تحل ذكرى رحيل فقيد الشعر العربي الحديث- المعاصر محمود درويش (1941 2008) ويحل معه طيفه يلقي نصوصه في قاعة (علال الفاسي / اكدال)، في مسرح (محمد الخامس) في قاعة المعرض (مكناس)، في (الناظور) وفي مدن أخرى، وجالسا في (نزهة حسان) ذات صيف بعيد أصبح الآن مضمخا برائحة كل شعره الحاضر فين رغم أنف الزمن. جاء- يجيء درويش من مكان ما في الذاكرة المغربية المشتركة، من كل الأمكنة التي تسكن نصوصه المختلفة الشعرية والنثرية كما تسكن جسده، يجيء (كان) إلى الرباط، إلى المغرب، كما يجيء الآن لنتوجه عريسا وإن اختفى فجأة ليجعلنا أحياء لا نموت في شعره، لأنه لم يختف وسيظل حاضرا بيننا بكل ماله وبكل ما يملكه، بكل ما بناه وشيده من صروح الشعر واللغة والبلاغة وقوة الذهاب عميقا في الصياغة والصوغ والسبك الأسلوبي للمجازات والكنايات المشعة بلا حد ولا حدود. حضرت قراءاته كما قرأت أغلب نصوصه الشعرية وبعض مقدمات مجلة (الكرمل) وأقرأ أخرى باستمرار، أستحضرها، أتخذها منارات لنصوص أكتبها بين الحين والآخر، أستلهم احتمالاتها وممكناتها، أنصت إليها عندما أصاب بالتلف كي أرمم الهوية المشروخة، شعره كأنه الكيمياء، سماد التيه، بوصلة الفجيعة، سفينة إبحار، هو الشاعر الذي يحول الكتابة إلى جداول وأنهار ومحيطات إلى أرض بديلة عن الأرض التي نراها، لكن هو يستنشقها عبقا في شعره بكل تضاريسها الترابية والنباتية والمائية المطرية. وأنت تقرأ شعره تحس أن كل شيء يتحرك، وفي شعره تقبل عناصر الكون والتكوين، تتحرك الأساطير والحكايات البسيطة كما الحكايات المركبة الضاربة والكتب المقدسة والملاحم وفي كتب التاريخ والدين والميتافزيقا ومايروج من كتب الرأي والإبداع في القصة والرواية والمسرح. شعر كأنه الكيمياء لأن درويش لا يحاكي، لا يرضى بالثابت. يبحث في الممكن. يهز اللغة لتساقط ثمرا. يرتب الجمل. يشحذ الإيقاع. يحرر الموسيقى. كل نص لدى درويش مغامرة، والشعر ارتحال في خرائط الهوية الجمعية كونيا، كما أن كل لقاء مع محبيه، أكاد أقول مريديه، من قراء شعره ونصوصه احتفال بجدل الحضور- الغياب في صراع حضارتنا العربية، بكل حمولاتها الثقافية والإبداعية والفكرية، مع ذاتها أولا قبل صراعها مع »»الآخر».« الآخر يكمن فينا وليس حولنا فقط للحظة تبدو عابرة لكنها دفينة في كل ما يجعلنا من صناع القرار رغم أننا لا نملك موقعا، إلا في حدود مرسومة تحدها الخرائط داخل جغرافية متناثرة تتآكل شيئا فشيئا. محمود درويش يشبه الجميع ولا يشبه أحدا، لأنه هو، ولأنه هو، يتوزع فينا وفي العالم نبتة برية عصية على الاقتلاع كما هي حالة أرض فلسطين، أرض الأنبياء وأرض الحكمة الطليقة والتراجيديا التي تكتفي بتصفية الحساب دراميا في غفلة تشبه غفلة أهل الكهف لسذاجة ما أو لرغبة في النجاة في الالتباس والاحتباس» أنج سعد، فقد هلك سعيد» ،كأن المشهد صحراء قاحلة لا واحة فيها ولا ماء ولا شجر أونأمة،ورغم أن شعر محمود درويش محسوب على «الغنائية» وحدها، فإن نصوصه في مجملها يمتزج فيها التراجيدي بالملحمي وبماهو أكثر من ذلك، ويحتاج إلى تصفيف آخر على مستوى الملفوظ والرؤية والوعي الممكن كحالة الشعراء الكبار الذين لا يجود بهم الزمن، أي زمن، كل الزمن ربما في شعره نابغة وزهير وطرفة وأخطل ومتنبي وشابي ولوركا وأراغون ومالارميه ورامبو ونيرودا وحكمت وهوميروس، وفي شعره أيضا حلاج وتوحيدي وابن عربي. هل نسمي نصوصه »»متعددة الصوت»« أم نقول عن شعره »»متعدد الصو«ت؟ أفضل الصفة الثانية، وأترك للمهتمين والقراء والنقاد حق العبور إلى مكنونات شعره من خلال نصوصه دواوينه حتى لا نسقط في دائرة مغلقة تجعل الفقيد مجرد شاعر ارتبط بقضية واحدة أو باتجاه واحد أو انتماء مغلق خاصة عندما نفكر في »»الموضوعا«ت» وحدها، أو في »»شعرية«« القصيدة كما هي في تكوينها وصورتها النهائية. شعر درويش متعدد الصوت، لأن الذي «يتكلم«« في النص ليس هو الشاعر وحده، بل الشاعر وما فيه من شحنات وتقلبات، ولذلك يأتي شعره عبارة عن »»طيات»« (des plis)، عن »»طبقات»« الظاهر فيما يترجم ما يعتمل في الخفاء كثقافة وفكر وتكوين وخبرة وصناعة وصنعة وتقدير للمتلقي والقارئ والناس كافة. »شعر درويش وليد جينيالوجيا متصلة من النصوص الحاضرة الغائبة، إنما جينيالوجيا تقاوم النسيان والتلف والغياب والموت والمحووهي تعانق العذاب واليومي، ومن خلال هذه الجينيالوجيا نحس بوقع صراع الإنسان مع المصير حتى لا نقول القدر ونجعله سيزيف أو هاملت، وحدهما. شعر محمود درويش أيضا شعر يواكب السياقات ويغترف من الأنساق.لا شيء يعبر إلى نصوصه، إلى شعره، كما هو، وكل شئ، كل رمز، كل علاقة، كل لفظة، عبارة،صورة،كل مقطع،كل هذا، متصلا ومنفصلا، يمر بمكابدة وبصيرة ومعاناة وألم واحتدام ليأتي إلينا مشرقا، مقنعا، نابعا من إلحاح الشاعر على تقدير وظيفة الشعر واللغة والمتلقي. أما نثره، نصوص، مقدمات، شهادات، فهو -هي محطات لزواج الشعر والنثر والكتابة السياسية ممتزجة بالفكر والجدل والمطارحة مغترفة من حقول المعرفة المختلفة، دينيا، فلسفيا، تاريخيا، ونجد فيها أيضا ما يربطها بجينيالوجيا نصوص غائبة يحاورها صوت الشاعر بهدوء وبعناية كبرى تترصد المفارقة وتجسد الاختلاف. رحم الله شاعرنا الفقيد محمود درويش وجعله على الدوام حاضرا فينا رغم غيابه المادي، وقد غيبه الموت، كما غيب و جها آخر من وجوه فلسطين، هو إدوار سعيد وإميل حبيبي وغسان كنفاني، وكم أتمنى كغيري أن تطلق أسماء هؤلاء على مرافق أومكتبات أو جامعات أو مراكز ثقافية في المغرب وفي شتى أقطار ما تبقى من العالم العربي، وأتمنى -بالمناسبة- أن يخص اتحاد كتاب المغرب أو بيت الشعر محمود درويش بتظاهرة ما (ندوة، حلقة دراسية) أو تخصيص عدد ما من أعداد «»آفاق»« أو ««بيت الشعر»:« محمود درويش ملك للجميع والمغرب، بالنسبة إليه، وطن رمزي، لأن له فيه أصدقاء كثيرون، شعراء، كتاب، فنانون، أدباء، نقاد، باحثون، رجال سياسة، طلبة، كلهم لا فرق لديهم في محبته ومحبة فلسطين وفي عشق الشعر والقصيدة الدرويشية بالذات لما تحمله وتؤشر عليه من عمق وقوة في الرمز والإيحاء و قلق الهوية والكتابة وتمثل الكون بكل رحابته وقلقه وعنفه وأسئلته الفارقة. عمت مساء درويش، حيث أنت في رام الله وفي قلوب المغاربة، ياسليل الغربة والارتحال عبر تخوم الهوية.