يشكل المقهى، الفضاء الأثير لدى أدبائنا - كتاب القصة بالأخص- بمختلف أجيالهم.حيث لا تكاد تخلو مجموعة من مجاميعهم القصصية،من تناول هذا الفضاء وما يحبل به من وقائع ونزوات. هناك من يعتبر المقهى عالمه الأدبي، بحيث أنه لا يستطيع الكتابة عن شيء آخر، خارج هذا العالم بالذات. نلتقي هنا إذن، مع المقهى في مختلف تلاوينها ومسمياتها: الحانة، المقشدة، الكافتريا، المثلجات، المطعم، البوفيت، النادي الليلي.. من هذه الفضاءات، ما هو وضيع، ومنها ما هو باذخ، أو حسب تعبير أحد الأدباء:»مكان نظيف وجيد الإضاءة». من هذه الفضاءات كذلك، ما هو محترم، ومنها ما يشكل بؤرة فساد. كل ذلك يجسد غنى وثراء لذخيرة السرد المغربي. *** الطفل الأكبر يشبه طفلا آخر كان عندها هذه السنة في الفصل. تشكلت أمامها صورة ذلك الطفل الذي لم يكن يتوقف عن طرح الأسئلة. سألها مرة عما كانت تريد أن تكون عندما كانت صغيرة. تذكر أنها أجابته «فنانة». هنا قال لها أنه يريد أن يصبح رئيسا أو ميكانيكيا ووعدها بأن يصلح لها سيارتها الصغيرة البيضاء بدون مقابل. وفي حصة الرسم كان يرسم دائما سيارة ضخمة لا تقف في الضوء الأحمر وكانت تسأله لماذا؟ كان يجيب مندهشا من دهشتها: « إنها سيارة الرئيس». كانت الأم تسحب سيجارة من علبة السجائر عندما رفض الطفلان سانسوس. مدت يدها للكأس أمامها. سانسوس لم يستطع أن يكون أقل مرارة من المعتاد، يصنعونه من البرتقال الفاسد. نفس البرتقال الذي يلوح به الأطفال الراسبون في الشهادة الابتدائية إلى سبورة النتائج. برتقال فاسد لأجل مستقبل فاسد. سانسوس عصير طبيعي مائة في المائة. المقهى أخذ يضج نوعا ما بالرواد. فتاة جميلة في الركن تقرأ جريدة وتتجاهل نظرات كل الرجال. ظلت هي صامتة تراقب الأم التي تريد أن تجعل أطفالها يشربون عصير البرتقال الفاسد. شعرت بحنين إلى الفصل لكنها الآن فصلت. كانت مؤقتة. - ما هو المؤقت والدائم في هذا البلد. أريد أن أقول ما هو الثابت والمتحول؟ - كتاب لأدونيس ضحكت لأول مرة ومدت يدها لسانسوس وقربته إلى فمها، وفي هذه اللحظة بالضبط تذكرت أنه فاسد فأعادت الكأس إلى الطاولة. تذكرت أيضا أمرا «فاسدا» آخر. نظرت إليه وفكرت. كان يردد دائما: «يجب أن تضحي، لماذا تقولين «لا» أنا أكره هذه الكلمة». كانت هي تغني أغنية فرنسية تقول إن « كل شيء لا زال على ما يرام، لكني حزينة وأريد أن أبتعد «. بعد ذلك حدثت أشياء كثيرة ورديئة حد السخافة. ربما كتبت ما حدث يوما ما، ربما دونت هذه المرارة كلمات. ربما. - بماذا تفكرين؟ - أفكر في قصة قصيرة، ربما أكتبها هذا المساء. - قصة قصيرة؟ أنكون بطلاها؟ - ستكون بدون أبطال، مجرد أشباح في مقهى فارغ:»قدح من القهوة، ومقهى فارغ». - قصة حزينة؟ - لا، قصة سخيفة. - كيف ستبدأ؟ - أعطني ورقة، قد أبدأها الآن. - أخذت الورقة منه، وسحبت قلما من حقيبتها، ثم كتبت :»وضعت الحقيبة قربها، وظلت تنظر إلى الفراغ، مد هو رجليه بكسل أمامه.