الأحمر على الطريق يقول دائما -من خلال رمزية اللون-(قف)، لكن الإشارة تحمل في نفس الوقت لغة تجارة مختصرة وسريعة، حتى إذا ما أشرق اللون الأخضر ذهب طرفاها كل في طريقه، بغض النظر عن إتمام البيع والشراء. صحف ومناديل ورقية ومناشف، لعب أطفال، أدوات زينة السيارات، أغطية المقود.. تحملها أيادي أطفال في عمر الزهور اتخذوا من الستوبسوقا لهم، ليجنوا دراهم معدودةخلال دقائق محسوبة..في تلك الدقائق يحشدون كل ما أوتوا من قدرات إقناع وتسويق وترويج..يحدوهم الأمل في أن يصرفوا بضاعتهم لأصحاب السيارات الواقفين على الإشارات الضوئية..الحديث مع السائقين لا يلهيهم عن متابعة تغير ألوانها.. يسترقون إغفاءة الضوء الأحمر ليسوقوا بضاعتهم، وما إن يشرق اللون الأخضر حتى يكونوا قد ابتعدوا عن الطريق وسمحوا للسيارات بالمرور، منطلقين إلى الإشارة الأخرى.. كما أن تلك الثواني تغني بعض السائقين عن الذهاب بسيارته للمغسلة، فهؤلاء يتكفلون بمسح زجاج سياراتهم أثناء وقوفهم عند الإشارات، حتى وإن كان انتظار الإشارة الخضراء لا يتجاوز عدة دقائق. تجارة سريعة عند كل إشارة ضوئية أو زحمة سيارات يمكن للمرء أن يصادفهم..أغلبهم أطفال في مقتبل العمر، زبائنهم من فئة واحدة، هم سائقو السيارات الذين يفرض عليهم الضوء الأحمر أو زحمة السير التوقف لبضع لحظات قبل مواصلة طريقهم..كل عمل هؤلاء الأطفال يرتبط باستغلال تلك الدقائق أو الثواني القليلة التي يضطر فيها زبناؤهم المحتملون للتوقف. هكذا خلقت زحمة إشارات المرور نوعا من الحياة للناس، ليستفيدوا منها لشراء ما يلزمهم من صحف ومناديل ورقية ومواد استهلاكية أخرى يمكن بيعها سريعا أثناء الانتظار بإشارة المرور..، يتوقف صف طويل من قسمين عند الإشارة الضوئية، يسير على طوله عارضا علب المناديل على اليمين وعلى الشمال، لكن دون أي نتيجة دائما، تنطلق السيارات من جديد فيقرر تغيير الوجهة لإشارة ضوئية أخرى... نفس المشهد يتكرر، فما إن تقف بسيارتك على إحدى الإشارات الضوئية والوجوه مشدودة ومشحونة من كثرة زحام السيارات عند الإشارة، ومن طول الانتظار والترقب..حتى يركض إليك بائع صغير يعرض عليك شراء ما بحوزته..، حين تعتذر له يبادر بالتباكي، فيبدأ بشرح قصة حياته وكيف هو وحياته وأوضاعه...،البعض من سائقي السيارات يتجاوب، والبعض الآخر وهو الأكثر يعتذر.. وهنا المشكلة، حيث يلتصق البائع بالسيارة وقدماه أصبحتا قريبتان وملاصقتان لإطاراتها ويأخذ في استعطاف مبالغ فيه حتى تشتري منه سلعته.. هكذا يمضي باعة الإشارات الضوئية أو تجار الإشارات ساعات يوميا بالانتقال من إشارة ضوئية إلى أخرى..يقفون بجانب الإشارة..ينتظرون إلى أن تصبح حمراء فيمضون متجولين بين السيارات يعرضون ما يبيعونه على راكبي السيارات..تراهم في سباق بينهم حول من يظفر بإقناع الزبون لشراء معروضاتهم، يتقنون فن البيع والإلحاح في تجارة تحمل توقيع أهاليهم، وحين يشعرون بالفشل يتحولون في نفس اللحظة إلى متسولين!.. ليأتيهم الرد ما بين معط لهم بما جادت به يداه، وآخرين أغلقوا النوافذ في وجوههم، قبل أن يعودوا إلى رصيف الشارع مع الشارة الخضراء، منتظرين عودتها إلى اللون الأحمر لممارسة فروضهم الأسرية، إذ إن غالبيتهم أجمعوا على أن أهاليهم وراء امتهانهم هذه التجارة..وهناك أطفال لا يعملون إلا في فترة العطلات الصيفية لأجل توفير مصروفات بداية العام الدراسي الجديد. وهكذا يتكرر يوميا هذا المشهد بسرعة وخفة..سيارات متوقفة و يد بيضاء تلوح بعلبة مناديل وردية اللون وبنوع من الرجاء. قد لا يفلح صاحبها في بيع شيء ولكنه يستمر في المحاولة مع كل قادم جديد..وحين يبتسم الحظ تخرج يد أخرى من نافذة سيارة لالتقاطها، وتسلم قطعة نقدية للشاب الذي يتنحى عن الطريق ليفسح المجال للسيارات لمتابعة سيرها. ويد أخرى تسلم ثمن العلبة الورقية وتطلب من بائعها الاحتفاظ بها. وفي الصورة مشهد آخر.. فما إن يتوقف السير حتى يتحلّق أطفال حول السيارات. يعرضون على سائقيها مسح الزجاج الذي تلتصق وجوههم به.. يرافقون السيارة مع دوران عجلاتها. ويُسرعون الخطى كلما ازدادت سرعتها، وهكذا يظلون يتبعونها حتى تتوارى. بوتيرة ثابتة مرتبطة بألوان الإشارة الضوئية.. مشاعر متباينة.. عند الإشارات الضوئية يقفون ويستغلون الدقائق المعدودة بين فترتي الإشارة الحمراء والخضراء، مشاعر متباينة تعقب السيناريو عند الإشارة، أهمها الانزعاج والحنق والضيق وأحيانا الشفقة..لكن دائما الدهشة عن سر الإصرار على تمرير مبيعاتهم خلال دقائق معدودة بسرعة وإحراج. لماذا يقومون بذلك ؟ سؤال يتجدد مع لحظات استغلال الزمن المستقطع من الحياة لمجرد جمع دراهم معدودة والمعاناة جراء الوقوف في ساعات الظهيرة والحر الشديد والأزمات المرورية لاستدراج العطف ولو غمس بالإحراج وعدم الرضا. يعتقد بعض السائقين أن للواقفين عند الإشارات مهارات خاصة لتحديد السيارات والأشخاص والضغط عليهم بأساليب مختلفة وطلب المساعدة بسهولة ودون أي عقبات، غير أن ما يزعجهم هو هذا الأسلوب الذي يتسم بالإصرار والإلحاح إلى حد الاستجداء.وكثير منهم يعتقد أن هناك من يتخذ هذه الحرفة مطية للسرقة، حين لا يعيدون «الصرف»لأصحابه أو قد يستولون على هواتف السائقين المحمولة في غفلة من أمرهم إذا كانوا يتحدثون فيها عند الإشارة الضوئية»، إضافة إلى الذين يبيعون وهم تحت تأثير «السيلسيون»، أو أنهم يسببون المشاكل والمضايقات للسائقين خصوصا الفتيات منهم... فيما يظهر مليا لدى أطفال واقفين عند الإشارات ينهشهم العوز بالمخاطرة بين السيارات وزحمة المرور وعند الإشارات، بأنهم رغم وعيهم بكونها مهنة شريفة فالإحساس بدونيتها حاضر في تفكيرهم..أهاليهم، يكيلون لهم الضرب والسباب إن لم يتمكنوا من جلب المال لهم، والأقسى من ذلك، أن معظمهم أجبر على ترك مقاعد الدراسة لأجل ذلك.كثير منهم يتذمر من المتاعب «فهذه مهنتهم، التي اعتادوا عليها، تحمل الكثير من التعب والوقوف وليس هذا فقط، بل يتعدى الأمر إلى البرد في الشتاء والأمطار والشمس الحارقة في الصيف، ولكن هذه لقمة العيش فهي صعبة». في المقابل يؤكد من التقيناهم بأن تصرفات بعض السائقين تترك آثارها في نفسيتهم..فهناك من يبصق في وجهه أو يقفل في وجهه نافذة السيارة.. وإضافة إلى كون المهنة ينظر إليها بازدراء من طرف الكثير من أصحاب السيارات، يقول بائع مناديل ورقية بأن تعامل البوليس هو أكثر سوءا، فعديدة هي المرات التي تعرض فيها للضرب والإهانة والسب على يد رجال الشرطة. ونزعت منه بضاعته في مرات عدة، واعتقل في مخافر الشرطة، حيث قد يقضي بضع ساعات أو يوما كاملا، أكثر من مرة. لكن هناك من يحسنون التصرف معه ويغضون أيضا الطرف عنه عندما يعمل.. معاناة التنقل بين الإشارات يتحملها العشريني حسام، من أجل لقمة العيش، ويقول «نحن هنا كي نكسب عيشنا، ولا نقف للعب، أجد البيع على الإشارات الضوئية يحررني من أي التزامات، لهذا اتجهت للبيع في هذه الأماكن». يشتغل في معظم الأحيان من الثامنة صباحا حتى السادسة مساء و يتفاوت ما يربحه يوميا ما بين 30 إلى 50 درهم وقد يتجاوز الربح هذا العدد في فترة الرواج. احتكار يتسارع باعة متجولون ليضعوا أقدامهم إلى جانب الإشارات الضوئية التي أصبحت تقترن بهم، يملأ وجوههم تعب أفرزته أشعة الشمس التي تسقط على رؤؤسهم مباشرة..يحملون بضائع مختلفة، ويتنقلون بين سيارة وأخرى مسرعي الخطى، علهم يظفرون بمشتر؛ سخي يرفع عن كاهلهم السلع التي يحملونها ليمنحهم المال، الذي قد يعيل أسرهم ويوفر لهم لقمة العيش. في هذه الصورة، ينتظر يوسف، الإشارة الضوئية الحمراء، حتى ينتهز الفرصة لتسويق ما يحمله من مناديل ورقية، لينشط بين السيارات لترويج بضاعته، كغيره من الباعة، الذين يتهافتون لبيع أنواع السلع المختلفة وسط الازدحام المروري على الإشارة. يقول «إنني أبدأ يومي بكل نشاط وحيوية، فأذهب لأحصل على سلعتي، التي اعتدت على بيعها، وأتجه إلى الإشارات الضوئية التي تحتل مكانا مهما في عملية المناديل الورقية وبعض السلع الأخرى».وينشط البائع يوسف، وهو يركض بين الإشارات بمفترق طريق بالدارالبيضاء، الذي أصبح منطقته المعتمدة»هذه الإشارات أصبحت السوق لدي، ولا أحد يأتي كي يبيع فيها، لأنها ملكي، وأحمل بين ذراعي سلعتي، لأجل لقمة العيش لأجني مبلغا من المال آخر النهار». «أحيانا أجني مالا وفيرا، وأحيانا لا أجد من يشتري مني، فأبقى طوال النهار أتجول على أمل أن يشتري مني شخص مبيعاتي». ويأتي يوسف إلى ذلك المكان يوميا منذ الساعة السادسة صباحا حاملا معه المناديل الورقية، باحثا عن رزقه، غير آبه بحركة السيارات السريعة حين يتحرك من شارع إلى آخر. وهذا المشهد يبدو متكررا في معظم التقاطعات الرئيسية وعند الإشارات الضوئية التي تحولت إلى أسواق رسمية لبيع مختلف المواد الاستهلاكية. ويبين يوسف أنه يعمل وحده في هذه المهنة، مؤكدا «أنا لا أتبع لأي جهة، وأعمل وحدي،».ولا يحصر يوسف في تقاطع واحد، حيث يشرح الوضع قائلا «عندما تأتي الشرطة للإمساك بنا، أغير الإشارة الضوئية التي أقف عندها لفترة من الزمن، ثم أعود إلى مكاني الدائم». وتابع يوسف بأن الإشارات الضوئية ليست حكرا على الأشخاص، موضحا «أنا أعمل في هذه الإشارة مع زميل لي، وكل منا يعمل وحده، لكننا لا نمانع إذا قدم شخص آخر وأصبح يبيع معنا، لكن هناك تنافسا بيننا لنحصل على المال». وعلى العكس من يوسف، يعمل عمر ضمن مجموعة تتوزع على أكثر من تقاطع بحسب تعبيره، ويقول: «تعرفنا على بعضنا البعض منذ سنوات، واتفقنا على بيع مواد استهلاكية مختلفة مقابل أن يتم توزيع الأرباح بيننا..، بحيث نتوزع على الإشارات الضوئية لتبدأ رحلة البحث عن الرزق». ولا يقبل عمر ورفاقه لأحد من الباعة أن «يتعدوا» على «منطقتهم» إلا إذا أصبحوا ضمن الفريق. بائعو الإشارات، أو تجار الإشارات، باتوا يعرفون زبائنهم، صاروا يتجهون مباشرة لمن سيشتري، وذلك من خلال «الفراسة» يقول عمر «بفراستنا نعرف الزبون الذي سيشتري ونتوجه له مباشرة حتى نكسب الوقت». حكايات أخرى هناك العشرات من حكايات النساء والرجال، الذين كانوا ضحية منحرفين في صورة بائعي المناديل الورقية، بحيث لم يعد يخلو أي ملتقى طرقي وسط مدينة الدارالبيضاء من وجود هذه الفئة من المواطنين الذين يستغلون هذه الفضاءات لبيع سلعهم، لكن للأسف أن هناك من يظهر في صورة بائع منديل، ويسرق السائق أو السائقة. وهذا الأمر يثير الكثير من القلق بالنسبة إلى عدد من سائقي السيارات، الذين أصبحوا في الكثير من الأحيان يغلقون زجاج النوافذ، خوفا من الاحتكاك مع أي مشرد أو متسول. في حين ترى جهات أخرى أن حياة إشارات المرور لا تتوقف عند الدراهم التي يجنيها الباعة، ولا عند البضائع البسيطة التي يقومون ببيعها، بل لها قصة أخرى، حيث بين رجل أمن، أن هناك استغلالا كبيرا للأطفال والبائعين عند الإشارات، «ففي حين يفكر البعض بطريقة سطحية ويعتقد أنهم يبيعون تلك المواد الاستهلاكية مقابل (لقمة العيش)، نحن نرى من خلال عملنا ما تخبئه تلك التجارة، بحيث يتم استغلال هؤلاء الأطفال من قبل عصابات، للترويج لمواد مغشوشة أو محظورة في بعض الأحيان من خلال وضعهم تحت غطاء (التسول) أو (لقمة العيش)».