لا تكاد شارة ضوئية في أهم الشوارع الرئيسية لمدينة الدارالبيضاء تخلو من شباب، وحتى أطفال ونساء، يعرضون خدماتهم على أصحاب السيارات المتوقفة إجباريا بسبب الشارة الحمراء.. بعضهم يحملون علبا لمناديل ورقية وآخرون علكا أو معطرات السيارات، وبعضهم يحملون مناديل قطنية لتنظيف زجاجات السيارات من أجل «اقتناص» دريهمات و«مراوغة» شبح البطالة المتربّص بهم.. بدأت ظاهرة البيع أمام الشارات الضوئي باحتشام قبل حوالي عقدين، بعد عرض مسلسل مكسيكي كانت بطلته «روزا المتوحشة»، التي تمتهن -رفقة أطفال فقراء في العاصمة المكسيكية- بيع العلك والمناديل الورقية أمام شارة ضوئية.. ثم انتشرت الظاهرة كالنار في الهشيم لتصبح واقعا ملموسا في جل مدن المغرب.. ما هي الأسباب التي تدفع شبابا، وحتى نساء وأطفالا، إلى البيع أمام الشارة الضوئية؟ وكيف ينظر أصحاب السيارات إلى هؤلاء؟ يشرح لنا رشيد، وهو شاب في بداية عقده الثاني الأسباب التي دفعته إلى امتهان البيع أمام الشارة الضوئية قائلا: «بعد فشلي في الحصول على شهادة الباكالوريا، لم أجد سوى بيع المناديل الورقية أمام الشارة الضوئية حتى «يْحنّ رْبّي».. في البداية كنت أشعر بالخجل والحرج، لكنْ سرعان ما تخلّصتُ من ذلك الإحساس بمرور الأسابيع، بعدما أصبحت أدبّر مصروف جيبي من عملي هذا».. واكد رشيد أن بعض أصحاب السيارات «يتعاطفون» معه ويعطونه ثمنها دون أخذها، وأن أسلوبه الأنيق في التعامل هو صاحب الفضل عليه، ويشرح ذلك قائلا: «أعرض المناديل ولا أتبع أسلوب الإلحاح، لأنّ من شأن ذلك أن يخلق نوعا من الضيق والتبرم لدى السائق». ويصف سعيد، وهو شاب يبيع -بدوره- المناديل الورقية ومعطرات السيارات العمل بالشريف، رغم دونيته قائلا: «أليست هذه المهنة أفضلَ من السرقة واعتراض سبيل المارة؟».. امتهن سعيد البيع أمام الشارات الضوئية منذ أكثرَ من 6 أشهر، وهي «تجارة» تدرّ عليها ربحا وصفه ب«المعقول» والذي يُعفيه من «طلب» المال من والدته، التي تعيله وثلاثة أشقاء آخرين عبر اشتغالها في إحدى الوكالات البنكية كمنظفة. ما يحزّ في نفس سعيد هو أن بعض أصحاب السيارات، ولو على قلتهم، يتعاملون معه ومع باقي بائعي المناديل الورقية بشكل سيّء، وينظرون إليهم نظرات تحمل الريبة والشك، حيث شرح ذلك قائلا: «بمجرد ما نقترب من بعضهم ينهروننا بشكل سيء، كأننا لصوص».. اختار عبد الرحيم تنظيف زجاج السيارات قرب إحدى الشارات الضوئية، التي تعرف ازدحاما، وشرح لنا سبب اختياره هذه المهنة بقوله: «لا أملك المال الكافي لشراء علب المناديل الورقية، لذلك اخترت أن أبدأ بتنظيف زجاج السيارات.. يتعاطف معي بعض السائقين -جازاهم الله خيرا- ويمدونني بدريهمات، بينما يرفض آخرون خدماتي.. ومبدئي في عملي هذا هو احترام صاحب السيارة حتى لا يقع أي شنآن بيننا». وأكد عبد الرحيم أن بعض الأشخاص أساؤوا إليهم بسبب اتخاذهم هذه المهنة سببا لكسب قوتهم، بسبب بعض السرقات التي ينفّذها منحرفون ضد أصحاب السيارات.. وتابع قائلا: «يتخذ بعض الدخلاء من تنظيف السيارات ذريعة لسرقة حقيبة نسائية أو هاتف محمل.. وهو ما أساء إلينا، فكما يقول المثل «حوتة كتخنّزْ شْواري».. هناك شباب لم يختاروا بيع الجرائد أمام الشارات الضوئية بفارق درهم واحد عن سعرها الأصلي.. وأكد شاب يمتهن بيع الجرائد أن كمية الجرائد التي يبيعها توفر له مدخولا لا بأس به. وأكد بعض أصحاب السيارات أن بيع المناديل الورقية أو تنظيف الزجاج أو العلك أفضلُ من لجوء هؤلاء الشباب إلى السرقة، لكنّ هذا لا يهدم حاجز الثقة بين الاثنين.. وصرّحت فاطمة الزهراء قائلة: «أقوم بإغلاق النوافذ وأبواب السيارة بشكل جيد، وخاصة أمام أي إشارة ضوئية بسبب هؤلاء الباعة، لأنني لا أعرف نواياهم الحقيقة: هل هي البيع الشريف أم التخطيط للسرقة؟».. وأضافت أن بعض الباعة يعرضون خدماتهم بشكل لبق، لكنّ بعضهم يتصرفون بطريقة عدوانية وسيئة، حيث إنك إنْ لم تشتر منه يبدأ في الإلحاح، وقد يصل به الأمر إلى الشتم ونعتك بأقدح الصفات..