كنت كأي مغربي أملك لاقطين بالغي الحساسية، وعينين نهمتين ثاقبتي النظر، وهو أمر أشبه بأعطية سخية لرجال التحري، رغم التكتم الشديد لا يوجدفي المدينة سر، فالسيطرة على حياة الافراد، وإيقاعهم في أسر الجماعة، متاحة بما يتوفر من معلومات عنهم غير أن رجلا ... نحيلا، طويلا، ذا شعر أكرد، ولحية كثيثة مدببة، شبيه إلى حدما بمحمد زفزاف، كنت ألاقيه في غدوي ورواحي من سكناي بعرصة إهيري إلى مقهى «التجار» بحي جيليز، خارجا أو على أهبة الخروج من شقته الواقعة فوق أحد الطوابق فوق متجر النظاراتي فريداي، أو أصادفه جالسا بالمقهى. هذا الرجل كان غامضا بل مبهما لا يعرف عنه شيء، مرد ذلك إلى انزوائه المطلق فلم ير برفقة أحد، كان يجلس في كياسة فيهرع النادل نحوه، بعد مديدة، حاملا صينية بها كوبا عصير برتقال وماء، وفنجان قهوة سوداء ... يحسوها الرجل على مهل، مدخنا غيلونة، إثر شرب العصير دفعة واحدة. لم يكن يجيل بصرة ملتقطا ما يتناسل أمامه من مشاهد بل بنصرف إلى قراءة جريدتيه المعتادتين: العالم السياسي، والعالم الأدبي الفرنسيتين، حين الإنتهاء يتأبطهما ويدفع الحساب ثم ينصرف باتجاه مباني القيادة العسكرية. هذا دأبه ... كان قد شكل بالنسبة لنا، نحن الأساتذة الذين اعتدنا الجلوس متحلقين، يغالب بعضنا البعض في أحاديث ذات شجون، وكل واحد منا يبدو كديك منفوش الريش، عقدة عصية يجب أن تفك. قيل إن الرجل مخبر، وقيل إنه مخبول، وقيل، وقيل ... وتعددت الأقوال، وظل الرجل على وفاق تام مع طقسه اليومي، وظللنا تتناهبنا الحيرة، إلا مرة واحدة روؤي فيها مع فتاة أروبية استأثرت بما وهب للأنثى من جمال، كان يبادلها الحديث باسترسال ملفت، وكانت تستمتع أكثر مما تتكلم، تشير بإنحناءة بسيطة لرأسها تصديقا على كلامه. لما أنهيا حديثهما توادعا فانصرف إلى وجهته المعتادة دون أن يقرأ هذه المرة جريدتيه ... وكطائر أزف موسم هجرته، إختفى الرجل. تناوب على احتلال مقعده الأثير زبناء آخرون بينما ترك غيابه آثرا في يوميينا، والحق أن المقهى بزبنائه الدائمين أصبح صورة راسخة في أذهاننا، بصمة غريزة، فأي تغير بمثابة ثلم مزعج، غير أننا، بعد فترة، بدأ الاهتمام بأمر الرجل يتراخى ثم يفتر، وصورته تذوي، لكن الغياب الطارئ المبلبل إنتهى بأمر غاية في الغرابة والصدمة معا لنا جميعا، تبادلنا الرأي محللين ومؤولين الصورة التي ظهر عليها الرجل، إذ في موعد قدومه إلى المقهى شرع جمهور غفير يلتف حول رجل عار كما ولدته أمه. كان يصرخ، وهو يقاوم شرطيين يحاولان الإمساك به (أنا.أنا.) كانت هذه (الأنا) تعلو دمدمات وصخب الجمهور، كانت حادة وهادرة كقرع مطرقة على صفيحة ... تطوع شرطي بأن خلع معطفه، دس الرجل داخله وزرره ثم قاده إلى الفاركونيت. تفرق الجمع الكبير إلى تجمعات صغيرة. الشفاه تتحرك دون أصوات، العيون تبحلق ... وشرع الزمان في دورانه الاعتيادي لكن العقدة فكت أخيرا كما لو أن قطا متربصا يداعب بمخالبه كرة صوف. أصبح الرجل من المشمولين بمعرفتنا، وربما سبب ذلك لبعضنا شيئا من الارتياح، ولبعضنا الآخر الأسى. لقد أخبرت من أحد معارفي في سلك الشرطة أن الرجل لم يكن مخبرا أو مخبولا كما تداولنا بل كان نحاتا على نحو عال من المهارة، ظل يمارس النحت مدة طويلة، وكان هو والله يعلمان ذلك، فلم يقم معرضا، ولم تكتب عنه صحيفة ... ومكث لأمد فنان الظل بيد أنه أحس بأن شيئا ما يهرب منه كسمكة لزقة أوعصفور إنفرجت عنه كف طفل، شيء هو ذاته التي بناها في ورشته، فكان أن خرج عاريا مثلما تبارح روح طليقة الجسد الآسر ليصرخ(أنا.أنا) ويسطع كالشمس، ولكنه لم يعاود الظهور أبدا.