناس إليهم ،برغم تواجد أحد أبويهم على بعد منهم لمراقبتهم إلا أن الأمر ليس سهلا، فهم بغفلة بسيطة عنهم بإمكانهم أن يتعرضون لعدة أخطار من بينها حوادث السير والسرقة والاعتداءات من طرف المجرمين زيادة على أن تواجدهم معظم الوقت في فضاء الشارع سيجعلهم في مواجهة مباشرة مع عدة ظواهر مجتمعية خطيرة تحجب مشاهدتها بالتلفزيون عن أقرانهم، في حين يرونها هم في واقعهم دون تحفظ، ومما لاشك فيه أن تواجدهم المبكر في سوق التجارة أو العمل سوف يؤثر على بنيتهم الاجتماعية فالطفل يحتاج لرعاية صحية خاصة ويحتاج أي للحفاظ على مخزون طاقته للأجل دراسته وحياته المستقبلية لان الحياة مراحل ونحن ملزمون بالتمتع بكل مرحلة والحفاظ على طاقتها فلا يمكن أن تحرق كاملة في فترة الضعف ... وبخصوص الحديث عن هذه الظاهرة عبرت الباحثة الاجتماعية عائشة التاج عن رفضها لهذا الواقع الذي يمس أطفال وطن بأكمله يتحمل مسؤوليته الأبوين والدولة مما يتأكد يوميا بان هؤلاء الباعة الصغار يتعرضون لاستغلال بشع من طرف آبائهم أو المتكفلين بهم لأنه مبدئيا مكان الطفل هو المدرسة أو أي مؤسسة للتكوين تضمن إعداده لمستقبل يضمن له الكرامة , ذلك أن «استغلال الأطفال « في بيع منتوجات صغيرة كالمناديل و «القفف البلاستيكية ( الميكة)داخل الأسواق ،وبيع قوتهم الهشة أصلا لكبار مقابل فرنكات معدودة يشي بحجم الاختلالات التي يعرفها مجتمعنا قانونيا واجتماعيا وأخلاقيا، ولنبدا من الناحية القانونية : نعرف بان بلدنا صادق على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي تضمن له كل اشكال الحماية ومعه ترسانة قانونية محلية تسير في نفس الاتجاه لكنها لا تفعل بما يكفي حيث ان وجود هكذا مظاهر بحجم ظاهرة يدل على تقاعس الدولة في حماية حقوق هذه الفئة ولو تجاه الآباء الذين لا يقومون بواجبهم في إعالة أطفال تم إنجابهم عن طواعية واختيار فالوالدية لا تقف عند الإنجاب ،بل تفرض واجب الرعاية الكاملة نفسيا وتربويا وجسديا إلى أن يشتد عود الطفل ولا يحق للوالدين او احدهما استغلال طفله بموجب انه انجبه وعلى الدولة تربية الآباء كي يعرفوا واجباتهم الوالدية ومساعدتهم في هذا الاتجاه بالوسائل التوجيهية ومعاقبتهم في حالة الإخلال الخطير بواجبهم ذلك أن هؤلاء الأطفال الذين يتعرضون لهذه الظروف قد يعانون من نقص في تكوينهم وتحصيلهم ومن اضطرابات نفسية نظرا للشروط القاسية التي يمضون فيها يومهم , والخطير هي الاختلالات الصحية الجسدية لأن الشغل لمبكر سيحرمه من نمو عادي و سليم وسيتم هدر مواهبه قبل الأوان , لذلك يلزم التصدي لهذه الظاهرة بكل الوسائل قبل فوات الأوان فهؤلاء الأطفال هم رجال الغد وامتهان حقوقهم وحاجياتهم هو رهان على مستقبل أكثر بؤسا مما نحن فيه ....» وتشير أرقام مديرية الإحصاء بالمغرب لسنة 2006 إلى أن أكثر من نصف مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 7 سنوات و 14 سنة، يعملون في مجالات مختلفة؛ وأن أكثر من نصف إجمالي العدد من الفتيات. فضلا عن الأطفال غير المصرح لهم بالشغل، ودون احتساب الأطفال الذي تقودهم ظروف الفقر إلى الدراسة والعمل في آن واحد. وتؤكد نفس الأرقام أن ثمانية وسبعين في المائة من الأطفال الذين يضطرون إلى الشغل هم من أصول قروية. وفي دردشة مع الطفل محمد رفيق الطفلة شيماء في مهنة( تجارة المناديل) حول أرباحهم اليومية من هذه التجارة قال أنه ملزم بأن يبيع 200 حبة على الأقل يوميا من أجل ربح 200 درهم ذالك أنه يشتري يوميا علبتين كل علبة تتوفر على 24 علبة صغيرة تتواجد بها 6 حبات أي ما مجموعه في كل علبة كبيرة 144 حبة إذن هو ملزم ببيع العلبتين أي 288 حبة في اليوم إن اشترى من أصحاب الجملة فهو يشتري ب 0,80سنتيم أي تعود أرباحه اليومية 230درهم صافية أما إن اشترى من أصحاب نصف الجملة فهو يشتري ب 1درهم وبالتالي فأرباحه لن تتعدى 200رهم يوميا أي بمعدل 6000,00درهم شهريا إذا ألتزم طبعا ببيع 200 حبة يوميا وهم يؤكدون رهانهم على ذالك لأنهم مجبرون مهما كان سوء الطقس وعمق الليل سوف ينتظرون إلى إنهاء البيع حسب تصريح الأطفال وفي حالة ناذرة ما يضطر بعض الزبائن لمدهم أكثر من ثمن العلبة،و ما يحز في النفس هو أن هذا الطفل يبدو مصفر الوجه وحين سألته هل يعاني فقر الدم أجابني بنعم وهل أنت طبيبة؟ قال أنه سبق أن تعرض لحمى قوية بسبب الشمس (المكلفة) وأنها من تسببت له في فقر الدم لكنه لا يأخذ علاج لان طبيب الحي لم يمدهم بالأدوية المجانية رغم أنه خير علاج له هو الراحة بالإضافة إلى التغذية المتوازنة وحين اقترحت عليه حمية مفيدة بإمكانها أن تعالجه من «الأنيميا» رد علينا أنه لا يملك مالا لأجل توفيرها لان كل ما يربحه يأخذه الوالد كل مساء... تأسفنا لحال محمد وشيماء وأقرانهم الذين أصبحوا يسكنوا شوارعنا و أسواقنا كل يوم تستغل براءتهم من أقرب ذويهم ،فمهما ربحوا من دراهم فهم يخسرون معها كل الأشياء الجميلة التي يفتقرون لها كأطفال ... كما تأثرنا كثيرا بأمنية شيماء البسيطة فهي تمنت أن تأتي الظروف لتجعلهم يرحلون عن الدارالبيضاء لا لسبب سوى أنها لا تريد أن تصادف في المستقبل من رآها تبيع (كلن) أو من سبق أن اشتراه من عندها فهي تحلم بان ينتهي هذا الواقع وتعيش في مدينة أخرى بواقع أخر جميل تغيب فيه نظرات البؤس والاحتقار.... وفي اتصال مع السيدة نجاة أنور، رئيسة جمعية»ماتقيش ولدي» التي عبرت عن أسفها الشديد من انتشار ظواهر استغلال الأطفال ؛ فهي تؤكد بدورها على أن العوز والافتقار إلى وعي أسري يدفع بعض الآباء إلى تشغيل أبنائهم. وتضيف بأن غياب التشريعات والقوانين، يجعل الأطفال عرضة للتشغيل والتسول وأحيانا للاستغلال الجنسي... كما أكد ت نجاة أنور على أن عمل الأطفال غير مقبول أخلاقيا ولا قانونيا ولا إنسانيا. وتستطرد قائلة «وضع الأطفال في دول العالم الثالث مثل المغرب أخذ طبيعة مغايرة». فالطفولة في المغرب تحتل «حيزا كبيرا في مجال الشغل نظرا لتكلفتها الضئيلة، كما تأخذ وتيرة متفاوتة ما بين المدن والبوادي». وتفسر أنور ذلك بأن طفولة البوادي يتميز شغلها بأعمال ذات طبيعة شاقة في غالب الأحيان وترتبط في معظمها بالمجال الفلاحي وبتكلفة تكون في غاية الضآلة؛ في حين أن طفولة المدن تستغل في المجال الصناعي والحرفي وغيرها من المهن التي لا توفر الحد الأدنى من الأجر والسلامة والوقاية البدنية . وتشغيل الأطفال مهما كان خفيفا فهو شكل من أشكال النشاط الاقتصادي الذي يمس بكرامة الطفل ويضرّ بنموه الطبيعي والجسدي والنفسي. وفي هذا الصدد تؤكد نجاة أنور أن عمل الأطفال يعرضهم للأذى الصحي والنفسي، والعنف اللفظي والبدني، وأحياناً للتحرّش الجنسي والاغتصاب. لهذا فالجمعيات المغربية تقوم بحملات توعية موجهة لعائلات الأطفال في المدن والقرى لشرح أخطار التشغيل المبكر على أطفالهم. إلا أن هذه الجهود المتواضعة، حسب نجاة، لم تعط النتائج المرجوة لأن الظاهرة عرفت اتساعا وأشكالا متنوعة. وتضيف نجاة بهذا الصدد بأن «التعاون المشترك بين الحكومة ومنظمات الطفولة لم يرق إلى مستوى الشراكة الحقيقية التي توفر إمكانيات مادية ولوجستية وإعلامية من شأنها أن تجعل الجمعيات تنهض بمهامها وتحقق أهدافها». ومن الملاحظ أن أغلب الأطفال (باعة المناديل) الذين صادفنهم سواء بساحة البريد بالقرب من البرلمان بالرباط أو المنتشرين بشارع محمد الخامس وساحة برانس بالدارالبيضاء وجدناهم رفقة أمهاتهم المنقبات اللواتي يبعد عنهم أمتارا يراقبونهم من بعيد وهن لا يرغبن بنقابهن كشف هويتهن لا كشف عورتهن ،فهن يخشون فقط على ألا يتعرف إليهن معارفهن ولا إشكال لديهن من تشويه أطفالهن لدى أقرانهم خاصة و أننا في دردشاتنا مع هؤلاء الأطفال رأينا أنهم متأثرون جدا من هذه الناحية فهم رافضون نعت أصحابهم (بياع كلي) ... قمة الأنانية أن تخفي الأم وجهها وهي مرتاحة تنتظر عودة الدراهم من أطفال أحرقت الشمس ملامحهم كما احترقت مراحل طفولتهم ...