إذا كانت إسبانيا معروفة لدى جميع المغاربة بأنها لم تخدم المغرب منذ استعمارها للمنطقة الشمالية سنة 1912م، حتى انسحابها منه سنة 1956م، مقارنة بفرنسا التي خدمت هذا البلد على مستوى البنية التحتية تخطيطا وتجهيزا وتدبيرا وتعميرا وتوسيعا. فإن هذا الحكم ، في الواقع التاريخي، ليس صحيحا دائما؛ فلإسبانيا أيادي بيضاء على المغرب في بعض المجالات الثقافية ، خاصة في مجالي المسرح والتشكيل، دون أن ننسى الميادين العلمية الأخرى، مثل: اللسانيات، والأدب، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والأنتروبولوجيا، والتوثيق الببليوغرافي، والأرشفة المكتبية، وبناء المدارس والمعاهد التربوية لنشر اللغة الإسبانية والثقافة الإيبيرية. ومن هنا، فقد خدمت إسبانيا المغرب خدمات جلى في مجال المسرح بناء وإبداعا وتنشيطا. وفي هذا السياق، يقول عبد السلام مصطفى المهماه:»من الملاحظ على الرغم مما عرفه المسرح الفرنسي من ازدهار في الفترة التي استعمر فيها المغرب، فإنه لم ينهج مثل الإسبان سياسة بناء المسارح، حيث لم يتعد بناؤه للمسرح البلدي بالبيضاء، ومسرح مدينة الجديدة، على الرغم من الرقعة الجغرافية الشاسعة التي كان يحتلها، كما أننا لانعلم شيئا عن حركة المسرح الفرنسي بالمغرب، باستثناء الحادثة التاريخية التي رواها كل من عبد القادر السميحي ومحمد بن تاويت عن الفتاة الفرنسية وفرقتها، مع المرحوم الزعيم علال الفاسي، وكذا الإشارة التي أوردها عبد الله الشتوكي في بحثه فيقول:» ... فالمسرحيات التي كانت تعرض به [مسرح الحماية ] كانت من الضعف، حتى إنها لاتقوى على الظهور بباريس والأقاليم الفرنسية، إلا أنها على الرغم من بساطة شأنها كانت ترضي الأجنبي الموجود بالمغرب، إذ توهمه بأنه يتسلى مثل برجوازي وطنه الأم»»1 إذاً، ما أهم الخدمات الثقافية التي قدمتها إسبانيا إلى المغرب في مجال المسرح إبان فترة الحماية؟ وما البنايات المسرحية التي خلفتها إسبانيا في المغرب؟ هذا ما سنرصده جليا في هذه الورقة التي بين أيدينا. تاريخ المنشآت المسرحية في شمال المغرب: من المعلوم، أن المغاربة قد عرفوا المسرح الإسباني منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، بعد هزيمة المغرب في مدينة تطوان سنة 1859م، واحتلالها من قبل الإسبان سنة 1960م. ومن ثم، فقد شيدت إسبانيا مجموعة من المسارح بتطوان، وطنجة، وأصيلة، والقصر الكبير، والعرائش ... مقارنة بفرنسا التي لم تشيد ، في منطقتها، سوى ثلاثة مسارح هي: الملهى الفرنساوي بمدينة فاس سنة 1917م ، « ولكن الظاهر أن هذا المسرح لم يعمر طويلا. كما لم يكن له أثر يذكر على المسرح المغربي»2، والمسرح البلدي بمدينة الدارالبيضاء الذي أسسه المارشال ليوطي سنة 1922م، ومسرح الجديدة الذي شيد سنة 1937م. وللإشارة، فإن الملهى الفرنساوي كان يرتاده الأوروبيون والمسلمون على حد سواء، بغية رصد العروض المسرحية. وفي هذا، يقول أحد مراسلي جريدة (السعادة) المغربية:» شاهدنا الملهى الفرنساوي منذ افتتاحه تتقاطر عليه وفود السكان من المسلمين والأوروباويين، والكل يتباهى بين جدرانه، فكأنه سوق أدب، وكأنه معرض سرور، يتأثر المشاهد بأدوار التمثيل، وتتحرك إحساساته تبعا لحركات الممثلين، فمرة يشاهد الإنسان أمام الأدوار التمثيلية بحالة كئيبة يرثي لتعاسة الأشقياء، وآونة يترنح جدلا مع الفرحين، كل هذا والأنفس مرتاحة لما تتخلل تلك الأدوار التشخيصية من تشنيف الأسماع بنغمات الألحان الموسيقية المطربة، يشاهد الإنسان أمام مسرح التمثيل كأنه يعيش بين أهالي الأزمان الغابرة والأقطار البعيدة، ورغما عن ذلك، فهو يمكنه أن يستفيد بمعرفة أخلاق الأمم، وتنوير أفكاره باللطائف الأدبية والتاريخية وغيرها مما لاتنكر مواعظه.»3 ويعني هذا أن إسبانيا كانت سباقة إلى ترويج المنتوج المسرحي في المغرب، خاصة في المنطقة الشمالية، منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. وفي هذا الصدد، يقول مصطفى عبد السلام المهماه في كتابه (تاريخ مسرح الطفل في المغرب) :» خلال بحثنا وجدنا أنه لايمكن القول بأن تاريخ العشرينيات بداية لمسرح الطفل المغربي بصفة خاصة، ولا بالنسبة للمسرح عامة، فقد ثبت بالوثائق أنه توجد مرحلة هامة مرت بأرض المغرب وشهدها، وسمع عنها المجتمع المغربي، إن لم يكن كله فجزؤه، نظرا لقلة وسائل التواصل وقتئذ، وإن كانت هذه المرحلة عرفت جمهورها الخاص من الجالية الإسبانية، مع ذلك سجل حضور بعض المغاربة .»4 ويعني هذا أن بعض المواطنين المحليين في المنطقة الخليفية، سيما في تطوان ، كانوا يحضرون احتفالات الإسبان، خاصة المسرحية منها، وهذا ما يؤكده الكاتب الإسباني (إدواردو مالدونادو):» ...حتى المغاربة كانوا أحيانا يحضرون الحفلات الاستعراضية والمسرحية غير مذهولين من أي شيء، والقليلون هم الذين يعرفون الإسبانية ، والموسيقى لا تقدر أن تنقل لهم الإحساسات التي تعودوا على تنغمها، علاوة على ثمن التذكرة الذي كان عائقا لهم للذهاب لرؤية ذلك الاحتفال الذي يلهي المسيحيين».5 وقد شهد هذا المسرح زيارة فرق مسرحية وشعرية واستعراضية منها: الفرقة الشعرية والدرامية لغارسيا دلگادو، والفرقة الرياضية البهلوانية للسيد ميزاندا، والفرقة الشعرية الثالثة للسيد بروتون، والفرقة الاستعراضية للسيد فرانسيسكو غارسيا غاستلدي التي قدمت عملها الفني في 13فبراير 1861م. أما عن مسرح الطفل، فقد عرض بهذا المسرح ، سنة 1860م، مسرحية طفلية بعنوان ( الطفل المغربي / El Niño Moreto ) لفرقة (بوروتون) الإسبانية، وقد ركز العرض المسرحي على تصوير سذاجة الطفل المغربي وبداوته وتخلفه، من خلال رؤية عنصرية استعلائية واستعمارية. و كانت هذه المسرحية هي الأولى و الأخيرة لفترة طويلة من تاريخ المسرح الطفلي بالمغرب، حتى المرحلة الثانية من نهضة المسرح المغربي و هي فترة 1913 م، حين نشوء مسرح سرڤانطس بطنجة، وتقديم مسرحية بعنوان (أبناؤنا) سنة 1923م6. هذا، وقد شيدت إسبانيا، في المنطقة الخليفية، مجموعة من المسارح الفنية منذ مطلع القرن العشرين الميلادي، في المدن التالية: تطوان، وطنجة، وأصيلة، والعرائش، والقصر الكبير، ومنطقة الريف. ولايعني هذا أن المغاربة لم يعرفوا البنايات المسرحية قبل فترة الحماية الأجنبية (1912-1956م)، بل عرف المسرح منذ الحاكم الأمازيغي يوبا الثاني الذي أنشأ عدة مسارح بالجزائر (شرشال) ، والمغرب (وليلي، وليكسوس...)، وألف كتبا في المسرح والرقص والموسيقى، وأنشأ معاهد للتمثيل الدرامي ، وتعليم فن المسرح. وفي هذا، يقول المؤرخ التونسي عثمان الكعاك: « منذ عشرين قرنا بنى يوبا الثاني بمدينة شرشال مسرحا كبيرا لا تزال آثاره إلى الآن، وجلبت إليه من المشرق الممثلين والممثلات والمخرجين والمزينين ، وألحق به معهد لتعليم الفن التمثيلي، ومن حسن الحظ أن شرشال جاءت في منتصف الطريق بين تونس والمغرب، بحيث أشعت إشعاعا متساويا على القطرين الشقيقين، ولما جاء العبيديون وجدوا شمال أفريقيا في قبضة عبد الله المهدي، جلبوا التمثيل الديني المنتشر عند الشيعة بالفرس، والمعروفة بالتعزية، وإن نماذج من هذا التمثيل توجد لدى الجميع، ونستنتج من هذا في وضوح أن التمثيل بشمال أفريقيا لم يكن وليد القرن الماضي أو أوائل هذا القرن.»7 ويتضح لنا ، مما سبق قوله، بأن المسرح ، في المغرب، ظاهرة أمازيغية قديمة ، ولم يكن وليد هذا القرن مع مسارح إسبانيا أو مسارح فرنسا. المسرح بمدينة تطوان: شهدت مدينة تطوان ، إبان الاحتلال الإسباني للمنطقة الشمالية، عدة مسارح استقطبت الجالية الإسبانية، سيما العسكرية منها، وكان تحضر إلى جانبها فئة قليلة من المغاربة الذين كانوا يستمتعون بالعروض المسرحية والفنية والموسيقية والاستعراضية. ومن أهم هذه المنشآت المسرحية نذكر ما يلي: مسرح إزابيل الثانية (1860م): منذ أواخر منتصف القرن التاسع عشر، شيدت إسبانيا، بمدينة تطوان، مجموعة من المسارح، ومن أهمها: مسرح الملكة إزابيل الثانية الذي بني في أوائل شهر يوليوز سنة 1860م. وقد كان هذا المسرح تحفة فنية وجمالية ومعمارية . وقد بني هذا المسرح بمادة الخشب من قبل المهندس المعماري الكبير لوبي كامارا(Lopez Camara)، برئاسة العقيدين بيدرو دي إگرييا(Pedro de Egria) ولي مونارا (Le Monara). وقد كان الهدف من تشييد هذا المسرح هو تسلية الجيش الإسباني والترفيه عنه دراميا وفكاهيا وغنائيا. بيد أن هذا المسرح لم يعمر طويلا، فقد أغلقت أبوابه ، بعد سنتين من الاحتلال، في 05 ماي عام 1862م. وللإشارة، فقد « استغرق البناء مدة شهر كان موقعه في بداية يسار شارع التجارة حاليا، حيث توجد إدارة الإقامة العامة، يعني أن ظهر المسرح يحاذي ساحة إسبانيا، وجناحه الأيسر يطل على شارع التجارة، وواجهته اليمنى مع ساحة نسبية واسعة تسمى ساحة المسرح التي توجد بها حدائق الإقامة العامة وضاحية سوق الخبز، وزنقة كانطبريا، تسمى اليوم زنقة فاس، وكان يحتوي على 16شرفة و337 أريكة، و46 رواقا من الدرجة الأولى، و190 من الدرجة الثانية، و495 مقعدا للعموم، وأربعة أشخاص لكل شرفة ، ويمكن أن يحتوي على 4282 متفرجا، وفي بحث آخر عن هذا المسرح 1300 متفرجا، وكانت له ثلاثة أبواب، وافتتح في أوائل يوليوز 1860، بفرقتين، الأولى للاستعراضات أو للاحتفالات، والثانية شعرية.»8 بيد أن هذا المسرح كان موجها، بصفة خاصة، إلى الفئة العسكرية تسلية وترفيها. وفي هذا الإطار، يقول مصطفى المهماه:» أما الجمهور الذي كانت تهمه العروض المسرحية هم العسكريون، وعائلتهم للترفيه، وكانت الفرق الموسيقية العسكرية تجول في شوارع مدينة تطوان، لتأتي بالجمهور إلى المسرح، وتذكره بقرب ساعة البدء، (هذا التقليد شبيه بما كان يجري في المدن التي عرفت مسرح البساط، فاس و مراكش...)، وعند انتهاء العرض يكون الجنرال تورون (Toron) قد هيأ فرقا صغيرة من الجيش لتصحب المتفرجين المدنيين إلى مساكنهم، وهذا يعطي الصورة الواضحة للحالة التي كانت تعيش عليها الجالية الاستعمارية في تطوان . وانتهت عروضه في 13 فبراير من سنة 1861م.9» وقد شهد هذا المسرح عدة عروض مسرحية إسبانية، وكانت تسبقها إعلانات واستدعاءات. وفي هذا النطاق، يقول مصطفى المهماه أيضا:»عند الانتهاء من تتميم بناء مسرح إزابيل الثانية بتطوان بدأت الفرق المسرحية تتوارد على تطوان، وكان أول عرض مسرحي في 17 غشت من السنة نفسها، وفي أول عدد من الجريدة المحلية (صدى تطوان) جاء:»...سيقام في هذه الليلة حفل استعراض مسرحي بمسرح إيزابيل الثانية من ثلاثة مشاهد (اللعب بالنار) لغرسيا دلگادو، وتأليف بربيرى». يبدو أن أول عرض قدم من طرف فرقة دلگادو، ويبقى أن تطرح الأسئلة، بعد اتفاقية السلام، وخروج الإسبان من تطوان بعد سنة من احتلالها، ماذا كان مصير المسرح الذي بني بها في سنة 1860م؟ وأظن بالتأكيد أن المؤرخين المغاربة لم يؤرخوه ضمن أخبار حرب تطوان؟»10 وقد سبب توقف مسرح إيزابيلا ، في مدينة تطوان، حسرة وكآبة للجالية الإسبانية بالمدينة، حيث عاد العسكر إلى بلدهم يجرون ذيول الخيبة والحزن . وفي هذا، يقول الكاتب إدوارود مالدونادو في مقاله عن (مسرح تطوان):» مع نهاية القرن لانستطيع سوى الشعور بحسرة كئيبة مصحوبة بابتسامة متسامحة، مع فضول منهوك للبدلات العسكرية، ياله من هراء متبجح من الافتخار الذي يكون عائدا مع الأشياء التي تكون عند الجنرال جهته اليمنى، ياله من حنين زواجي والجنرال المسند وفي يده مروحة زوجته، التي يرجعها نحوه بحنين، الكل مروا وذهبوا...»11 وهكذا، يتبين لنا بأن مسرح إزابيلا الثاني قد قام بدور هام في تنشيط الحركة الفنية والأدبية والمسرحية بمدينة تطوان ، حيث ساهم، لأول مرة، في إطلاع ساكنة تطوان على الفن المسرحي إبداعا وتشخيصا واستعراضا.