الفاعل السياسي المنتخب ، بادر قبل نهاية سنة 2013 باتخاذ إجراء احترازي سريع، لضبط نفقات الدولة ، بإصدار أمر حكومي للمشرفين على قطاعات وزارية معنية ( تحظى ،كما هو معلوم ، بحصص مهمة من ميزانية الاستثمار ) بالتوقف عن إصدار أي أداءات ، و تأجيلها ولو مؤقتا إلى مطلع السنة الجارية ، حتى لا يؤثر ذلك على مستوى الميزانية العامة ، فيفاقم مرة أخرى من العجز المالي فتدور الدائرة ، و تقع نفس الأزمة الاقتصادية التي هزّتها السنة الفائتة. هكذا إذن بتوقيف تنفيذ صفقات ميزانية الاستثمار، و تأخير الاداءات بالنسبة إلى المقاولات التي تتعامل مع الدولة ، تحاول الحكومة الملتحية في نسختها الثانية ، تجريب حيلة جديدة ، لتفادي ما عجزت من قبل عن تداركه ، و أثار قلق المؤسسات المالية الدولية الرقيبة أنذاك عندما في آواخر سنة 2012 ، قامت الخزينة العامة بالتأشير على قرار الأمر بالصرف، المتعلق بنفقات المقاصة ،الذي يتم إعداده من طرف مديرية الشؤون الإدارية بوزارة الاقتصاد و المالية، فحولت مبلغ يفوق خمسة مليارات درهم إلى الصندوق ، وهي مبالغ تدفع للشركات البترولية في إطار نظام المقاصة ، ما خلف أثرا على تدبير احتياطي السيولة المتوفر في خزينة الدولة و من تم رفع عجز الميزانية . ولم تكتف الحكومة المعدلة ( التي التحق بها فريق من حلفاء جدد ، كانوا أعداء الأمس ) بهذه الخطة الإستباقية ، لتفادي مخاطر لن ترضي مُقْرضيها الغيورين.. بل صار بمتناولها الآن ، القيام بمراوغة أخرى تتمثل في تنزيل ، جزافا ، آليات دستورية سياسية محضة ، ستمدها بصلاحيات قوية أمام الخصوم كما حدث فيما سبق. ففي قلب النقاش الدائر بينها وبين المعارضة البرلمانية حول مقتضيات مشروع قانون المالية لسنة 2014 ( و حتى بعد تصويت مجلس ا لمستشارين ضد هذا المشروع و إعادته برمته إلى لجنة المالية بالغرفة الأولى بغية مناقشة أغلب التعديلات التي اقترحها أعضاء المجلس) ، يحق لها في حالة فشل المصادقة عليه بعد القراءة الثانية ، أن تُعجِّل بتقنين مرسوم للمالية قابل للتنفيذ ، متخطية بذلك مطالب الغرفتين ، و متجاوزة لكل اعتبارات كانت توافقية أو استشارية مع ممثلي الشعب ، ستمس في نظرها بتوازن مالية الدولة ؛ لأن ما رد في الفصل 77 من الدستور المعدل واضح يقر للحكومة بأن تسهر على الحفاظ على توازن المالية و أن ترفض ، - بعد بيان الأسباب و الدواعي - المقترحات و التعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان ، إذا كان هذا سيؤدي إلى تخفيض الموارد العمومية ، أو إحداث تكليف أو الزيادة في تكليف موجود إلخ.. فأخذا بالحيلة الاحترازية أعلاه ، زيادة على الهامش المتاح للحكومة الملتحية في اللجوء ، و في أي وقت ، إلى إشهار فصل من الدستور ، بُغية قطع الطريق على البرلمان في ممارسة صلاحياته كاملة كقوة اقتراحية ، يصير من البين و الواضح لنا ، و بصورة مفارقة ، أنها سائرة تنزلق، دون أن تدري، إلى خندق تلك الجهة غير الشعبية المعروفة بانحيازها ، دوما ، لمصالح فئات طبقية ثرية ، و لوبيات ضغط ذات امتيازات خاصة ؛ التي لا تهمها السياسة في شيء ، الّلهم كمجال لخلق سلطة اقتصادية نافذة ،أو كأداة للتلاعب القانوني ، أو كخدمة عمومية مجانية للزيادة في الاحتكار المالي. فمضمون رسالة قانون المالية لسنة 2014 يتلخص في منطق التقشف ، وفي مراعاة التطبيق السليم للتقارير إيّاها ، حتى تكون حكومة الزيادات المسعورة ، عند حسن ظن مدراء صندوق النقد الدولي ؛ فمعروف عن هذا الأخير أنه بتدخلاته المتعجرفة الفجَّة ، يساهم في تدبير الأزمات عبر توفير قروض ضخمة ، لمواجهة عدم الاستقرار المالي الذي ممكن أن تعرف عدة مناطق استراتيجية في العالم. يُحَيِّنُ هذا أولا بسد الخصاص الذي ستعانيه بُنُوكُها المركزية ؛ و ثانيا بفرض الاختيار التنموي الذي يدعو إليه، ويحث على اتباعه ، بجيش من المراقبين المتنقلين عبر القارات، فيمنح دوما الأولوية لقوى السوق ، و يطالب بالحدّ ما يكفي من التدخلات العمومية للدولة ، ويُقوِّي فكرة انعاش المؤسسات الداعمة للمنافسة الحرة و المقاولات الخاصة . ولترجمة هذه الأولويات و مَغْرَبتُها محلّيا و بدهاء ، رأينا مؤخرا ، كيف دافع رجل المال و الأعمال الطموح جدا ، و الذي يتولى حقيبة وزارة الصناعة و التجارة و الاستثمار من داخل قلعة الحكومة عن رفع الدولة يدها من مجال الاستثمار - هكذا ..- و الاقتصار فقط على لعب دور المُقَنِّن ، و ضمان التوازنات بين الفاعلين، و مواكبتهم من بعيد و بحياد. وللذكرى لعل الذكرى تنفع المُدخرين ، فالحكومة تستميت للحفاظ على الخط الائتماني المفتوح لفائدتها من طرف الصندوق الدولي ، المقدر ب 7 مليارات من العملة الصعبة ، و كذلك لاطمئنان الأوساط المالية الدولية و المستثمرين الأجانب . و تعمل بحرص على تنفيذ وصايا هذه المؤسسة المالية العملاقة ، المتمحورة أساسا حول خفض العجز الموازناتي في الميزانية العامة ، بتقليص الإنفاق العمومي ومحاولة اصلاح صندوق المقاصة ، جذريا ، في انتظار إلغائه بالمرة. فمسلسل تخفيض النفقات بقى على مستوياته المعتادة قياسيا ( نفقات التسيير التي تضم نفقات الموظفين و كتلة الأجور و المعدات ..) إلا ان تسديد نفقات الدين الداخلي خصوصا كانت مرتفعا بالمقارنة مع الدين الخارجي و كل التقارير الإخبارية الداخلية تؤكد هذا . و هذا يعني مما يعنيه - و يا للمهزلة -- ان المستفيد الأكبر من هذه الأموال، التي تسددها الدولة ، هو المؤسسات المالية ، من بنوك و شركات التامين الكبرى و مستثمرين ماليين ناشطين في البورصة ، فالفائدة و الحصص الكبرى تعود أخيرا لرأسمال المضاربات، و لجماعات تَكَتُّلِية مهيمنة أصلا على القطب المالي . و النتيجة الكارثية المتوقعة بعدها ، أن المشروع الإستثماري للدولة في القطاعات الإجتماعية الهشّة سائر في الإندحار . و إذا سلمنا بهذا المعطى أن الاستدانة من الخارج ترتبط ارتباطا مباشرا بعجز الميزانية ، كما يصرحون ،و أن تقلص الموارد و ارتفاع حجم النفقات ، هما السبب وراء حصول هذا بشكل مفرط ، مما حتم اللجوء إلى الأسواق المالية. لكن السؤال القائم حتى بعد حكومة عباس الفاسي ، أين تُصرف هذه الأموال المقترضة بالتحديد و هل تذهب فعلا ، في اتجاه مثمر يحقق المردودية المطلوبة ،بصورة تجعل الدولة تنشط اقتصادها وتتمكن من إعادة الديون ، بعد توظيفها على الوجه الذكي المطلوب ، أما أن الأمر كله لتغطية نفقات التسيير ؟؟. أظن أن جزءا من الجواب موجود فيما بيناه أعلاه ، و الباقي مرتبط بقضايا شُحّ السيولة و التجاء الأبناك إلى الخارج للاقتراض ، عبر عملية إصدار سندات غير سيادية و لأول مرة في تاريخ إدارة الأموال الحرة بالمغرب. * كاتب- باحث