استضاف مكتب «المساء» بالرباط كلا من إدريس الأزمي الإدريسي، الوزير المنتدب لدى وزير الاقتصاد والمالية المكلف بالميزانية، والخبير الاقتصادي محمد الشيكر، وأستاذ الاقتصاد جامعة الحسن الثاني بالمحمدية عثمان كاير، لمناقشة الوضعية الاقتصادية بالمغرب، وعلاقتها بقرار الحكومة تخفيض نفقات الاستثمار بقيمة 15 مليار درهم، الذي أثار الكثير من الجدل، وجر على الحكومة انتقادات سواء من طرف المعارضة أو الأغلبية التي تبرأت بعض مكوناتها من القرار واتهمت العدالة والتنمية بالانفراد باتخاذه. كما ناقش ضيوف «المساء» عددا من المحاور، من بينها التهرب الضريبي وإجراءات الحكومة من أجل محاربته، وإصلاح صندوق المقاصة ، ومدى استقلالية الاقتصاد الوطني عن تعليمات صندوق النقد الدولي. - نبدأ مع قرار الحكومة الأخير بتجميد 15 مليار درهم من نفقات الاستثمار. ما هي دواعي اتخاذ هذا القرار؟ الأزمي: قرار تخفيض ميزانية الاستثمار بقيمة 15 مليار درهم اتخذ منذ شهر مارس الماضي لعدة اعتبارات، منها واقع المالية العمومية، والنتائج النهائية لسنة 2012، وكذا النتائج الأولية للربع الأول من سنة 2013، إذ أنهينا سنة 2012 بعجز قيمته 6,7 في المائة من الناتج الداخلي الخام دون احتساب نفقات الخوصصة، باعتبارها نفقات استثنائية. وانطلاقا من سنة 2009 بدأنا نفقد سنويا نقطة من الناتج الداخلي الخام، علما أن الميزانية كانت تعرف فائضا سنة 2007، غير أنه بعد سنة 2009 أصبح لدينا منحدر متفاقم وخطير للمالية العمومية. ولشرح أسباب هذا التفاقم لا بد من الإشارة إلى أن الأزمة الاقتصادية العالمية كان لها أثرها على الاقتصاد الوطني، وقد تم اتخاذ مجموعة من القرارات في السابق تتعلق بدعم الطلب الداخلي ودعم الاستثمار العمومي، مما أدى إلى تزايد وتسارع في النفقات، وخلال المرحلة الفاصلة بين سنتي 2009 و2012 تزايدت النفقات بمعدل 37 في المائة، في حين لم تتزايد الموارد إلا ب15 في المائة، فكانت النفقات أكثر من ضعف الموارد، وقد كانت هناك سياسة توسعية للتجاوب مع التأثيرات الخارجية، وانطلاقا من الفائض المسجل خلال 2007 و2008، ولاسيما على مستوى الموارد كانت النتائج الضريبية محددة من حيث السياسة الضريبية التي اتبعت فيما بعد، علما أننا وصلنا سنة 2008 إلى قمة الموارد الضريبية (167 مليار درهم)، وهذه القمة لم نسترجعها إلا خلال سنة 2012، وهي نتيجة غير مفسرة من الناحية النظرية الاقتصادية، لأنه لا يمكن أن يكون هناك تسارع للموارد كبير وبعيد عن النمو الاقتصادي، علما أن وتيرة النمو الاقتصادي كانت في حدود 4 أو5 في المائة، حيث تزايدت الموارد ب22 مليار درهم ما بين سنتي 2005 و2007، كما تزايدت ب32 مليار درهم حلال سنتي2007 و2008، وهذا ما أدى إلى اتخاذ قرارات جبائية في اتجاه دعم الطلب ونهج سياسة توسعية، حيث خفضت الضريبة على الشركات من 35 إلى 30 في المائة، وتم تخفيض الضريبة على الدخل، وهذا ما أثر على الموارد، حيث إن الموارد لم تكن هيكلية بل ظرفية، ولاسيما موارد 2008، مما أدى إلى نفقات هيكلية، وهذا ما أدى إلى هذه الحال. - هذه المعطيات كنتم على دراية بها قبل وضع قانون المالية، فهل يمكن الحديث عن سوء تقدير من قبل الحكومة، وأنها لم تقم بمجموعة من الاستثمارات فاضطررتم إلى حذفها؟ الأزمي: حجم الاستثمارات المرحّلة لا يمكن معرفته بدقة خلال وضع تقديرات قانون المالية، لأن الاستثمار بطريقة التسيير الجديدة لا يوجد فيه الآمرون بالصرف لوحدهم، بل هناك آمرون مفوضون بالصرف، فعلى المستوى الوطني يوجد 1500 مركز تدبير وآمر بالصرف، وكل واحد يقوم بتنزيل نفقاته بطريقته، ويلزمه وقت لذلك، فوضعية الترحيل لا تعرف إلا في نهاية شهر فبراير. لقد كان تأثير حجم المرحّل على عجز الميزانية قليلا في السابق، ولكن عندما تضاعف حجم المرحّل ما بين سنتي 2008 و2013 وبلغ 21 مليار درهم أدى إلى وجود مشكل. إن النتائج الأولية للربع الأول من سنة 2013 بينت أن هناك تفاقما للعجز وصل إلى 6,7 في المائة ، وسيصل إلى 8 في المائة إذا لم نتخذ أي إجراء. وإلى حدود نهاية شهر مارس 2013 بلغ عجز الميزانية 17 مليار درهم، إذ هناك تراجع للضريبة على الشركات بلغ تقريبا 3 مليارات و300، وهناك تسارع لوتيرة الأجور ووتيرة الاستثمار. أمام هذا الوضع، إذن، كان لا بد من اتخاذ هذا القرار. - نود معرفة رأي الأساتذة الحاضرين في الأسباب التي ساقتها الحكومة لتبرير اتخاذ مثل هذا القرار؟ الشيكر: أعتقد أن تخفيض نفقات الاستثمار أكثر من 15 مليار درهم يجعل الحكومة أمام مشكل عويص لأنها قدمت وعودا للمواطنين، كما أنها لن تنجز حوالي 54 في المائة من الاستثمارات من الميزانية، أضف إلى ذلك أن هناك استثمارا غير مراقب ولا يدخل في إطار الميزانية، وكنت أتمنى لو تشرف الحكومة، إلى جانب البرلمان، على كل الاستثمارات التي تتم خارج الميزانية، وكان يمكن أن يكون هناك حل. الملاحظ أن هناك تكبيلا لأيدي الحكومة، لأنها تتحكم فقط في السياسة المالية العمومية، بينما السياسة النقدية موكولة إلى بنك المغرب المستقل عنها وعن مراقبة البرلمان، بينما نجد أن السياسة النقدية في بعض الدول مثل اليابان وأمريكا هي التي تساعد السياسة المالية العمومية، لذلك لا بد من الربط بين السياسة المالية العمومية والسياسة النقدية. إضافة إلى ذلك، هناك شروط مفروضة على المغرب، وما يطلب منه حاليا هو ما كان يطلب من الاتحاد الأوروبي وكأنه دولة متقدمة، لذلك على الحكومة أن تفكر في حلول إبداعية، تجعلها تتخلص من هذه الشروط والإكراهات التي لا تسمح بتطوير اقتصاد البلاد، كما أن هناك عجزا هيكليا وعجزا ظرفيا، لا بد من تحديد نوعيتهما. كاير: أعقد أن الأمر يتعلق بإشكالية المالية العمومية، على اعتبار أن المغرب يحصد نتائج الإصلاحات المؤجلة في عدد من المجالات، والتي جعلت مجموعة من التخفيضات والإعفاءات الضريبية تنمو بشكل كبير دون نمو مماثل لمداخيل الدولة، مما جعل النفقات الجبائية تصبح خارج التحكم، وهذا ما جعل الحكومة أو الدولة المغربية تجد صعوبة في التحكم في الإنفاق العمومي، وهذا شيء خطير. كما أن المغرب أصبح رهين نمط استهلاك المواطنين والفاعلين الاقتصاديين، وبالتالي فالدولة لا يمكنها أن تتحكم في استهلاك المحروقات أو المواد المدعمة، إذ كلما ارتفع الاستهلاك ارتفعت نسبة الدعم. إن الحديث عن المالية العمومية لا يمكن أن نفصله عن أزمة الاقتصاد الوطني المتسم بالهشاشة البنيوية، كما أنه مرتبط بشركاء اقتصاديين مركزيين وأساسيين كالاتحاد الأوروبي، وهو مرتبط أيضا بعوامل من الصعب التحكم فيها. كل هذه المعطيات تجعل مداخيل الدولة ونفقاتها في حالة ارتباك. كما لا يجب أن ننسى أن هناك اختلالا في النسيج الاقتصادي، والدليل على ذلك ما صرح به وزير الاقتصاد والمالية، الذي قال إن 2 في المائة من الشركات هي التي تصرح بالضرائب، في حين تصرح 70 في المائة أنها تعاني عجزا، إضافة إلى الاختيارات المذهبية المتناقضة للحكومة، فمثلا اتفاق أبريل تضمن إجراءات متناقضة، فهناك رفع للأجور، وفي نفس الوقت إجراء التوظيفات، وهذا يبين قصر النظر في تدبير المالية العمومية. غير أن المشكل لا يقتصر فقط على الحكومة الحالية، بل على الحكومة السابقة أيضا، مما يجعل الحكومات تنتج تحملات طويلة الأمد من أجل حل معضلات قصيرة الأمد. ويمكن القول إن الحكومة السابقة تجاهلت الوضعية الاقتصادية، غير أن الحكومة الحالية أفرطت في تفاؤلها بخصوص الوضع الاقتصادي على المستوى العالمي. وأنا شخصيا أرى أنه لا يوجد متغير استراتيجي كبير حدث منذ نونبر مع الشركاء الاقتصاديين يستوجب اتخاذ قرار تخفيض ميزانية الاستثمار، لكن ما حدث هو أن الحكومة اكتشفت أن التحويلات المالية من السنة الماضية كانت كبيرة وتضخمت وصارت مشكلا، رغم أن الخبراء كانوا قد حذروا الحكومة من التأخير على التصويت على قانون المالية، الذي عرف تأخرا على مستوى التطبيق والتنزيل. - كانت هناك انتقادات من قبل المعارضة تقول إن الحكومة لم يكن من حقها الانفراد بهذا القرار، بل كان عليها اللجوء إلى البرلمان. ما تعليقكم على ذلك؟ وما هي المشاورات التي أجرتموها؟ الأزمي: القول بأن هناك متغيرا واحدا يتمثل في الاعتمادات المرحلة، وبأنه هو الذي أدى إلى هذا القرار، أمر غير صحيح، كما أن القول بأن تأخر المصادقة على قانون المالية كان وراء هذا الترحيل غير صحيح أيضا. وللتوضيح، فإنه بالرغم من تأخر المصادقة على قانون المالية فقد أنجزت 48 مليارا ونصف مليار من الاستثمار، في حين كان مقررا فقط 45 مليارا، أي بزيادة 3 مليارات. هناك، حقا، اختلاف حول نوعية العجز، وقد وصلنا، فعلا، إلى عجز «قبيح»، وخلال سنة 2011 و2012 أصبح الرصيد العادي للميزانية سالبا، إذ أصبحنا نمول النفقات العادية بالقروض. وبالرغم من أننا اتخذنا قرار تخفيض 15 مليار درهم من نفقات الاستثمار، فإننا سنبقى في نفس مستوى الإنجاز مقارنة بالسنوات الأخيرة، أي ما بين 62 و65 في المائة، وما سنربحه فعليا هو نقطة من الناتج الداخلي الخام. كما أن التخفيض لا يعني إلا الوزارات، أما المنشآت والمؤسسات العمومية فلن تمس. الجماعات المحلية هي الأخرى خارج القرار، ولا بد من الإشارة إلى أن الحكومة تتحكم في المنشآت والمؤسسات العمومية. إن القرار الذي اتخذته الحكومة جاء نتيجة تفاقم العجز غير المقبول وغير المبرر من الناحية الاقتصادية، بينما تم الحفاظ على حجم الاستثمارات بالنسبة للمؤسسات والمنشآت العمومية، التي أنجزت فعليا استثمارات بحجم 77 مليار درهم، مقابل 5,69 مليار درهم خلال سنة 2011، رغم التأخر في الموافقة على ميزانية هذه المؤسسات، ولا بد من الإشارة إلى أنه خلال شهر ماي لم تجتمع عدد من المجالس الإدارية، في حين عقدت هذه السنة 99 من المجالس الإدارية للمؤسسات اجتماعاتها، بحكم أن الحكومة كانت جديدة. ولا بد من الإشارة، أيضا، إلى أن هناك تفاعلا بين السياسة النقدية والمالية العمومية. فبنك المغرب له استقلالية، لأنه إذا لم تكن السياسة النقدية تتمتع بالاستقلالية، فقد يشكل ذلك خطرا على البلاد، وبالتالي فهذا الوضع مهم للاقتصاد الوطني. ورغم هذه الاستقلالية فقد كان هناك تفاعل بين بنك المغرب والحكومة حول هذه الظرفية، ويؤشر على هذا ما خلصت إليه اجتماعات مجالس بنك المغرب، سواء فيما يتعلق بسعر الفائدة المديري، أو فيما يتعلق بضخ السيولة في الاقتصاد الوطني والتحكم في التضخم. كما كان هناك تفاعل من قبل الحكومة، لأن العجز له تأثير على السياسة النقدية، وهو يؤدي إلى مزيد من المديونية، وبالتالي سنصبح أمام الدورة الهالكة للاقتصاد الوطني. إن صندوق النقد الدولي هو الذي يقدم للعالم بأسره التوقعات الاقتصادية، خلال دورة أبريل، وبالتالي فالظرفية أصبحت صعبة، وحتى آليات العرض والطلب لم تعد وحدها تحكم، بل هناك أمور أخرى. فمن منا يستطيع أن يشرح كيف وصل سعر البترول إلى 117 دولارا في بداية السنة، في الوقت الذي يقول العالم بأسره إن هناك حالة من الانكماش وارتفاع نسبة البطالة؟. هذه البضاعة التي ليس عليها طلب تصل إلى 116 دولارا! إذن هناك محددات أخرى تتدخل في السوق، وتجعل هناك ارتباطا بين التقديرات والتوقعات. طبعا، تبقى التوقعات والتقديرات بالنسبة إلينا مقبولة جدا بحكم أن اقتصادنا أو لوحتنا الاقتصادية مقروءة أكثر من دول أخرى، لكن رغم ذلك، تظل هذه المتغيرات كبيرة وكبيرة جدا بالنسبة إلى الاقتصاد الوطني. - تم اتخاذ القرار، لكن كان هناك تبرؤ منه من قبل المكونات الحكومية الأخرى. نريد أن نعرف، من الناحية السياسية، هل تم التوافق بشأنه بين مختلف مكونات الحكومة والأغلبية، أم أنه قرار انفرادي لحزب العدالة والتنمية؟ الأزمي: قرار التخفيض اتخذ داخل الأغلبية ونوقش داخلها، ولم يكن عليه أي اعتراض. كما أنه نوقش واتخذ داخل الحكومة ولم يعترض عليه أحد حتى نكون واضحين، وكي يتحمل كل طرف مسؤوليته. أما بالنسبة إلى المعارضة، فنحن عندما اخترنا المادة 45 من القانون التنظيمي للمالية، اخترنا الطريق الأكثر أمانا من الناحية القانونية، والتي تجيز للحكومة ذلك. لكننا، أيضا، اخترنا أن نذهب إلى المعارضة والبرلمان، لأن المادة 4 تلزم الحكومة بإخبار البرلمان وما يترتب عن ذلك من نقاش ومسؤولية سياسية. الأغلبية والحكومة أخبرتا بالقرار، وقد ذهبنا إلى البرلمان، وكان هناك نقاش في الأسئلة الشفوية واللجان المعنية للمالية في الغرفتين، حيث لمسنا مستوى عاليا من المسؤولية، وكل قرأ القرار من ناحيته وأعطى ملاحظاته، وهذا هو الأساس. إذ في النهاية يجب على الكل أن يتحمل مسؤوليته من الناحية السياسية. كاير: لدي ملاحظة في هذا الاتجاه، فالسجال القانوني الذي طرح بعد هذا القرار سجال محمود. فإذا أردنا أن نقرأ هذا القرار من منظور دستور فاتح يوليوز 2011، يمكن أن نقول إنه قرار غير سليم دستوريا، لكن في السياق الدستوري والقانوني السابق هو قرار سليم. فروح دستور 2011 تعطي مكانة قوية للبرلمان، ولِمَ لا التشاور معه قبل اتخاذ القرار بغض النظر عن المادة 45. ويجب التذكير بأن هذه الواقعة تؤكد على ضرورة التعجيل بإصلاح القانون التنظيمي للمالية، على اعتبار أن الإصلاح الشامل للقانون يجب أن ينخرط في اتجاه تعزيز السلطة الرقابية للبرلمان، لأنه في المنظومة الحالية لازال للحكومة الموقع الرئيسي في تدبير المالية العمومية، والمؤسسة البرلمانية تبقى تابعة ويختصر دورها في التصويت ولحظة مناقشة مشروع قانون المالية، ومن الإصلاحات أيضا منع ترحيل الاعتمادات من سنة إلى أخرى، وإدماج مفهوم البرامج في تدبير السياسة العمومية. الأزمي: انطلاقا من الدراسات التي أنجزناها، يبقى القرار من الناحية الدستورية والقانونية سليما، فالدستور يلزمني بضمان توازن المالية العمومية، والمادة 45 واضحة في هذا الباب. الشيكر: لاحظنا خلال السنة الحالية تساقطات للأمطار، ونتمنى أن تكون 15 مليار درهم قد جمدت فقط مؤقتا، وأن يتم إرجاعها خلال الشهور المقبلة، لأن الملاحظ أن الاقتصاد المغربي ليس هشا فقط، ولكنه معقد، فالرفع من الضريبة يدفع الشركات إلى التهرب، في الوقت الذي يشكل القطاع غير المهيكل لوحده (خارج الفلاحة) 40 في المائة من الناتج الداخلي الخام، ويشغل مليونين و500 ألف، فكيف يمكن التحكم في هذا القطاع؟ ثانيا، عندما أسمع كلام المعارضة فيما يخص نسبة النمو أضحك، لأن الحكومة لا يمكن أن تتحكم في نسبة النمو، بحكم أن أيديها مكبلة على مستوى المالية العمومية، وإذا لم تنزل الأمطار سيكون هناك إشكال. لقد كنت أتمنى أن يتم وضع ميزانية مثالية لكل قطاع وأن تكون مصاريفها كاملة، مع العلم أنه لا يجب أن نعتبر التكاليف الاجتماعية تكاليف ولكن استثمارات. وأنا أطرح السؤال التالي على السيد الوزير: لماذا لا تقوم الحكومة بإعداد ميزانية اجتماعية، لأن الأموال الطائلة التي تصرف على المستوى الاجتماعي كبيرة جدا، بينما النتائج ضعيفة جدا. كاير: مجرد ملاحظة بسيطة، تتمثل في أنني أعتبر أن المشكل الحالي يبين أن حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة لم يكن له برنامج اقتصادي بديل عما طبق في المغرب سابقا، كما أن أحزاب المعارضة ليس لها هي الأخرى بدائل واقعية، لأنه يمكن التوفر على بدائل آنية أو منبرية على مستوى الخطابة في البرلمان، لكن على مستوى تدبير المالية العمومية لا أعتقد أن أحزاب المعارضة لها ذلك. ملاحظة أخرى فيما يخص السؤال المطروح حول مدى تفاعل القرار داخل الأغلبية الحكومية، فأنا أعتقد أن هذا المجال أصبحت فيه صراعات الأغلبية الحكومية، الشيء الذي تجاوز حدود المسؤولية التي يتطلبها موقع المشاركة داخل الحكومة. كما لدي أيضا ملاحظة بخصوص السلوك التدبيري لرئيس الحكومة، فعندما يتهم بنكيران الحكومة السابقة بتزوير المعطيات الرسمية أو عندما يصور في خطابه اليومي بأن المغرب غارق في الفساد، أعتقد أن خطابه هذا لا يمكن أن يطمئن، إذ أن الاقتصاد سيتأثر، بالدرجة الأولى، بمثل هذه التصريحات، ويمكن أن ينفّر المستثمرين. - أشرت سابقا إلى ارتفاع المداخيل الضريبية بشكل غير منطقي في السنوات الماضية، كما يلاحظ أن هناك 36 مليار درهم من الإعفاءات والامتيازات الضريبية. هل هناك من إجراءات لتصحيح هذا الوضع؟ وما مدى مسؤولية الحكومة الاقتصادية على التركة الاقتصادية والمالية؟ الأزمي: لا يوجد تزوير في الأرقام، ولكن هناك تضاربا في الأرقام، ورئيس الحكومة قالها بوضوح وبلغة اقتصادية سليمة. بطبيعة الحال عنصر الثقة مهم بالنسبة إلى الفاعلين الاقتصاديين والمجتمع ككل، ولا أحد تحدث عن أن المجتمع غارق في الفساد، بل هناك إشكالية الحكامة والحكامة المالية، والمصداقية الدولية والداخلية. الشيء الآخر هو البرنامج الاقتصادي والبرمجة، فالحكومة كانت واضحة في البرنامج الحكومي، وأكدت أن هناك ثلاث ركائز أساسية ينبني عليها النموذج التنموي: أولا، التحكم في التوازنات الداخلية والخارجية، وهذا فيه مجموعة من الأمور، وهو أساسي. ثانيا، تيسير عمل المقاولة ودعم الاستثمار الخاص بمجموعة من الإجراءات. وثالثا، الدعامة الاجتماعية وإعادة التوازن للمجتمع. هذا هو الإطار العام الذي نشتغل فيه. لكن الإشكال الذي لدينا، حقيقة، والذي تكشف عنه مثل هذه الإجراءات والقرارات، هو إشكال برمجة ميزانية الدولة، وكيف تكون الميزانية واحدة تتفاعل فيها كل القطاعات، أي لا تكون ميزانية لتوزيع أرقام، بل ميزانية لبرامج وأولويات، على أن تكون أهمية القطاع ليس بالرقم، بل بالأهداف التي يحققها والوسائل التي وراءها. الإشكال الكبير في طريقة البرمجة هو أن تكون هناك ميزانية ومتفاعلة، وتخدم هدفا واحدا هو البرنامج الحكومي المتعلق بالتوازنات والمقاولة والمجتمع. وطريقة البرمجة بالقانون التنظيمي القديم مازالت تتعامل مع الميزانية كقطاعات، وبالتالي ندخل في المفاوضات المالية، و»كلها يضرب على عرامو». مثلا يقول الجميع إن المدرسة هي المشكل، وكذلك قطاع الصحة، فكيف لنا، كحكومة، أن نستغل برمجة الميزانية حتى نوضح فيها هذا التوجه، إذ ينبغي أن يتفاعل الجميع، وهذا ما بدأناه مثلا على مستوى صندوق التنمية القروية، حيث أكدنا على استعماله كرافعة لانتقائية القطاعات في مجالات معينة، فالعالم القروي نقطة معينة تعاني التهميش، وهذه التجربة هي تجربة عبر إصلاح القانون التنظيمي، والهدف هو تعميمها، وأن تكون الأهداف هي الأساس والميزانية من ورائها. الشق الثاني هو الإشكال الحقيقي للموارد، والذي ظهر عيبه مع تفاقم العجز والمسؤوليات التي أضيفت إلى الحكومة وانتظارات المواطنين، حيث إن الدستور أصبح ينص على مجموعة من الحقوق كالصحة والتعليم والسكن، وجميع الحقوق الأساسية الأخرى. وبالتالي صار هناك ضغط على الحكومة، وصارت هناك انتظارات. فيما يتعلق بالمنظومة الجبائية، هناك مشكل القطاع غير المنظم، سواء تعلق الأمر بالموارد أو حتى الجانب الاقتصادي الذي يضر بالاقتصاد الوطني، وفي المناظرة التي ستكون نهاية الشهر الجاري، سنشتغل على العدالة الجبائية، ومعنى ذلك أن كل شخص سيساهم على قدر استطاعته، وليس بالمنظور القطاعي، فالدستور لا يميز بين القطاعات، بل على الملتزمين والمواطنين أن يساهموا في المجهود الوطني، كل على قدر استطاعته. وهذا الجانب هو الذي يسمح للسياسة الضريبية بتوسيع الوعاء وتخفيض العبء الضريبي. بينما الجانب الثاني هو تنافسية المقاولة والبلاد ككل والاقتصاد الوطني. أما الجانب الثالث، وهو مهم، فهو علاقة الإدارة الضريبية بالمواطن ككل، حيث لا يمكن أن تفعل العدالة والتنافسية بدون قنطرة الإدارة الضريبية التي تتعامل مع المواطنين، ولكن مع ذلك مازلنا نحس بأن كل طرف متخوف من الآخر. - وماذا عن 36 مليار درهم من الإعفاءات؟ الأزمي: الإعفاءات تدخل في جانب العدالة، وكل يساهم على قدر استطاعته، لأنه لا يجب إيهام المغاربة بأن 36 مليار درهم من النفقات الجبائية ستدخل بأكملها بين عشية وضحاها إلى الصندوق. مشكلتنا على مستوى النفقات هي أننا نضع نفقة وتبقى دائما، فالضريبة بقدر ما توفر الموارد هي فقط آلية من آليات السياسة الاقتصادية، فعندما تريد الدولة أن تشجع قطاعا ما تتجه إليه، لكن عندما يصبح هذا القطاع قادرا على المساهمة فيجب أن يفعل ذلك لدفع قطاعات أخرى. إذن إشكال النفقات هو إشكال الجدوى الاقتصادية والاجتماعية. الشيكر: لدي ملاحظة هي أن الميزانية تأتي كتتويج لمسلسل رؤية استراتيجية ومخططات ثلاث سنوات، والملاحظ أن الدولة ليست لها رؤية، كما أن الحكومة لا تتوفر على استراتيجية شاملة، إذ هناك استراتيجيات قطاعية، لكن ليست هناك استراتيجية شاملة تستطيع توجيه الاستراتيجيات القطاعية. فمثلا المخطط الأخضر لا نعرف ما يوجد فيه بالضبطّ، لأن المشكل في التنمية المرتبطة بالموسم الفلاحي مرتبط بالحبوب، ونعطي كل شيء للطماطم وغيرها، وأظن أنه كان من الأجدى تحديد رؤية واستراتيجية، لأنه من هذا الباب سنصل إلى النقاش حول نمط التنمية والنمط الاقتصادي. كاير: أنا لدي ملاحظة فيما يخص إصلاح الميزانية أو الإصلاح الضريبي على وجه العموم، مفادها أننا اليوم في حاجة إلى حل سياسي وليس إلى حلول تقنية، فحين نتحدث، على سبيل المثال، عن إصلاح النظام الضريبي أو صندوق المقاصة، أو حتى إصلاح صناديق التقاعد، دائما ما كنا نقاربها بمنظور آني، في حين كان يتوجب علينا، قبل الحديث عن الجانب المالي، أن نحدد الأدوار التي تريدها الدولة لنفسها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. من جهة أخرى، جعلنا الواقع الضريبي الحالي نتوفر على ما يمكن أن نسميه «غيتوهات جبائية»، أي أن كل قطاع يضم «غيتو» أو يشكل «غيتو» في حد ذاته، ويملك امتيازات خاصة به، يراكمها حسب قوة ضغطه على الحكومة أو سلطة القرار، وهنا تظهر أهمية تصور الحكومة للإصلاح، لأنه لا يمكننا الاستمرار في توزيع الإعفاءات، شرقا وغربا، بدون أن تخضع للتقنين. وبخصوص النموذج الاقتصادي للمغرب، أعتقد بأن المعطيات تثبت بأن هذا النموذج استنفد أدواره، بعد أن دام قرابة عشر سنوات، وارتبط بالأساس بمنظومة المضاربة، وانبنى على الأوراش الكبرى وقطاع العقار، بينما يتوجب اليوم تطوير نموذج جديد للنمو، يأخذ بعين الاعتبار الهشاشة البنيوية للاقتصاد الوطني، حتى لا نستمر في الاعتماد على قطاعات بعينها، قد تنتج فرص الشغل، لكنها لا تضمن ديمومة تطور الاقتصاد الوطني على المديين المتوسط أو البعيد. - المساء: سبق للحكومة أن اتخذت قرارا بالاقتطاع من الحسابات البنكية للمتهربين من أداء الضرائب، فلماذا تم التراجع عن هذا القرار؟ الأزمي: فيما يخص إشكالية التملص الضريبي يجب أن نبدأ في مناقشتها من الأعلى، وألا نكتفي بتحميل الإدارة لوحدها المسؤولية، فإشكالية التملص الضريبي هي إشكالية المواطنة الضريبية، فتعامل المواطن المغربي مع الضريبة فيه بعض الإشكالات، رغم أن هذه الضرائب يفترض أن يدفعها لتكون بمثابة تمويل للحقوق التي ينص عليها الدستور، الذي صوّت عليه نفس المواطن، وهذه الموارد الضريبية يضعها المواطن رهن الحكومة التي اختارها وصوّت عليها، حتى يستعيدها على شكل خدمات عمومية وحقوق عامة. ويجب أن نعمل من جهتنا على تعميم هذه الثقافة الضريبية بين المواطنين. في الجهة المقابلة، هناك مسؤولية الحكومة والإدارة عن هذا التملص، من خلال المراقبة، سواء في الجانب الجبائي أو الجمركي، حيث إنه خلال السنتين الأخيرتين كانت هناك مجموعة من الإجراءات، خاصة فيما يتعلق بالمراقبة الضريبية، حيث وصلت عائداتها إلى ما بين 8 و9 مليارات درهم، وقد تم التركيز على القطاعات، التي تبين من خلال الدراسات والمتابعات التي قامت بها الإدارة الضريبية، عدم وجود تناسب بين الأرباح التي تحققها والضرائب التي تؤديها، إذ لا يمكن أن يكون هناك قطاع تتجاوز نسبة أرباحه ال30 في المائة، في حين تعلن الشركات المشتغلة فيه أنها تخسر باستمرار. وقد تم اللجوء إلى هذه الطريقة الذكية لمراقبة مردودية مجموعة من القطاعات. نفس الأمر بالنسبة إلى قطاع الجمارك، حيث نواجه إشكالية كبيرة، إذ في الوقت الذي يمنح النموذج الاقتصادي للمغرب الأولوية للطلب الداخلي، مع ما كان لذلك من آثار على الواردات وعلى النمو ككل، كان هناك خلال السنتين الأخيرتين توجه لإنعاش مداخيل هذا القطاع، حيث سجلنا مداخيل ناهزت ثلاثة مليارات درهم، بعد أن كانت مجموعة من السلع التي تدخل المغرب، يتم التصريح بأثمنة أقل من أثمنتها الحقيقية. وهناك حاليا تشديد على صعيد مراقبة هذه السلع. بطبيعة الحال عندما نتكلم عن المراقبة نقصد الأشخاص الذين يصرحون بعملياتهم. لكن هناك نوع آخر من التملص يتمثل في أن هناك أشخاصا لا يصرحون بعملياتهم، وهنا تقوم الدولة أيضا بواجبها في مراقبة الملزمين الجدد بأداء الضريبة، فضلا عن وضع إجراءات إدارية تساعد هؤلاء الملزمين الجدد على أداء ما عليهم للدولة، مثل إجراءات تخفيض السعر على مجموعة من الشركات التي لا يتجاوز هامش أرباحها 300 ألف درهم، إضافة إلى إجراءات تهم مساعدة بعض الشركات على التحول من القطاع غير المهيكل إلى القطاع المهيكل، مما سيعفيها من المتابعات فيما يتعلق بماضيها الجبائي. كل هذا يدخل في إطار سياسة جبائية تدفع نحو القضاء على التملص الضريبي. - إلى جانب طرح الإصلاح الضريبي كحل للأزمة الحالية، تم الحديث عن ضرورة تشجيع الطلب الداخلي، فهل يمكن الحديث عن لجوء الحكومة إلى سياسة حمائية للاقتصاد الوطني؟ الأزمي: المغرب يسير منذ مدة طويلة في مسار من الانفتاح، وهي السياسة التي كان لها ما لها وما عليها، وهو الانفتاح الذي يفرض على المغرب التزامات دولية مؤطرة. لذا ينبغي علينا أن نعمل بما تنص عليه هذه الالتزامات، فعندما نكون في إطار المنظمة العالمية للتجارة، لا يمكننا تطبيق بعض الإجراءات غير التعريفية من أجل إيقاف البضائع، لكن هذا لا يعني ترك البلد مفتوحة أمام البضائع الخارجية، فالحكومة لها مجموعة من الوسائل التي تمكنها من حماية الاقتصاد الوطني مع الالتزام بتعهداتها. فعلى سبيل المثال ننتهج سياسة عدم الإغراق عبر قانون خاص بها، وهناك ثلاثة قطاعات مهمة تخضع لهذه السياسة، إضافة إلى قانون حماية المستهلك ونصوصه التنزيلية، وهو القانون الذي يسمح لنا بمنع دخول أي سلعة قد يكون فيها إضرار بصحة المستهلك. تنضاف إلى ذلك محاربة الغش في فوترة السلع التي نستوردها، فضلا عن الحرص على معايير الجودة والسلامة الصحية والبيئية، وهي معايير يجب أن نعمل على إنتاجها وتوفير آليات تنزيلها على أرض الواقع. الشيكر: نلاحظ أن الانفتاح كان انفتاحا انتقائيا، بمعنى أن القطاع، الذي أدى ثمن الانفتاح هو القطاع الصناعي، حيث إن هذا القطاع كان يمثل سنة 2000 حوالي 18 في المائة من الناتج الداخلي الخام، فأصبح سنة 2010 لا يمثل إلا 13 في المائة من هذا الناتج. كما أن مساهمته في مجال التشغيل صارت بدورها مساهمة ضعيفة، وهو ما ساهم في تفاقم إشكالية المعطلين حاملي الشواهد العليا، بحكم أن 40 في المائة من مناصب الشغل المحدثة كانت ضمن القطاع الفلاحي، وبالتالي يمكن أن نخلص إلى أن الانفتاح لم يكن متحكما فيه. أما فيما يخص تشجيع الطلب الداخلي، فقد اتضح أن النموذج الاقتصادي المغربي كان دائما يمنح الأولوية للطلب الخارجي، رغم أن من ينقذ الاقتصاد الوطني هو الطلب الداخلي، لكن المفارقة الغريبة هي أن رفع الطلب الداخلي يكون مصحوبا بطلب كبير على المواد القادمة من الخارج، بسبب غياب استراتيجية وطنية تربط الطلب الداخلي بتنمية الإنتاج الوطني، وهو ما يجعلنا مستهلكين فقط. - البعض قال إن قرار الحكومة الأخير كان مرتبطا بالتأخر في إصلاح صندوق المقاصة. هل كان يمكن إنجاز هذا الإصلاح في وقت أسرع؟ الأزمي: قرار تجميد جزء من ميزانية الاستثمار هو قرار لضبط والتحكم في الميزانية، بغض النظر عن إصلاح صندوق المقاصة، حيث لم يكن من الممكن أن تبقى هناك كتلة معينة داخل الميزانية لا نتحكم في توقعاتها، فلو لم نتخذ ذلك القرار لكانت 80 مليار درهم بين أيدي الإدارات والوزارات. غير أننا لا نملك إلا انتظار نسبة إنجاز المشاريع، فإذا كانت 100 في المائة، فإن 80 مليار درهم ستدخل في عجز الميزانية، وهو ما لا يمكن إطلاقا أن تتحمله ميزانية الدولة. هذا القرار كان، إذن، منطقيا في ذاته. الجانب الثاني هو ما يتعلق بصندوق المقاصة. ينبغي أن نعرف أن هذا الصندوق يجب إصلاحه في أقرب الآجال، والتأخير الحاصل في عملية الإصلاح راجع بالأساس إلى ظروف سياسية، لأن هذا الإصلاح هو إصلاح كبير، ويحتاج إلى الكثير من التشاور بين مختلف المكونات، من أغلبية ومعارضة، خاصة أننا أمام كتلة مالية من الصعب أن يتم ضبطها بدقة، ولا نعرف على العموم ما إذا كنا سننهي السنة ب50 مليار درهم، أم أكثر من ذلك أو أقل، خاصة في ظل الإشكاليات المطروحة بخصوص توقع أسعار برميل البترول، علما أن حجم دعم هذا الصندوق أصبح يتجاوز الميزانية المخصصة للاستثمار، وأصبح يمول من القروض، مما يستوجب التعجيل بإصلاحه. وبالنسبة إلى رؤية الحكومة للإصلاح، فهي تشتمل، في نظرنا، على التحكم في نظام الدعم من حيث آثاره على الميزانية، وهناك مجموعة من السيناريوهات التي تدرس في هذا الباب. الجانب الثاني هو أنه عندما سنتحكم في المقاصة، فإن هناك قطاعات معينة سوف تتضرر، وبالتالي لا بد من اتخاذ إجراءات حقيقية لمواكبة هذه القطاعات. الجانب الثالث هو آثار هذا الإصلاح على المؤشرات الماكرو اقتصادية، وأيضا آثاره على مختلف الفئات المجتمعية، حيث إن الدراسات التي بين أيدينا تؤكد بأن 20 في المائة من المواطنين الأكثر غنى يستفيدون من 43 في المائة من مخصصات صندوق المقاصة، فيما لا يستفيد السكان الأكثر فقرا إلا من 9 في المائة. الشيكر: صندوق المقاصة ليس قضية فقر وغنى، لأنه أحدث خلال سنوات الأربعينيات. ورغم أن سنوات السبعينيات شهدت إصلاحا لهذا الصندوق، لكن هذا الإصلاح سار في طريق دعم الإنتاج الوطني، خاصة فيما يتعلق ببعض المواد مثل السكر والحليب، مع الحفاظ على القدرة الشرائية للمغاربة، قبل أن يتدخل صندوق النقد الدولي للدفع بالمغرب نحو الاهتمام بالطبقات الفقيرة، خاصة بعد أن أصبح 25 في المائة من المغاربة يعيشون تحت عتبة الفقر، لتتحول الإشكالية ابتداء من سنة 1986 إلى تضريب المواد المدعمة، وتنطلق معها الإشكالية الكبرى لصندوق المقاصة. وحين نتحدث اليوم عن 57 مليار درهم ككلفة لهذا الصندوق، فيجب علينا أن نحذف منها الضريبة، مما يعني أن صندوق المقاصة أصبح منبع ريع لفئات معينة، وفي حال ما قامت الحكومة بإصلاح جدي للمقاصة، وتمكنت من مواجهة اللوبيات التي تستفيد منه، فأنا متأكد بأنه سيصبح من السهل تجاوز العجز الذي يعانيه. أنا شخصيا أحذر الحكومة من نهج سياسة الاستهداف في إصلاح صندوق المقاصة عوض العمل على القضاء على لوبيات الريع، لأن 90 في المائة من المواد المدعمة هي مواد بترولية، وبالتالي فالمتضرر الأول هو المواطن. كاير: المشكل المطروح بالنسبة إلي هو التقاطب الموجود في الخطاب، الذي يتم الترويج له، والذي يقسم المجتمع إلى فقراء وأغنياء. فليس من العيب أن نحدد أولويات للإصلاح، لكن لا يجب أن نعمل على وضع الفقراء في مواجهة الأغنياء، أو المقاولات الصغرى في مواجهة الشركات الكبرى، وهو ما يبدو لي غير سليم، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي. وفيما يخص سيناريوهات الإصلاح، لا يمكننا الحديث عن أي سيناريو دون أن تكون هناك إعادة نظر في منظومة المنافسة ككل. من جهة أخرى، أنا شخصيا أرى شبح صندوق النقد الدولي حاضرا في هذا القرار، في ظل مطالب مؤطرة للحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية للمغرب، علما أن الحكومة التزمت لدى حصولها على الخط الائتماني بالمحافظة على مستوى معين من هذا التوازن الماكرو اقتصادي. كما التزمت بتحرير أسعار مجموعة من المنتوجات، وبالتالي لا يمكن تصديق الحديث عن استقلالية قرار الحكومة فيما يخص نفقات الاستثمار، وإن كان القرار يبدو مستقلا ظاهريا، لكنني أعتقد أن الحكومة كانت تخشى، في العمق، أن تخرج عن الإطار الذي حدده لها صندوق النقد الدولي، وبالتالي لن يكون بمقدورها الاستفادة من الخط الائتماني، وإلا فما الذي كان يمنع الحكومة من التحكم في العجز وتحديده في عتبة 10 في المائة في حال ما كان القرار الاقتصادي مستقلا، والذي يعتبر بدوره سياسة اقتصادية. - ما مدى استقلالية الاقتصاد الوطني، اليوم، عن تعليمات صندوق النقد الدولي؟ الأزمي: قرارنا الاقتصادي يتمتع بكامل الاستقلالية، ومسألة تحديد العجز الاختياري في 10 أو 12 في المائة مسألة ممكنة من الناحية النظرية، لكن هذا ليس هو البرنامج الحكومي الذي تعاقدنا به مع المغاربة، والذي ينص على تحقيق نسبة عجز في 3 بالمائة في أفق 2016، وحتى نصل إلى تلك النسبة لا يمكننا المرور من نسب تتجاوز 10 بالمائة، ورؤيتنا في هذا المجال واضحة، إذ أن ضبط التوازن المالي سيوفر الشروط الأساسية لانتعاش الاقتصاد الوطني، وأيضا إعادة التوازن للمجتمع وزيادة نسبة التماسك الاجتماعي. كما أن برنامجنا الحكومي تضمن مجموعة من الإجراءات لتعزيز حكامة صندوق المقاصة. إذن المسألة أخلاقية بالدرجة الأولى، والبرنامج كان بأهداف واضحة حتى إن اختلفنا في طريقة الوصول إليها. مسألة العجز في الظروف الحالية فيها إشكالية كبيرة، لأنها مرتبطة بالمسألة التعاقدية مع الناخبين، وتطرح إشكالية حتى من الناحية الاقتصادية، فالعجز نتج عنه تفاقم للطلب الداخلي بهذه الطريقة، مقابل ذلك كان غياب هناك للطلب يستجيب لذلك، فأصبحنا ليس فقط أمام عجز الميزانية وإنما أمام عجز أخطر من ذلك، لأن عجز الميزانية متحكم فيه وتقرر وقف تنفيذ نفقات الاستثمار، عكس الواردات والصادرات. هذه المسالة في البرنامج الحكومي كانت واضحة خدمة للاقتصاد الوطني وخدمة للتماسك الاجتماعي، لأن من يؤدي ثمن كل ذلك في نهاية المطاف هو الفئات الضعيفة، فمسألة التوازنات كان لدينا بها وعي في نقاش البرنامج الحكومي، لأنها من بين أهم أساسيات الاقتصاد الوطني العميق. الشيكر: سبق أن سمعنا عن قضية العجز في خطاب فتح الله ولعلو سنة 1998، حيث قال: «إذا تحكمنا في العجز سنخلق شروط التنمية»، وهذا غير صحيح، إذ رغم أن مسألة العجز كانت فعلا ضمن برنامجكم، فإن الخطأ الذي ارتكبته الحكومة الحالية أنها نهجت نفس الاستمرارية في النمط الاقتصادي، لأن الخطر ليس هو ضعف الحكومة ولا قوة المعارضة، بل من داخل الحكومة، وبالخصوص من مستوى برنامجها الاقتصادي. من جهة أخرى، من يؤدي ثمن العجز هو الضعيف، والمستفيد الأكبر هو المؤسسات المالية بالخصوص، وإذا قلتَ، السيد الوزير، إن العجز سيشجع على الاستثمار الخاص، فأنا أتساءل: أين هو هذا الاستثمار الخاص؟ لقد وقعنا فيما وقعت فيه اليابان التي تتوفر على 260 في المائة من المديونية، لكنها مديونية داخلية، بينما في اليونان هناك 120 في المائة كلها مديونية خارجية. إذن لديك القدرة على توسيع هامش الاستقلالية، لأن المغاربة هم من يمولون الميزانية. وعليه، أتمنى أن تجلس أحزاب الأغلبية إلى الطاولة، وأن تناقش نمط التنمية في المغرب، مع إنجاز تقييم للنمط المعتمد في المغرب منذ سنة 1998 إلى اليوم. كاير: لدي ملاحظة بخصوص السياسات القطاعية للحكومة، وهي أن هناك استمرارية يمكن وصفها ب»الساذجة» (ليس بمعناها القدحي)، عندما نتحدث عن السياسات العمومية في مجال التشغيل بغض النظر عن التصريح الحكومي، فقد استمعت إلى سؤال عام في الموضوع طرح على وزير القطاع، فرد الوزير بما مفاده أنه لا يملك شيئا ليفعله، وهذا في حد ذاته جواب خطير، لأنه إذا كانت الدينامية الاقتصادية هي التي تنتج فرص الشغل، ففي المقابل يجب أن تكون للحكومة سياسة عمومية في مجال التشغيل، تحفز القطاع الخاص من أجل مساعدة الشباب على الإدماج، أما أن نقول إن الدينامية الاقتصادية هي التي توفر فرص الشغل فمعنى ذلك أنه يتوجب علينا إلغاء وزارة التشغيل. النقطة الثانية تتعلق بالاستمرارية فيما يخص المخططات القطاعية، وهي الاستمرارية التي شكلت خطورة على الحكومة وأضرت بها، على اعتبار أن مجموعة من البرامج القطاعية بدورها استنفدت أدوارها وجدواها، فإما أنها مرت عليها مدة معينة أو أنها تأثرت بفعل الأزمة الدولية. - فيما يتعلق بالمقاصة، وفي إطار مناقشة مخطط الحكومة الرباعي لمواجهة الأزمة، يقال إنه كان هناك نقاش موازٍ بخصوص المقاصة، وأنكم تفكرون في قضية الاستهداف التي تحدث عنها رئيس الحكومة، وأنه سيتم تعويضها ببعض الإجراءات الضريبية التي تستهدف الفئات الميسورة والشركات الكبرى المستفيدة من الدعم. هل هذا صحيح؟ الأزمي: هذا النقاش لم يطرح تماما، وحتى أجيب عن سؤالك فيما يتعلق بالاستمرارية والقطيعة، لا يعقل أن تكون هناك سياسة جيدة في قطاع معين في عهد الحكومة السابقة، ويتم إلغاؤها في ظل الحكومة الحالية، فنحن نراهن على استمرارية مسؤولة واتخاذ الإجراءات اللازمة. المغرب حقق سنة 2012 استثمارات تناهز 30 مليار درهم، كان أغلبها موجها إلى القطاع الصناعي، وحاليا هناك اشتغال كبير على مستوى الوزارة المكلفة بالحكامة لإعادة النظر في عدد من الاستراتيجيات من حيث انتقائيتها ومساهمتها في النموذج الاقتصادي، ولا بد أن أضيف أن الاستمرارية يجب أن تكون قيمة مضافة، فمثلا في الجانب الصناعي الذي تكلمتم عنه، يجب علينا أن نعمل على إدماج الشركات الوطنية وتأهيلها. من جانب آخر،هناك اشتغال على قطاعات جديدة فيما يخص مخطط الإقلاع الصناعي، لأنه كلما توسع الطلب الداخلي يستفيد الطلب الخارجي من ذلك، فمثلا إدماج الصناعات الدوائية كان بإرادة من الحكومة، بعد أن وضعنا نظام المساعدة الطبية، فلاحظنا بعد ذلك أن هناك ارتفاعا في الطلب على الأدوية، وهذا يعني أن الطلب الداخلي ارتفع. ومن بين الأهداف أيضا في مجال الصناعات الدوائية أن نصل إلى مرحلة التصدير، لكن بعد الاستجابة للطلب الداخلي أولا، فالهدف الأكبر ألا نكون سطحيين على مستوى الصناعات. - هناك حديث عن إصلاح صندوق المقاصة. متى ستشرعون في هذا الأمر؟ وهل تنتظرون قرارات عليا؟ أم أن الجدل الذي أثير حول هذا الموضوع دفع بكم إلى تأخير النقاش؟ الأزمي: التأخر أساسا جاء بحكم النقاش السياسي، الذي أثير حول الموضوع، فنحن بدأنا النقاش في الأغلبية والبرلمان، ونحن نقول، في الحكومة، إن هذه السنة هي سنة الإصلاحات، لأنه كلما تأخرنا كان الثمن الذي سيؤديه الاقتصاد الوطني ككل، وليس فقط المالية العمومية، أكبر من المتوقع. وهنا أقول إن هذا التأخر سيتم تداركه، لأنه إذا كان التأخر مبنيا على التشارك، وعلى قاعدة عريضة للتوافق حول هذه الإصلاحات، فإن التدارك سيقع على مستوى التفعيل، وحاليا هناك نقاش يتجاوز الحكومة ويتجاوز حتى المجتمع حول نظام المقاصة. - كيف ترون مستقبل الاقتصاد الوطني؟ هل تتوقعون أن يكون هناك انفراج؟ ثم ألا تتخوفون من اللجوء إلى الخط الائتماني؟ الأزمي: قاعدة الخط الائتماني واضحة، فلا يمكن اللجوء إليه في حالة وجود صعوبات ناجمة عن أوضاع داخلية، وفلسفة الخط الائتماني تتماشى مع هذه التقلبات السياسية والاقتصادية، والخط الائتماني جاء لدعم هذه الإصلاحات. من هذه الناحية، لابد للحكومة أن تتوفر على رؤية واضحة وبرنامج حكومي تلتزم بتطبيقه، وفي حال ما كانت هناك تأثيرات بفعل الخارج، كأن تسجل ارتفاعات خيالية في أسعار البترول أو انكماش اقتصادي لشركائنا الأساسيين، هنا فقط يمكن اللجوء إلى الخط الائتماني.