ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إريك رولو و كواليس الشرق الأوسط 25 : أبو إياد و حكاية شجرة البرتقال
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 12 - 08 - 2013

«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية .
بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو.
و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،.
في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس.
و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان.
لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير.
كان الإسرائيليون يشجبون مكر ياسر عرفات حين يمتنع عن مُحاربة التنظيمات التي تقوم، ضدا على تعليماته، بأعمال إرهابية. و قد حصل ذلك في سبتمبر 1970 حين قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش) بتحويل مسار طائرات مدنية نحو الأردن ? في مطار غير رسمي كان يُدعى مطار الثورة- و احتجاز ركابها كرهائن. هذا العمل الذي تم بدون استشارة أو إخبار عرفات، ألحقت به ضررا كبيرا، إن لدى الرأي العام العالمي أو لدى الملك حسين، الذي ، مُستاءً من العار الذي لحق به، شن الهجوم الذي سينتهي بطرد جميع الفدائيين من المملكة الهاشمية. لقد أدان عرفات حقا و بشدة عمل القرصنة هذا، لكنه، و عكس كل توقع، امتنع عن إقصاء الجبهة الشعبية من المركزية الفلسطينية المقاومة. و كانت العقوبة القصوى في نظره هي «تعليق» عضويتها موقتا من قيادة منظمة التحرير.
كان يتصرف نفس التصرف حين تتحداه مجموعات أخرى، طيلة السنين، باقترافها عمليات إرهابية. و لأن القادة الإسرائيليين يرفضون التمييز بين الحبة الجيدة و الزؤان، فإنهم يُحَملون الزعيم الفلسطيني مسؤولية كافة الجرائم التي يقترفها خصومه السياسيون. و لم تكن الفائدة المحصودة من هذا الخلط بالطفيفة.
و كمثال على ذلك، تبريرُ «أرييل شارون» للهجوم الذي شنه ضد منظمة التحرير بلبنان في يونيه 1982، بمحاولة الاغتيال التي تعرض لها السفير الإسرائيلي بلندن، و التي نسبها إلى الزعيم الفلسطيني. مع أن العملية قد أعلنت مسؤوليتها عنها المجموعة المنشقة لأبي نضال، و هي المنظمة التي ما كفت عن اغتيال الأطر العُليا للمركزية الفلسطينيين للفدائيين، كما حاولت مرارا اغتيال عرفات نفسه. هل كان أبو نضال عميلا لإسرائيل؟ هل كانت منظمته مُخترقة من عملاء الموساد؟ على أية حال فقد كان يقوم بعمل القاتل المأجور لعدة أنظمة عربية مُعادية لعرفات، خاصة أنظمة سوريا و العراق و ليبيا.
و رغم نصح مسؤولين كبار في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، المستفيدين من دروس تاريخهم الخاص، لياسر عرفات ب»التصفية الجسدية» لأعدائه أو خصومه الذين يعوقون عمله، إلا أن جوابه الدائم كان أن هذا ليس أسلوب عمله. بل كان يمتنع حتى عن معاقبة مساعد غير كُفء أو غير مخلص، بل يكتفي بحرمانه من منصبه مع مُجازاته في بعض الأحيان بوظيفة عاطلة. لقد كان يريد قبل كل شيء أن يكون جامعا للرجال. و هو أمر حيوي للشعب الفلسطيني بسبب التنوع الكبير للشعب الفلسطيني الذي يعيش في إسرائيل، و في الأراضي المحتلة، أو مُشتتا عبر العالم. و قد أعطى مثالا على ذلك منذ أولى أنشطته السياسية: ففي سنة 1952، أصر على أن تكون كافة الحساسيات، من الإخوان المسلمين حتى الشيوعيين، مُمثلة داخل اتحاد الطلبة الفلسطينيين بالقاهرة، و هو الاتحاد الذي ظل رئيسا له لمدة خمس سنوات.
و في سنة 1969 ، غداة عشائنا لدى الأخضر الإبراهيمي، نجح في ضم حوالي 15 حركة أو مجموعة فلسطينية داخل منظمة التحرير، على حساب حركته «فتح»، التي كان من شأن أهميتها العددية أن تحقق له احتكار السلطة. كما ضمن لهم تمثيلية داخل المجلس الوطني الفلسطيني و في اللجنة التنفيذية، أعلى هيآت منظمة التحرير الفلسطينية. و قد كان الإسلاميون وحدهم، من رفض التعايش مع هؤلاء «الملاحدة» مثل عرفات و شركائه الوطنيين.
و كان أبو عمار يفرض الاحترام، ضمن أمور أخرى، بسبب حياته الخاصة المتقشفة. فالعامل الشخصي مهم جدا، أكثر من أي مكان آخر، في عالم عربي يصدم فيه قادته النفوس بسبب الحياة المتحللة التي يعيشونها. كان يأكل قليلا - حتى حين يقدم مآدب فخمة لضيوفه- و لا يتناول المشروبات الكحولية، و لا يدخن، و كان يشتغل خمسة عشر إلى ثمانية عشر ساعة يوميا، ولا ينام إلا قُبيل الفجر. لم يكن يعرف توقفا أو عطلة أو لهوا منتظما. و لا تُعرف له علاقات غرامية. و لم تنته عزوبته الطويلة ? كان يقول : «لقد تزوجت فلسطين»- إلا في الستين من عمره، بزواجه من سُهى، إبنة رايموندا الطويل، المناضلة الوطنية الأصيلة.
و لأسباب أمنية، لم يكن يتوفر على أي سكن ثابت، و كان لا ينام إلا نادرا، عدة ليال في مكان واحد. خلال منفاه في تونس، مثلا، كان يُعتقد أنه يتوفر على حوالي عشرة مساكن في أركان المدينة الأربعة. و كان لا يستقبل الصحفيين و باقي الزوار، إلا نادرا، قبل منتصف الليل ، حين يتقاطع تعبهم مع طاقته المتجددة. و كان الحوار نفسه امتحانا لصبر الصحفي، فقد كان كثير الكلام ذرب اللسان، يرد على السؤال بفقرات طويلة دون توقف. و كان ينبغي العودة للسؤال مرارا عديدة، بدون أي ضمان للحصول على جواب مضبوط. فبدون إصرار و صبر، يمكن للحوار الصحفي أن يتحول إلى لاشئ.
و قد كانت لي فرصة رؤيته جالسا خلف مكتب تتراكم فوقه ملفات و وثائق يقرأها باهتمام، و نظاراته فوق أنفه، يقوم مرة مرة بوضع أسطر حمراء تحت الجمل الدالة. لم يكن أي شيء في الصحافة الإسرائيلية يفوته،و ذلك بفضل المقالات المترجمة من العبرية التي تُقدم له. و بين هنيهة و أخرى، كان يرفع عينيه لينظر إلى شاشة تلفزيون تبث الأخبار باستمرار، فكان يرفع صوت الجهاز أو يُسكته نهائيا حسب الأهمية التي تشير إليها الصور المبثوثة (كان يحصل له نادرا، كما قيل لي، أن يستريح بالتفرج على شريط من الرسوم المتحركة). و خلال حواراتنا كان يُجري بعض الأحيان مكالمات هاتفية قصيرة مع «سفرائه» في البلدان المائة، التي اعترفت، في الثمانينات، بتمثيلية حركته.
كانت حاجيات القائد الفلسطيني قليلة. إذ يذكر مُساعدوه أنه لا يملك سوى بدلتين: حينما يرتدي واحدة، تكون الأخرى في المصبنة. و بقي نمط عيشه بدون تغيير حتى حينما أصبح في التسعينات، رئيسا للسلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة من إسرائيل. و كانت سهى، زوجته، تشكو لكونه يحرص على أن يرفو جواربه أو يعيد خياطة أزرار ملابسه بنفسه. كان سكنه متواضعا، كما كان في المنفى. في سنة 1985 ، و بعد قصف مقر قيادته بتونس من طرف الطيران الإسرائيلي، حرص على أن أزور غرفة نومه التي أصابها صاروخ إصابة مباشرة نجا منها. كانت الغرفة، و هي من ثلاثة أمتار على أربعة تقريبا، مفروشة بشكل متقشف، فراش موضوع على الأرض مباشرة و مكتب عمل صغير يتاخم جدارا امتدت على ارتفاعه خزانة مليئة بالكتب العربية و الانجليزية. تناول كتاب السيرة الذاتية للجنرال «عايزر زايزمان»، مُعبرا عن إعجابه ببطل حرب الأيام الستة، «الصقر الذي تحول إلى حمامة» كما قال. كانت تلك هي الفترة التي كان يبحث فيها عرفات بفارغ الصبر، عن مُحاورين إسرائيليين مستعدين للتباحث حول دولة فلسطينية في الضفة الغربية و غزة.
لم تكن الحياة المتقشفة التي يحياها، هي السبب الوحيد في الشعبية الكبيرة التي يحظى بها داخل شعبه. فشجاعته البدنية كانت أسطورية كذلك، رغم أنه لم يقاتل تقريبا أبدا بالسلاح. بيد أنه كان يخوض مخاطر حقيقية بتواجده في ميادين المعركة ، في الكرامة (الأردن) سنة 1968، حين جرت مواجهة قاسية - الأولى- مع القوات الإسرائيلية، و في الأردن سنة 1970، خلال الحرب ضد الجيش الأردني، و التي قاد خلالها المقاومة، و في لبنان خلال الحرب الأهلية سنة 1975، و في لبنان أيضا سنة 1982، حين كان عليه التنقل تحت وابل من القذائف التي يطلقها المُحاصرون الإسرائيليون، و التي كان الكثير منها يستهدفه شخصيا، و بعد بضعة شهور في طرابلس، شمال بلاد الأرز، بتنظيمه المقاومة ضد مُنشقين فلسطينيين تساندهم القوات السورية، و ثلاثة شهور بالكاد بعد حرب الستة أيام، قام وحيدا، بمهمة تتطلب جُرأة خاصة، و تتمثل في التسلل إلى الأرض المحتلة، متنقلا تحت أقنعة مختلفة أمام أعين أجهزة الأمن الإسرائيلية، حيث أجرى اتصالات مع بعض الأعيان و المثقفين، و أنشأ خلايا للمناضلين في مختلف المدن، خصوصا منها نابلس و الخليل و القدس. و كاد يُعتقل خلال هذه المهمة في أكثر من مناسبة.
لم يكن عرفات يقبل بالهزيمة أبدا.ففي كل المرات التي التقيته فيها بعد هزيمة عسكرية حقيقية، كان ينظر في عيني مباشرة لكي يقول أنه ‹انتصر»،مبررا ما حصل بالتفوق العددي للعدو و المقاومة البطولية لمقاتليه و التدخلات الأجنبية الخفية. و قد فعل ذلك خلال هزيمتين رئيسيتين: في الأردن، حين اجتث الجيشُ الأردني الفدائيين سنة 1970 ، و في لبنان حين دمرت قوات الجنرال شارون، سنة 1982 ، البنيات التحتية لمنظمة التحرير قبل طرد مجموع القوات الفلسطينية خارج البلد.
توصلت في مرة من المرات إلى أن أستخرج، خلال حوار معه، ما وافق عرفات على تسميته ب»النقد الذاتي». جرى الحوار في عمان غداة انهيار المقاومة الفلسطينية في المملكة الهاشمية. و ينبغي قراءة نص تصريحه بتمعن كي نقيس مدى المهارة التي نجح بها في أن يُحمل مسؤولية الهزيمة للآخرين: أي لمحيط الملك حسين، و الحركات الفلسطينية المنافسة لفتح و إسرائيل و البلدان العربية السلبية دون نسيان المخابرات المركزية الأمريكية . فقد أجابني : « نعم، لقد ارتكبنا أخطاء استُغلت كمبررات من طرف أعداء المقاومة الفلسطينية». و لم يكن على خطأ في ما قال، لكنه نجح في التقليل أو في إلغاء مسؤوليته الخاصة. فبإنكاره للهزيمة، حافظ على معنويات قواته و شعبه، اللذين يعدهما بمستقبل رائع. و كان شعاره المفضل الذي غالبا ما يختم به خطاباته، يُلخص تفاؤله القيادي : «العام القادم في القدس». فهو بذلك قد استعار شعار اليهود المتدينين و الصهاينة قبل إنشاء دولتهم. و كانت الإشارة واضحة إلى أن الفلسطينيين المشتتين المحرومين من وطنهم و المقموعين فوق أرضهم، سينتصرون كما انتصر أعداؤهم من قبلهم.
لم يكن المقربون من «الختيار» رُحماء به، بمن فيهم أقرب مساعديه. فعلى عكس الأعراف المعمول بها في باقي العالم العربي، لم يكن شخص الزعيم، يحظى لدى الفلسطينيين بأية حصانة. و قد كنت شاهدا، خلال مأدبة غداء أقامها عرفات، على جدال حاد بين الوزير المكلف بتحرير دستور الدولة المقبلة، نبيل شعت، و بين شابة مكلفة بمهمة لدى عرفات، هي ماري الصراف، و كانت تجلس إلى جانبي. فقد كانت هذه الأخيرة تطالب بالاعتراف بديانتها المسيحية، و تتهم شعت برغبته في جعل الإسلام دين الدولة، كي يحصل على تأييد الإسلاميين له. و فجأة التفتت مساعدة عرفات نحوه كي تطلب رأيه، و دون أن تتخلص من غضبها، أضافت أنها ستستقيل فورا من منظمة التحرير إذا تضمن مشروع الدستور أدنى إشارة إلى الإسلام. و كجواب خفض «الختيار» رأسه قائلا أنه لم يطلع بعد على النص. و بذلك تفادى القول بأنه لم يحسم بعد الخلاف الذي كان يقسم قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت في معظمها تؤيد قيام دولة لا دينية.
كان ياسر عرفات غالبا ما يلقى المعارضة في محيطه، و كذا في البرلمان بل و في الشارع، حيث كثيرا ما كنتُ أسمع انتقادات و اتهامات شديدة له. حرية التعبير هاته التي لا وجود لها في أي مكان بالعالم العربي، كانت تخدع الكثير من المراقبين، الذين كانوا يظنون بأن أبا عمار قد وصل إلى نهاية مساره. لكن الفلسطينيين، في الواقع، يعتبرونه مثل والدهم، الذي قد يُخطئ لكنه والد محترم و محبوب. بل إنهم جعلوا منه إيقونة، كما ستؤكد ذلك استطلاعات الرأي عقب وفاته.
هذا الارتباط الغريب له تفسيره. فمواطنوه كانوا مدينين له بكونه جلب لهم الاعتراف بهويتهم الوطنية، التي طالما تعرضت للتجاهل و خصوصا لكونه أعاد لهم كرامتهم. فقد غرس القضية الفلسطينية عميقا في الساحة الدولية. و حول منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تعتبر في البداية منظمة إرهابية، إلى حركة تحرير وطنية تحظى بالاحترام عبر العالم، بما فيه إسرائيل، حين وافق إسحق رابين سنة 1993، خلال اتفاقيات أوسلو، على اعتبارها «الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني».
ففي نظر شعبه، كان سبب إخفاقاته في التحليل الأخير هم أعداء الفلسطينيين: فحتى وفاته نُسبت إلى أرييل شارون، الذي سممه. و هو كما قال الشاعر محمود درويش «قد ألغى الحدود بين الواقع و الأسطوري، لم يحدد الطريق بل حفرها بين حقول الألغام».
في إسرائيل كما في الغرب، و طيلة حياته، تعرض للشيطنة بشكل منهجي أكثر من أي واحد من سابقيه من زعماء العالم الثالث - مصدق، كنياتا، عبد الناصر، لومومبا أو مانديلا...- و على غرارهم ، و أكثر تم اتهامه بالإرهاب و بالفاشية و بالعمالة للكريملين. و لم تكن جريمته هي ما يُقال، أي رفضه للسلام، بل رفضه الدائم اقتطاع جزء من الضفة الغربية و خلق «بانتوستانات» على باقي الأرض المحتلة.
كان المستشار النمساوي «برونو كرايسكي»- الذي اتهمه مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه «يهودي خائن»- يُقدر عاليا الزعيم الفلسطيني، الذي كانت له معه عدة اتصالات متوالية. فمنذ 1979 صرح ‹كرايسكي» لمراسل صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن «ويلي براندت (المستشار الألماني السابق و الحائز على جائزة نوبل للسلام) و أنا نفسي فوجئنا برؤية رجل مختلف عما وصفوه لنا، مختلف عما تخيلناه معا». و بعد أن أشاد بوطنية القائد الفلسطيني و بإرادته إقامة دويلة إلى جانب إسرائيل، نصح بالشروع فورا بمفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية، كما أوصت بذلك تماما المجموعة الأوربية خلال مؤتمر البندقية في يونيه 1980. و هو ما فعله «إسحق رابين» بعد ذلك بخمسة عشر عاما بتوقيعه اتفاقيات أوسلو.
و نفس الرأي عبر عنه «يوري أفنيري»، المناضل الإسرائيلي من أجل السلام، الذي كتب سنة 1982: «لقد التقيت طوال حياتي، بزعماء سياسيين كثيرين و بمشاهير دوليين، لكني لم ألتق رجلا تختلف صورته العمومية كثيرا عن شخصيته في الواقع»
و أعترف بدوري ، أني كنت متحفظا تجاه عرفات خلال تلك المأدبة لدى سفير الجزائر بالقاهرة، من المحقق أن مدة اللقاء كانت قصيرة نسبيا، و أن الزعيم الفلسطيني لم يكن قد أنضجته التجارب بشكل كاف، و أن استراتيجية منظمة التحرير، كما قدمها بدت لي حينها تبسيطية. لكن شخصية و تصريحات صلاح خلف، و إسمه الحركي هو أبو إياد،أحد مؤسسي «فتح»، قد أثرت في أكثر.
فقد كان أبو إياد، أصغر سنا من عرفات ببضعة أعوام، و كان رفيقه المُخلص منذ سنوات دراستهم الجامعية. كان ذا شكل مقبول، مرتديا بدلة تدع بدانته الخفيفة في الظهور، لم يكن يعتمر كوفية و لا نظارات سوداء، حليقا مع نظرات تشع ذكاء تحت حاجبين كثيفين و فاحمين، كان شعره الأسود الكثيف يؤطر صلعة وليدة ، هذا المعلم السابق للعربية و علم النفس في مدارس غزة يتحدث بسهولة و وضوح. فبعرضه فلسفة فتح تجاه العالم العربي ?و هو موضوع يتفاداه عرفات دوما- جعل المواجهات التي ستطبع العلاقات العاصفة القادمة بين الفلسطينيين و «أشقائهم» العرب معقولة و مفهومة. و قد أثارت صراحته تفاجؤ السفراء العرب الذين كانوا يحيطون بالطاولة.
فبابتسامة ، طفق عرضه بالحكاية البليغة التالية: كان هناك فلاح يحاول جني ليمونة ناضجة و مشهية بتحريك شجرتها بقوة، لكن و أمام مفاجأته الكبرى، ظلت البرتقالة متمسكة بقوة بالشجرة في حين تساقطت باقي البرتقالات ?و عددها ثلاثة عشر في المجموع- الواحدة بعد الأخرى. كانت مُتعفنة مثلها مثل أعضاء الجامعة العربية الثلاثة عشر، بينما كانت البرتقالة الصامدة هي إسرائيل، التي ستقاوم مدة أطول. التزم السفراء العرب الحاضرون، و قد ظهر بوضوح امتعاضهم، الصمت، فيما كان بعضهم يبتسمون ابتسامة محرجة. لا أحد منهم غادر المائدة احتجاجا. و قد كان المشهد يعكس بجلاء موازين القوى بين الحكومات العربية التي فقدت مصداقيتها بسبب هزيمة 1967 من جهة ، وبين حركة شابة قوية و مقاتلة، متمتعة بشعبية هائلة في الشرق الأوسط و أبعد. فقد نشرت مجلة «تايم» الأمريكية على صدر غلافها صورة عرفات تحت عنوان «رجل سنة 1968». مما اضطر الملك حسين، المعروف بالرعب الذي تخلقه المقاومة الفلسطينية في نفسه إلى القول «كلنا فدائيون».
أما الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي كان يحذر من عرفات و صحبه، حذره من الطاعون، و كان يعتبرهم مثل «إخوان مسلمين» خطيرين ، فقد سلمهم «القوقعة الفارغة» لمنظمة التحرير قبل أن يُضاعف المحاولات من أجل تقديمهم إلى الكريملين، الذي كان يعتبرهم بدوره «مغامرين خطرين». و أمام فشله في إقناع السوفييت باستقبالهم، ضم عبد الناصر ياسر عرفات إلى وفد كان يقوده لموسكو، بعد سنة على هزيمة 1967، مُزودا إياه باسم مستعار و بأوراق تعريف مزورة. و لم يتم استقبال عرفات، على مضض، إلا من طرف لجنة التضامن الإفريقية-الآسيوية المتواضعة، و هي منظمة غير حكومية نظريا. فمثل الغرب، كان السوفييت يعتبرون أن المشكل الفلسطيني سينحل بشكل تلقائي بعد الانسحاب الإسرائيلي من الأرض المحتلة.
خلال عشائنا لدى السفير الجزائري، لم يحتج أبو إياد إلى شرح كثير حين قال بنبرة واثقة : «كل الثورات العربية في فلسطين تم إجهاضها في العواصم العربية». كان كل الجالسين حول مائدة العشاء يعرفون تاريخ الشرق الأوسط بما يكفي كي يفهموا الإشارة. فالفلسطينيون يلومون «أشقاءهم» على لامبالاتهم خلال تصريح بلفور سنة 1917، الذي عرضت بريطانيا من خلاله لليهود «وطنا قوميا» في فلسطين، وعلى سلبيتهم خلال الانتفاضة الشعبية ما بين 1936 و 1939 ضد الانتداب البريطاني، و على عجزهم عن منع تقسيم وطنهم في 1947-1948 ، و على تغييبهم للمشكل الفلسطيني خلال عقدين من الزمن في محاولة لحل المشكل المُتفرع عنه، أي النزاع الإسرائيلي- العربي بين الدول، و أخيرا على إغلاقهم الحدود أمام فدائيي فتح الذين كانوا يحاولون التسلل داخل إسرائيل قبل حرب 1967.
و بذلك كان أبو إياد و رفاقُه من قادة منظمة التحرير الفلسطينية يتغاضون، دون حق، عن أسباب هذه «الخيانات» المتوالية: فمُعظم الدول العربية لم تكن إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية مُستقلة حقا و لم يكن بإمكانها التحرك ضد القوى الغربية المؤيدة للصهيونية و لدولة إسرائيل. و هناك خطأ آخر، أخطر، و هو اعتقاد الفلسطينيين بأن على الدول «الشقيقة» أن تُغلب مصالحهم على حساب مصالحها هي نفسها، و أن الوحدة العربية ستتحقق خلال الكفاح المشترك من أجل «تحرير فلسطين» و ليس العكس، كما يؤمن بذلك القوميون العرب.
و سيؤدي القادة الفلسطينيون ثمن هذا التعالي المتمركز حول الذات في السنة الموالية، سنة 1970، خلال النزاع الذي سيندلع بين الجيش الأردني و مجموع الفدائيين، و قد أدى اندحار هؤلاء الأخيرين، إلى منعطف رئيسي في سياسة منظمة التحرير الفلسطينية.
الحلقة المقبلة: حرب الاستنزاف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.