في ظل غياب نسيج صناعي بمدينة وجدة قادر على امتصاص الكم الهائل من طالبي الشغل، خاصة مع التوسع الديموغرافي الذي تعرفه المدينة بفعل نزوح عدد من الأسر نحو عاصمة الشرق، وأمام ارتفاع الأسعار في مقابل انعدام الدخل، تنامت ظاهرة الباعة المتجولين بشكل لافت للنظر، ولم تعد تقتصر على الرجال والشباب فقط، بل تجاوزتهم لتشمل نساء وأطفالا حملوا على عاتقهم هم القوت اليومي لأسر نخر عظامها الفقر والعوز، حيث استغنى الصغار عن المحفظة الدراسية وحملوا مكانها سلعا بسيطة فخرجوا إلى الشوارع لينهموا من معين التجارة الفوضوية، وتركت المرأة كرامتها وراءها فخرجت تجوب الشوارع لبيع المناديل الورقية أو لافتراش الأرض أمام بضاعة لا يتعدى رأسمالها 50 درهما في أحسن الأحوال، منتظرة الظفر ببضع دراهم كمدخول يومي تقي به نفسها وأسرتها شر الجوع والعراء... ظروف إنسانية قاهرة برأسمال بسيط وبغير رأسمال وجد عدد كبير من الشباب، وبينهم حاملو شهادات، أنفسهم يرتدون عباءة البائع المتجول مستعينين في ذلك بعربات مجرورة بالدواب أو بفراشة على الأرصفة يقضون يومهم في جمعها وبسطها كلما هبت ريح السلطة، فئات عمرية مختلفة يقال عنهم "كلوشارا" ، "شفارا" ، "اصحاب البلية"... وغيرها من الصفات التي لا يتوانى البعض في إلصاقها بهم، ولكنهم في حقيقة الأمر صورة مبسطة عن واقع مرير يتخبط فيه السواد الأعظم من أبناء هذا الوطن ، دفعتهم الفاقة إلى اقتحام أسواق المدينة واحتلال الأرصفة متحملين الضغوطات الممارسة عليهم من كل صوب وحدب في سبيل توفير لقمة العيش المريرة. وقد أدت الظروف المادية والاجتماعية القاهرة لبعض النازحين من المدن والقرى المجاورة لمدينة وجدة، وبعض القادمين إليها من مدن كتازة، جرسيف، الراشيدية، ورزازات... ومن بعض المناطق الداخلية أيضا إلى ارتفاع نسبة الباعة المتجولين، وساهمت المواد المهربة عن طريق الحدود المغربية الجزائرية في انتشارهم بأسواق المدينة، وذلك نظرا للتسهيلات التي يقدمها تجار هذه المواد لكل باحث عن مصدر رزق، حيث يتم مدهم بالبضائع والمقابل يدفع بعد البيع. كما ساعد هذا الوضع بعض الباعة من الارتقاء بنشاطهم من باعة على الرصيف إلى ملاك ل"دكاكين متنقلة"، كما يحلو للبعض تسميتها، حيث يجوبون أزقة الأحياء ووسط المدينة بعربات مجرورة بواسطة "الحمير" وعلى متنها بضائع مختلفة تتجلى في مواد غذائية كالدقيق، البيض، الشاي، الجبن، دانون، مرتديلا، القطاني، المشروبات الغازية... وعربات خاصة بمواد النظافة وأخرى بالخضر والفواكه إضافة إلى الأسماك. لكل واحد حكاية لكل واحد وواحدة من الباعة المتجولين حكاية مع البداية تلتقي جلها عند نقطة الفقر والبطالة، فهذا طال انتظاره لوظيفة الأحلام بعد سنوات الجد والاجتهاد، وذاك ورمت رجلاه من شدة البحث عن فرصة عمل يسد بها رمق أسرة، وهذه أرملة على كاهلها مسؤولية «كوم لحم» بحاجة إلى مأكل وملبس ومسكن، وتلك مطلقة تسعى إلى كسب قوت يومها بشرف بدل الوقوع في براثن الرذيلة وعجوز وجدت نفسها في خريف العمر بدون معيل تدفع عربة وجبات خفيفة لا تخرج عن نطاق البيض المسلوق والخبز والشاي في رحلة البحث عن زبائن وسط الباعة المتجولين أنفسهم. وطفل متمدرس يستجدي المارة بمناديل ورقية وعلكة وأكياس بلاستيكية، يصبح بائعا متجولا في الآحاد وخلال العطل المدرسية، وآخر غادر مقاعد الدراسة ليتفرغ للتجارة ويساعد في مدخول أسرته الفقيرة، وآخرون لم يلجوا أبواب المدرسة قط نشأوا فجوبهوا بقساوة الحياة ليكبروا قبل الأوان وعلى عاتقهم عبء توفير المال حتى لا تتوقف عجلة حياتهم. فمحمد (36 سنة) حاصل على الإجازة في القانون العام، قرر «مرغم لا بطل» أن يتحول من طالب مجاز إلى بائع متجول، بعدما أصبح مسؤولا عن توفير المصاريف والاحتياجات اليومية لعائلته الصغيرة المتكونة من زوجة وطفلة، حيث اقترض مبلغ 400 درهم لاقتناء سلع وإعادة بيعها وبذلك أصبح لديه دخل يومي، يصل خلال فصل الصيف، حين يكون الرواج في أوجه، إلى 200 أو300 درهم. أما أحمد (40 سنة، أب لثلاثة أطفال) وهو بائع ألبسة، فقد دفعته ظروفه الاجتماعية والاقتصادية إلى أن يكون بائعا متجولا، انطلق ب3000 درهم كرأسمال اقترضه من بعض الأصدقاء والأقارب، أما مدخوله اليومي فلا يتعدى 70 درهما في أحسن الأحوال، يعيش حسب تعبيره تحت الصفر يعاني من الفقر ويشعر ب"الحكرة" والقهر بسبب عدم قدرته على حل مشاكله المادية المتمثلة في الكراء ومصاريف الماء والكهرباء والقوت اليومي وعدم تلبيته لطلبات أطفاله البريئة، ويقول بأن بداية الشهر تكون فاتحة خير عليه أما باقي الأيام "فالله يحفظ ويستر"... نور الدين (30 سنة) بائع "الديطاي" يقول بأنه يحصل على ربح يقدر ب 50 أو 60 درهما خاصة أيام السبت والأحد، لا يجد صعوبات مع أصحاب المحلات المرخص لهم، بل بالعكس يلقى المساعدة منهم عندما يكون مفلسا ليمدوه بالبضاعة إلى حين، أما السلطات "فكل مرة مسيزيين خوك" حسب تعبيره بعد أن فقد والده تحمل، وهو طفل في 13 من العمر، أعباء مصاريف والدته وشقيقاته البنات ومازال يتحملها إلى الآن كبائع سجائر بالتقسيط. ويحكي حمادة الشاب ذو 26 ربيعا، بأن مسيرته كبائع متجول أجهضت قبل أن تبدأ، حيث اقترض مبلغ 2500 درهم اشترى بها عربة و«حمارا»، ثم قصد سوق الجملة للخضر والفواكه بوجدة، حيث ملأ عربته بأنواع مختلفة من الخضر والفواكه وهم منطلقا، وقبل أن يختم دعاءه "يا فتاح يا رزاق" وجد رجال السلطة قد أخذوا العربة وما فيها، ولم تجد عبارات الاستعطاف والاسترحام في استرجاع "رزقه"، فعاد إلى منزله الكائن بأحد الأحياء الهامشية، وتحت جوانحه قنينة خمر، احتساها وهو راكن إلى أحد جدران الحي يندب حظه العاثر... حوادث بين الفينة والأخرى لا يخلو يوم من أيام الباعة المتجولين من مواجهات تنتهي في غالب الأحيان بمصادرة البضاعة وفي بعضها بالجر نحو مركز الشرطة، فالمواجهات مع أصحاب المحلات التجارية متواصلة حيث يرفض هؤلاء عرض أولئك لسلعهم في واجهة محلاتهم فهم لا يريدون منافسا غير شرعي لتجارتهم، سيما وأنهم يتكبدون مصاريف طائلة من ضرائب وأجرة العمال وغيرها، لذا يقول بعض الباعة المتجولين بأن بعض أصحاب المحلات التجارية على مستوى "طريق مراكش" وسوق "سيدي عبد الوهاب" يحرضون أصدقاءهم من الشرطة والقوات المساعدة لإجلائهم بعيدا ومصادرة بضائعهم، هذه الأخيرة التي لا يستردونها إلا بعد دفع "الضريبة"، أما من يدفع الإتاوة اليومية (10/20 ده) فهو محصن من الإجلاء ومصادرة البضاعة. في الآونة الأخيرة طفت على السطح حوادث من نوع آخر، وأمام ما يعتبره بعض الباعة المتجولين تدخلا في مصدر رزقهم، يعمد الكثير منهم إلى التهديد بوضع حد لحياته بين يدي رجال السلطة، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر قيام شاب بعد مصادرة عربته المجرورة، بالصعود إلى أعلى عمود كهربائي بوسط المدينة مهددا بالانتحار قبل أن يعدل عن ذلك بعد تدخل رجال الأمن وبعض المواطنين الذين حجوا إلى مكان الواقعة لردع ذلك الشاب عن تنفيذ تهديده. كما قام آخرون في مناسبات متفرقة، كرد فعل على مصادرة بضاعتهم من قبل السلطة، بضرب أنفسهم بواسطة آلات حادة (سكين، شفرة...) وإصابتهم بنزيف، وفي حين يعتبر الأمن هؤلاء مجرد لصوص ومدمنين يأتون تلك الأفعال وهم تحت تأثير المخدر، يبدي المواطنون تعاطفا كبيرا معهم سيما وأن ما يكسبونه لا يكاد يسد رمق الكثيرين منهم...