المتطرف متعصب وأناني، يعتبر نفسه المبتدأ والخبر، هو الفاعل وغيره مفعول به أو يجب أن يكون كذلك، هو المضاف إليه والكل مضاف وتابع، وهو بكل ذلك بقدر ما هو عدو الآخرين هو عدو نفسه بالدرجة الأولى، لأن النفس السليمة ليست بصيغة المفرد, بل هي محل التناقض والإختلاف، وما تحبه أبيض في شأن تحبه أسود في شأن آخر. إنه المتكبر يتربص بالآخرين ليوقع بهم وليطحنهم في طاحونة أوهامه المريضة. والمتعصب عدو الحوار والمجادلة، قليل اللياقة والمجاملة، ضيق الأفق والمناورة، لأنه وببساطة متخشب الرؤيا فاقد الحجة والبيان، ولذلك فهو يأخذ ما يريد بالقوة والعنف ولا يهمه حتى استدامة ما يأخذ، لأنه إبن اللحظة شهواني النفس وجداني التوجه والسلوك، ومن ثمة يتبدى متفرق النزوع يريد الشيء ونقيضه، يحب الشيء ويكرهه. هو ذلك الطفل الذي يخبط الأرض عندما لاينال ما يريد، يحطم الأشياء متى منع من مبتغاه. هو بالتحليل النفسي يعاني النكوص والعودة القهقرى في سلم النمو النفسي والذكاء العاطفي، ومن ثمة سهولة استعماله واستخدامه في أغراض لا يعيها، ينفذ كالمسرنم، يدعى ويستجيب لسيد يلهو به تارة في العلن وأخرى في الخفاء. وليس السيد دوما شخصا بل يمكن أن يكون فكرة أو سياقا أو رأيا منحرفا أو موقفا مائلا أو قرارا متحاملا. المتعصب هوياتي الهوى، متشبث بأشجار النسب وأساطير التأسيس والبدايات، نحن أول من... جذورنا تعود إلى... لولانا لهد السد القرى... لولا إبلنا وجيادنا ما انتزعنا السؤدد من السماء... هي ثقافة غواية الطبقات والسباقات والعراك. هي ثقافة العصب والنسب والمدح والهجو والكر والفر. أما الآخرون فمفعول بهم في هزائم الأيام، فإما عبيد أو أقنان أو أعداء يجب إخضاعهم ومتاعهم فيء وغنيمة. وقد يأتي المعتقد ليضفي نوعا من التعميم الكاذب على القرابة لتتخذ دلالات أكثر توسعا لكنها في المآلات تفضي إلى نفس المصير، ما دامت ضرورة معاداة كل من لا يقتنع بنفس المسلم واليقين. يعني التطرف منذ الوهلة الأولى التموقع الثابت في الطرف عند نهاية المسافة، عكس من يوجد في وسطها أو في مسافة نسبية أو متحركة. وهو أنواع، فيه ما هو ظاهر وجلي مثل التطرف الديني، وفيه ما هو خفي مثل التطرف الرافض للدين. فيه التطرف الشديد الذي يمكن أن يصبح إرهابا بأنواعه الفكري واللفظي والجسدي، كما فيه التطرف الخفيف مثل الحدة المزاجية في المواقف الذاتية أو التوجه الوجداني القوي تجاه موضوع معنوي أو مادي مثل الحب والكره وغيره. ولا يعتبر السلوك المدافع عن الذات عند الخطر المحدق تطرفا، أما عندما يكون الخطر غير محدق ويمكن رده باللجوء إلى المجتمع لاسترجاع حق أو دفع ضرر فإن أي أخذ للحق ذاتيا أو محاولة لعب لعبة المنقذ والمقتص للحق يعتبر خروجا عن العدل باعتبار ضرورة احترام المواضعات والأوفاق كلحمة ضرورية لوجود المجتمع برمته. وكما التطرف أنواع في التصنيف فهو متحرك ويوجد دوما في سياقات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، فهو يمكن أن يكون رد فعل أو تبرير لموقف أو ميل أو تعويض عن نقص أو تعبير عن حاجة، أو استجابة دفاعية لصد مثير داخلي أو خارجي، كما يمكن أن يعبر عن كارثة تهدد الكيان. وبذلك كله فهو قد يبدأ بسيطا ثم يتعقد ليصبح عضالا مثل أي مرض لم يعالج في أوانه، كما يمكن أن ينكمش إذا عولج بما يلائم كل حالة. بكل ما سبق يعتبر التطرف حالة اجتماعية، وإن كانت غير سوية فهي ملازمة للناس في كل مكان. من المفيد إذن معرفة أحوال التطرف وتجلياته وسلوكات المتطرف وعلامات حالات التطرف، كما هي مفيدة تخصصات البحث في علم الأعراض. ومن هنا يمكن اعتبار البحث في التطرف والمتطرفين علما تجريبيا يعتمد الحالات الخاصة من أجل التعميمات النموذجية عودة إلى كل حالة على حدة. التطرف وإن كان أحيانا يستطيع التقية والإخفاء فهو غالبا مرتبط بالتشنج والاضطراب وذلك لسبب بسيط وهو أن صاحبه يعيش حالة غير طبيعية يستحيل فيها العيش التلقائي السليم. فالمتطرف في قرارة نفسه غير مرتاح مع أفكاره، وأحيانا يكره الأفكار هذه، لكنه مضطر لتبنيها حتى يبحث عن ملاءمة غير سوية مع ذاته. هو إحباط إذن تجاه شيء أو فكرة. إحباط عميق لا يسوى بالتفاوض مع الحاجة أو محاولة إبدالها أو البحث عن أحسن منها تصعيدا، كما أخبرنا التحليل النفسي عن ذلك في آليات التعويض والتصعيد. المتطرف لا يستطيع التعويض إما لقصر النظر أو الضغط الشديد للحاجة، كما لا يستطيع التسامي لأن روحه مكبلة بالشيء المفقود إلى حدود الفناء، إن منطق المتطرف تمامي، إما ينال ما يريد كله أو يستغني عنه تماما لاتقاء ألم الفقدان واستبداله بألم العفة الكاذبة. فيصبح الغير أشياء يريد أن تستجيب لنزواته وإلا فهي خصم يجب محاربته أو تحييده أو إنكار وجوده. هي أعراض النقاوة والطهارة والتعفف، والتي يمكن أن تزول بشكل فجائي وفجائعي متى توفرت ظروف العب في المفقود. المتطرف علبة سوداء تخبرنا بما يحدث في الحقل أو الحقول التي يرتبط بها، وأحيانا بدقة مدهشة تتبدى في الأفعال الميكانيكية المنفعلة للمتطرف وأحيانا تنام حتى تستيقظ في مناخات ملائمة. العنصرية والإقصاء والأنانية علامات التطرف المنبهة إلى خلل عميق في الحياة النفسية والاجتماعية للفرد والجماعة، وقد يتعمم الأمر إلى هذيانات جماعية تعبر عن تفوق كاذب فطري وطبيعي للذات وعن نقص مشابه الفطرية والبداهة للآخر. وإذا لم تحتك الجماعة بالأخرى وإذا لم يرتفع تصور العالم نحو الكونية استحالت القيم والسلوكات إلى مسلمات ومرجعيات منها يستقى التصرف والحكم والتقويم. أما الحقول التي يشتغل فيها وبها التطرف فهي تلك التي لا تحتمل الاستدلالات القطعية مثل الدين والسياسة والحب، مجالات الميل المستحيل إلى يقين والظن المقصي للظنون الأخرى طمعا في النجاة الأخروية أو السلطوية أو التقدير. هي المجالات التي يجب أن يعتنى بها منذ الطفولة المبكرة, حيث ضرورة تعلم ضرورة الإتكاء على ميل ما لكن مع الاعتراف أيضا بضرورة تواجد أشكال الميل الأخرى منذ الذوق البصري حتى اختيار الرفيق. المتطرف إنسان غير سعيد، لا يملك صورة جيدة حول نفسه، لم يتمتع بما فيه الكفاية، لم ينل حظه من الفرح في الطفولة خاصة، والفرح في عمقه غير مرتبط بما هو مادي بقدر ما هو نوع من الشبع والارتواء بالحقوق الأساسية، الحرية والتعبير خاصة. إذ عبر الحرية يشعر المرء بذاته، بإخفاقاتها ونجاحاتها، بنقط القوة كما بنقط الضعف، يحسها ويشعرها ويعيها حق الوعي. و بالمحاولة والخطأ والتوجيه والقدوة يبني الإنسان شخصيته لبنة لبنة. وعندما يفقد الإنسان حريته يفقد فرحه واعتبار ذاته. كما أن عدم التقدير سواء من الذات أو الآخرين يمكن أن يجعل الإنسان يبحث عنه ولو في بدائل وهمية «عقدية» ودعوية. وبذلك يعود المتطرف إلى محتقريه ونازعي حريته ورأيه فاتحا عنيفا. إن « اليقين» الذي يبديه المتطرف ليس سوى تعبير عن سنوات من ضياع المعنى وضآلة الشأن. اليقين في المعتقد ومرجعيات القيم والسلوك، اليقين بصواب مسلك الجماعة وضلال ما دون ذلك. اليقين حتى قبل الفحص، حتى قبل المقارنة وذلك عبر استعلاء مقيت ينبئ عن غباء مقزز ونزول إلى درك عدم القدرة على التعلم واكتساب المهارات والمعارف الجديدة لأنه وببساطة يفقد المتطرف حواسه التي أقفلها بالتعصب والأنانية. المتعصب لا يعرف زمنا اسمه الحاضر، كل شيء هيء سلفا وبإتقان لا متناه لا يترك للاجتهاد فرصة، وكل شيء يهيأ للمستقبل المأمول عندما يبدل الليل بالنهار والظلمات بالنور، لا مساء ولا فجر، الزمن ظلمات تنتظر زمن العدل، وكما هناك من يعمل على إبقاء «الظلمات» وهناك من يعمل على إحلال «النور». سلوك المتعصب الحاد يشبه سلوك حيوان جريح في كبريائه ومستعد لتحطيم كل من يعارضه، وربما ذاته، ومن هنا استعداده الكاميكازي، لأنه وببساطة لا يتصور حياتين، ليس هناك سوى حياة واحدة مقبولة ومنطقية وإما الموت. يرفع المتطرف شعار النقاء وعدم الاختلاط، يخاف من التعدد ويهرب دوما نحو الواحد، وهو بذلك يحمل تصنيفات وترتيبات ثابتة تمتح من مبدأ الهوية وتهرب من التناقض، يعتمد الثالث المرفوع ويلعن كل الفلسفات الهرقليطية المذكرة بدوام الحال من المحال. إن عالم المتطرف لا يوجد إلا في ذهن من يحمله، لأنه وببساطة مهما كانت التعريفات والتحديدات والتبويبات دقيقة فمآلها المنهجي المراجعة ما دام كل شيء يسبح في نهر الزمن، وما دام الإنسان مجزأ القدرات والتوجهات. أما الخطير في سلوك المتطرف فهو قدرته الفائقة على الفعل وطاقته الزائدة المنبثقة من النقص نحو التعويض ومن ثمة محاولاته الاستنفار والاستقطاب والتجييش بالوعد والوعيد وبصناعة شبكات الولاء وأشكال العصب التي قد تفرق بين الحبيب والحبيب بالمسلكية «المناضلة» نحو عالم «أفضل» تمحي فيه الحاجة ويموت فيه الحرمان. وعندما تتشكل الجماعة ينشأ لها إسم وعنوان وتقام له رموز وأسوار تحميه مرة ثانية من الاختلاط، وإن دعا الأمر دعوة إلى التصفيات المعنوية أو المادية. كل الحروب المهاجمة بدأت تطرفا، تطرفا في الدين أو القومية أو في العصبية، وكل شعاراتها مستساغة لحاملها ومبررة لتصفية الآخر الذي لا يشبهني. منهجيا يعتبر البحث في تلك الطاقة المحرضة، منبعها، أسبابها، أشكالها ومظاهرها من القضايا التي تفيد الفهم وإدراك معنى التطرف. إن المرجعيات، كل المرجعيات، العقدية والاجتماعية ما دامت تعبر عن مطامح بشر متعدد ومعقد ومتغير لا يمكنها إلا أن تكون هي أيضا متعددة ومتغيرة وقابلة للقراءات والتأويلات. ومن ثمة احتمال أن تقول جماعة ما هذا هو معنى هذه المرجعية وأن تختار جماعة أخرى معنى آخر، ومتى اتسعت رقعة الوفاق معاشا أو ثقافة قبل التأويلين أو أكثر. لكن ما أن يضيق حال التعايش اقتصادا أو بدخول شيطان ما في تفاصيل توسيع الخرق، ينزوي هذا الطرف في تأويله واجدا في الأصل مبرراته ولو بلي الدلالات، فيخرج مهديون من قمقم الأحقاد ويقودون بشرا أرهقه البحث عن ثأر ما ولو على الذات. يبدو المتطرف للجهلة وضعاف العقول حصيفا وقويا، لكنه أمام المتفحص ليس سوى إنسانا سخيفا متعجرفا لا يستطيع أن يضع قدراته المعرفية والعقلية بل والبدنية أحيانا موضع شك وتساؤل. إن الفرق الجوهري بين المتنطع واللبيب هو أن الأخير مراجع للقناعات ومحترم للناس ولقدرتهم على التمييز ولاختلاف أحوالهم، فإن تبدى بعضهم ضعيفا في آن فهو قوي في آن آخر ومن ثمة التماس الأعذار والتسامح، أما المتطرف فهو سليط اللسان نازع لسيفه من غمده باستمرار ولوكان هذا السيف صدئا متكسرا. ومن يعبث بالمتطرف؟ إنه المستعمل والمحرك لكريات البليار عن بعد، يضرب الخضراء بالسوداء بالصفراء لتدخل الحمراء في الثقب. المستعمل هو المقتات بالمتطرفين في غاب الجهل والإنفعال والغفلة والبؤس. من هو المستعمل؟ المستعمل متطرف من نوع آخر، هو حيوان من الفصيلة الثعلبية، إذا كان المتطرف كلبا ينبح ويهش وينهش حماية لحمى وهمية، كلبا «شجاعا»، على الأقل في الصورة والمظهر، فالمستعمل حيوان جبان يقتات من الجيف. يقضي حياته في نصب الفخاخ والشباك، يجيش ويسيل لعاب صغار «المستنفرين من أجل الإيقاع بالطرائد والفرائس. صحيح أن الحياة كل الحياة غلبة ومدافعة، ابتداء بالإستعداد البدني حتى معدل الذكاء، وصحيح أيضا أن دينامية الجماعة تحتم استراتيجيات الهجوم واستراتيجيات الدفاع، غير أن حدا أدنى من أخلاق التعاقد أصبح ضروريا حتى لا يتقهقر الإنسان نحو البهيمية وقانون الغاب. مما سبق يمكن أن نتحدث عن عوامل التعصب والتطرف كما يلي: 1_ عوامل تنشوية: عدم التمتع الكافي بالحرية والإحترام؛ التدليل أو التشدد؛ غلبة الغرائز والاندفاع نحو اللذة؛ قمع الغرائز وعدم الارتواء؛ عدم احترام الآخر 2_عوامل إدراكية تعلمية: قلة التمرن على التفكير وقلة التعود على إعادة النظر؛ عدم التدرب على احترام الخطأ؛ قلة الإصغاء 3_عوامل وجدانية: الخوف؛ العدوان 4_عوامل سياقية: لحظات التحول؛ صدف نجاح مشاريع؛ صدف إخفاق؛ أنوميا؛ انحراف؛ اجرام * أستاذ السوسيولوجيا والأنثربولوجيا جامعة مولاي اسماعيل - مكناس