يعتبر كراج «علال» والمركز التجاري لحفاري, المتواجد بشارع محمد السادس بالدارالبيضاء,من أقدم الأحياء التجارية شيوعا في المغرب،حيث يحج إليه الباعة من كل مدن المغرب ، بغية اقتناء السلع التي اغلبها عبارة عن ملابس متنوعة، لجميع الأعمار، حيث تعرف المنطقة حركة غير عادية، تبتدئ من فجر كل صباح وتنتهي مع شروق الشمس ،إذ يعرف السوق رواجا يوميا في البيع بالجملة ونصف الجملة والتقسيط أيضا ،إلا أن تجار المحلات الكبرى يعانون من التضييق بسبب هيمنة أصحاب الفراشات أو الباعة المتجولين رغم أنهم مستقرون بشكل دائم ،إذ كشفت مصادر من اتحاد المقاولات والمهن (UGEP) أن حوالي 40 ألف تاجر غير منظم يحلون بهذه المنطقة يوميا ويتضاعف العدد يومي الأربعاء والسبت ... لكن أكثر ما يثار في هذا السوق هو هيمنة النساء كزبائن بالجملة من جل مدن المغرب, ثم كأصحاب» الفراشات أو «لكروصات» اللواتي يملأن جميع الأزقة المجاورة ل»كراج علال «وحتى بعض المحلات التجارية المتواجدة داخل القيصاريات... ما يؤكد أن سيدة اليوم تختلف بكثير عن سيدة الأمس, هو اقتحامها عوالم الرجال،وأصبحت تتحمل أعباء البيوت كما كان ذلك حكرا على الرجل فقط ،نساء اليوم أصبحن ملزمات بتوفير مصاريف ضرورية للإعالة الأبناء أو الأبوين والإخوة أو هم معا ،فهن يرفضن الإتكالية والاستسلام ... فقد كشفت معظم الدراسات والإحصائيات أن معدل تواجد المرأة في القطاعات غير المهيكلة يفوق معدل تواجد الرجل بثلاث أضعاف،هذا ما يؤكد عن أغلب العائلات تتكلف لهن نساؤهن بالقفة أو المصرف اليومي... فبسبب ظروف مختلفة ومتشابهة اخترن بعض السيدات التجارة البسيطة وغير المنظمة .وبعد فشلهن في البحث عن عمل قار يضمن لهن رزق رسمي ،لم يجدن غير «الفَرَاشَة» برأس مال بسيط مادي أو عيني كانت البداية وبقناعة قل نظيرها و قلب ملؤه التضحيات, تجندن لمهمة لا تحتاج لدراسة ولا شواهد بقدر ما تحتاج للصبر الكثير والنفس الطويل وبعض الذكاء لأجل كسب الزبائن,لأن التجارة «شطارة» ولأن في الصبر والقناعة بركة ،اختلفت أعمارهن كما اختلفت ظروفهن، هن في جهاد يومي مع كل سلعة ،حيث يسكنهم هاجس التخلص منها لجلب الأخرى، عناء وتعب يومي ، وحكايات اكتشفناها ونحن نعد هذا الاستطلاع الذي جعلنا نقضي يوما كاملا بزنقة الشمال و الأزقة المجاورة لها ،لنتعرف على ما تختزنه تلك الأحياء, فهي محشوة بأسرار نساء أرغمتهن الظروف على التعايش مع دوامة قد تبدو مملة لكن ليس لهن بديل عنها.... هيمنة النساء على السوق... حينما تدخل سوق «كراج علال» أول ما يثير فضولك هو هيمنة النساء على المكان ، حيث يبعن ملابس الأطفال والرجال والنساء و أخريات يبعن بعض المفروشات و الأغطية ثم لوازم الحمام و الأعشاب الطبية ,أما الفئة القليلة هي من تبيع بعض المأكولات الخفيفة الجاهزة والتي غالبا ما تحضر داخل السوق،أغلب السلع هي بين منتوجات محلية وأخرى أجنبية ,لكن أغلبها من تركيا والصين ... التقينا أحد التجار الكبار الحاج محمد ,الذي قضى أزيد من 30 سنة يبيع في إحدى محلات بيع الجملة, حدثنا متأسفا عن ظاهرة الباعة المتجولين أو أصحاب (لفراشات) « لقد عانينا مع تواجدهم بيننا، الخطير أن الظاهرة في تزايد مستمر منذ أن أقفلت عدة مصانع هنا بالدارالبيضاء بسبب هيمنة السلع الأجنبية على السوق, حيث عمال هذه الشركات والمصانع لم يجدون سبيلا للعمل, غير ملء هذه الشوارع واستغلال الملك العام وبدورهم أضحى تواجدهم يهدد تواجدنا, نحن بسبب تجارتهم غير المنظمة عبرنا عن احتجاجنا بجميع وسائل الاحتجاج, لكن حين هيمنت النساء على السوق (الله يحسن العون ماكاين لي غادي تخرجها الراحة ومادام اختارت خدمة لحلال معلينا إلا نوكل أمرنا جميعا لله) يضيف بحسرة , الآن الحركة ميتة أصبحنا نقفل محلاتنا مبكرا ونترك لهم الشارع مادامت النساء فربحهم من ربحنا ( المهم يربح فينا شي واحد). « «عائشة» تشد الرحال من أقصى الجنوب المغربي نحو كراج علال ... في هذا المحل تأتي عدة «بياعات بالتقسيط» لتقتني السلع من بينهم نساء, تأتي من مدن بعيدة ومجاورة ومن داخل الدارالبيضاء ، بالصدفة وجدنا إحدى زبائنه التي قطعت عمق المسافات قادمة من مدينة وادي الذهب إلى الدارالبيضاء ،أزيد من 2000كلم مسافة غير هينة التي تقضيها السيدة عائشة 54 سنة زوجة جندي متقاعد، وهي قادمة من الداخلة نحو كراج علال، سألناها كم تكلفها هذه التجارة من السفر سنويا, ردت مبتسمة «مرتان فقط ،في بداية شهر شتنبر حيث الافتتاح المدرسي والاستعداد لموسم البرد ،أقوم بأخذ سلعتي التي تلائم ذالك المناخ ،لكن أترك للحاج محمد نسخة من فاتورة تحمل نوع السلعة بالترقيم ،في حالة يكون إقبال حول سلعة معينة من طرف زبائني بالداخلة ،ما علي سوى الاتصال به وأنعت له نوع السلع عبر الرموز المتواجدة في الفاتورة التي نحتفظ بها سويا ،فهو لا يستطيع تذكار زبائنه ،فما بالك بسلعة معينة حينها يبعث بها لي عبر الشاحنات و أنا أحول له سومتها المالية عبر حسابه البنكي ،بيننا تعامل وثقة كبيرة ولله الحمد, لكن حين يبدأ موسم الصيف مثل هذه الفترة, علينا أن أقل الحافلة يومين ونصف بالطريق حتى تنتفخ قدماي، لاختار ملابس الصيف ومن بعد سوف نكرر نفس العملية في حالة احتجت المزيد من السلع، المهم هو أنني ملزمة مع بداية كل فصل أن أكون حاضرة لاختيار السلع بنفسي ،لأنني مرتبطة باحترام بأذواق زبائني التي أعرفها جيدا، والتجارة تشترط الصبر خاصة, وأنها موردنا الحالي الوحيد بعد تقاعد زوجي الذي لم يبق له سوى 1000درهم ويعاني السكري ولدينا 6 أبناء كلهم يدرسون ومتطلبات الحياة صعبة جدا ، مع تواجد أبناء يرغبون في حقوقهم كاملة بما فيها الترف دون أن يراعوا ظروف أبويهم ومداخلهم المحدودة، نطلب لهم الهدايا حتى يوفقون في عملهم لأجل راحتنا وراحتهم....» القيم الإنسانية حاضرة بقوة بين أصحاب الجملة والتقسيط... من خلال تواجدنا بمحل الحاج محمد اكتشفنا أشياء جميلة متعلقة بقيم التضامن, حيث تأتي بعض النسوة التي لا تتوفر على رأس مال مادي فهي لا تملك سوى «لبلاصة» أي المكان الذي تحتجزه لفرشتها حيث تملأها بسلعة سوف يعيرها لها الحاج محمد فهي تختار نوعا معينا بألوان مختلفة ،و رفيقتها الأخرى نفس الشئ حيث سيمكنها من نوع آخر كي لا تنافسها في نفس السلعة ،وكلما انتهت السلع عدن إلى المحل للمزيد ،فأرباحهن مرتبطة بمعدل المبيعات حسب تصريح إحداهن «كلما حاولنا البيع أكثر كلما وفرنا دخلا يوميا لعائلتنا، فأنا اقنع بما هو في رزقي أحاول دائما ألا أتعدى 5 دراهم في كل وحدة وذلك فضل كبير بالنسبة إلي, حيث إن حاولت بيع 20 وحدة على الأكثر في اليوم، وجئت إلى بيتي ب 100 درهم فذلك أسعد أيامي، فأنا لا أتوفر على رأس مال ولا محل، ما أقوم به هو الاستيقاظ مبكرا في اتجاه السوق كي أضمن مكاني الذي من خلاله سأحاول ضمان رزقي اليومي, فأنا أسكن مع الجيران في غرفة مكترية ب 300 درهم بعد وفاة زوجي الذي كان يشغل حارس سيارات ،لم أجد من يساعدني على لقمة العيش, فأبنائي الذكور أحدهم يشتغل حمال سلعة بدرب عمر ومتزوج، بينما الآخر هاجر إلى اسبانيا ،ومن سوء حظه الأزمة لم تترك له فرصة عمل, لازال يعيش على انتظار إعانتنا، وأنا أقطن بالغرفة المكترية مع الجيران أنا وبناتي الثلاثة, إحداهن تدرس في الجامعة والأخريات عاطلات عن العمل, لكن الحمد لله (مرضيات ) خرجت للعمل كي لا يتعرضن لمكروه لم اقدر على خدمة البيوت, فاغلب الناس لا تتقي الله في الخادمات تريد أن تجعل منك (روبو) يقوم بكل الأعمال والشاقة منها دون راحة ،وبثمن بخس يستصغر فيه مقياس تعب الإنسان، أشكر الله على يوم دلتني فيه إحدى جاراتي على هذا الرجل الطيب الذي ما إن تأكد من أوضاعنا الاجتماعية حتى مدنا بيد المساعدة ،من خلال توفير لنا السلع دون شرط البيع وهي الوسيلة الوحيدة التي نوفر بها قوتنا اليومي حتى و إن كانت هناك حملة منع، فبإمكاننا أخذها منه وتغيير الاتجاه إلى حين بيعها ونعود له بثمن المبيعات ،جزاه الله عنا خيرا فهو يوفر «للوليات» فرص عمل تعيش فيها أسرة بأكملها ..» اقتطاعات السكن الاجتماعي جعل العديد من النساء يلجأن إلى التجارة بكراج علال... (أنا متبوعة ب»الطريطا» ديال السكن) مصطلح يتكرر عند معظم التاجرات كلما طالبهن الزبون بتخفيض ثمن السلع اغلب هؤلاء النساء كن يعشن إما بدور الصفيح أو في المباني القديمة بسومة كرائية لا تقل عن 100 درهم من محل مكتري بالورثة, سواء بدرب السلطان أو المدينة القديمة أو درب الطاليان ... إذن نعمة السكن الاجتماعي المستقل، له ضريبة قوية، فهم ملتزمون بتوفير 1500 درهم شهريا حيث يحدد الاقتطاع في 1200 درهم إضافة إلى الكهرباء والماء، الشيء الذي جعل العائلة تخرج للعمل لتوفير هذا المبلغ خارج مصاريف التغذية وأشياء أخرى, بعض العائلات خرجت تعمل بأكملها لمواجهة هذا التغيير الذي طرأ على حياتهم و أخرى يكون في حالة مرض أو وفاة المعيل, اضطرت الأم أو البنت للخروج إلى عالم التجارة و»الفرَاشة» تعمل في كل وسعها لتحقيق ربح يفوق 50 درهما لأجل ضمان مبلغ الاقتطاع أولا بعدها تفكر في ما هو غيره هكذا عبرت إحداهن «إننا نعيش على الهواجس هاجس توفير الطريطا خايفين من البنكا تخرج لينا حوايجنا في الزنقة، و تصدق بايعة الدويرة من فوق روسنا، ونصدقو بلا دار وبلا فلوس هما يعرفو غير الطريطا تكون في التاريخ المحدد،الا ماوجدت ،ماعندهم سوق ،وهذه هي الأسباب لي جابتنا هنا وخلاتنا نفيقو لفجر نأخذو السلعة من الديبوات ونتعذبوا عليها وندوزو النهار كامل مع الشمس باش اللهم نقضيو غير النهار في الزنقة لا نصدقو قاضين معها حتى الليل الله يحفظ...» ممكن أن تسمع هذه الاسطوانة الحزينة ،من معظم التاجرات في زنقة الشمال ونواحيها ،فهم في دوامة الصراع النفسي، من أجل ترتيب الأولويات, خاصة منها الالتزامات الرسمية مع البنوك ،في غياب عمل قار محدد الأجر ،مع عدم إمكانيات تأجيل الاقتطاع أو توفر جزء منه حسب الدخل, هم ملزمون بتوفير المتفق عليه ،رغم ارتباطهم بالسوق فهو مثل الميزان لا يعتدل إلا ناذرا ... في هذا السوق أيضا نساء وفرت لنفسها مكانا خاصا ،لكن ليس لبيع السلع، وإنما لتوفير وجبات غذائية سريعة للزوار ،فهن يقدمن هذه الوجبات عبر معدات تقليدية و أمام الملأ بأثمان مناسبة تنافس المقاهي المجاورة في الأثمان ،كما في الجودة, ربما لأنها تقوم بطهي تلك الأغذية أمام الناس ،بكامل الشفافية تظهر للعامة نسبة النظافة، كما استعمال المواد الطرية، ما شجع الزبائن والتجار على استهلاك تلك الأطعمة... هيمنة النساء في عوالم التجارة غير المنظمة يدل على أن للمرأة المغربية قوة خارقة على التعايش مع جميع المهام أولا،ثم من خلال الاستمرارية يتضح أنها تتميز بالتواصل التجاري والقدرة على إقناع الزبون بحيث نلاحظ أن أغلب الرجال قدموا استقالاتهم من جوارهم حيث تجد أغلب السلع المنتشرة تقف عليها نسوة في عز الشباب وأخريات أعمارهن تفوق الستين, تأقلمن مع واقع كان حكرا على الرجال حيث يلزم الاستيقاظ مبكرا, فالسيدة التي تأخرت عن المكان هي ملزمة باكترائه من آخر ليس له من مهمة سوى أن يستيقظ مبكرا ويقوم بحجز مكانين أو أكثر لتمريرهم للآخرين بسومة 100 درهم طيلة النهار للمكان ،لكن أغلب النساء لا تحتاج إلى ذلك لأنهن دؤوبات على تنظيم أوقاتهن لأجل تنظيم مداخلهن، حيث أصبحن اليوم يتحملن أكبر المسؤوليات في إعالة الأسر, فأغلب اللواتي صادفنهن أرامل ومطلقات و زوجات المرضى والمتقاعدين وأخريات يعملن لأجل أخواتهن الأيتام بعد وفاة الأبوين، فهو سوق اجتماعي بامتياز تتعايش فيه مختلف الفئات الاجتماعية, سواء من حيث العمر أو من حيث الطبقات، يبقى من واجب المعنيين إيجاد صيغ قانونية لتنظيمه ملائمة مع ظروف تلك السيدات فأغلبهن ضحايا الطرد التعسفي للمصانع المقفلة ولا يعقل أن يقفل أيضا عنهم السوق العمومي ,خاصة و أن الظاهرة توسعت في جل الأسواق المغربية ...