نتانياهو سيخضع لعملية جراحية لاستئصال البروستاتا جراء عدوى أصابته في المسالك البولية    داخل جمعية!!.. محاولة فتاتين وضع حد لحياتهما بمادة سامة تستنفر السلطات بطنجة    الماص يقلب الطاولة على الوداد في البطولة الاحترافية    منتخب الكراطي يحصد 20 ميدالية في البطولة العربية    النيابة العامة تحيل سائقي "الطاكسيات" المعتقلين في الرباط على قاضي التحقيق    بعد لقاء الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني.. الرباط ونواكشوط يتجهان لإحياء اللجنة العليا المشتركة بينهما    بوتين يعتذر عن حادثة تحطم الطائرة الأذرية دون تحميل روسيا المسؤولية    إحداث 7912 مقاولة في جهة الرباط    ارتفاع مفرغات الصيد البحري بميناء الحسيمة    وحدة خفر السواحل تواجه عطبا مفاجئا وتعلق بين الصخور    زياش يشترط على غلطة سراي مستحقاته كاملة لفسخ العقد    الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان تؤدي مهمتها على أكمل وجه    حيار: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة لا تتعدى حدود الشريعة الإسلامية    ليكيب: حكيمي والكعبي في التشكيلة المثالية لإفريقيا لعام 2024    بحضور أزولاي.. لقاء ثقافي بالصويرة يبرز أهمية المكان في تشكيل الهوية    خنيفرة تحتضن المهرجان الدولي للقصة القصيرة    كلميم..توقيف 394 مرشحا للهجرة غير النظامية    وفاة ملاكم بعد أسبوع من فوزه باللقب الذهبي لرابطة الملاكمة العالمية    القضاء يدين محمد أوزال ب3 سنوات ونصف حبسا نافذا    عملية أمنية تنتهي بإتلاف كمية مخدرات بوزان    قوات إسرائيلية تقتحم مستشفى بشمال غزة وفقدان الاتصال مع الطاقم الطبي    المغرب داخل الاتحاد الإفريقي... عمل متواصل لصالح السلم والأمن والتنمية في القارة    حملة مراقبة تضيق الخناق على لحوم الدواجن الفاسدة في الدار البيضاء    تأجيل تطبيق معيار "يورو 6" على عدد من أصناف المركبات لسنتين إضافيتين    غزة تحصي 48 قتيلا في 24 ساعة    الاحتفاء بالراحل العلامة محمد الفاسي في يوم اللغة العربية: إرث لغوي يتجدد    الداخلة : اجتماع لتتبع تنزيل مشاريع خارطة الطريق السياحية 2023-2026    "العربية لغة جمال وتواصل".. ندوة فكرية بالثانوية التأهيلية المطار    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    خبراء "نخرجو ليها ديريكت" يناقشون موضوع مراجعة مدونة الأسرة    ارتفاع ليالي المبيت بالرباط وسط استمرار التعافي في القطاع السياحي    اليابان.. زلزال بقوة 5.1 درجة يضرب شمال شرق البلاد    حصيلة الرياضة المغربية سنة 2024: ترسيخ لمكانة المملكة على الساحتين القارية والدولية    ترامب يطلب من المحكمة العليا تعليق قانون يهدد بحظر "تيك توك" في الولايات المتحدة    حجم تدخلات بنك المغرب بلغت 147,5 مليار درهم في المتوسط اليومي خلال أسبوع    مطالب بإنقاذ مغاربة موزمبيق بعد تدهور الأوضاع الأمنية بالبلاد    فرح الفاسي تتوج بجائزة الإبداع العربي والدكتوراه الفخرية لسنة 2025    مجلس الأمن يوافق على القوة الأفريقية الجديدة لحفظ السلام في الصومال    عائلة أوليفيا هاسي تنعى نجمة فيلم "روميو وجولييت"    دراسة: أمراض القلب تزيد من خطر اضطراب الخلايا العصبية    استثناء.. الخزينة العامة للمملكة توفر ديمومة الخدمات السبت والأحد    مبادرة مدنية للترافع على التراث الثقافي في لقاءات مع الفرق والمجموعة النيابية بمجلس النواب    سطاد المغربي يهدد صدارة رجاء بني ملال    وفاة زوج الفنانة المصرية نشوى مصطفى وهي تناشد جمهورها "أبوس إيديكم عايزة ناس كتير تيجي للصلاة عليه"    البرازيل: ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار جسر شمال البلاد إلى 10 قتلى    اقتراب مسبار "باركر" من الشمس يعيد تشكيل فهم البشرية لأسرار الكون    يامال يتعهد بالعودة أقوى بعد الإصابة    المدونة: قريبا من تفاصيل الجوهر!    2024.. عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية بين المغرب وقطر    استهلاك اللحوم الحمراء وعلاقته بمرض السكري النوع الثاني: حقائق جديدة تكشفها دراسة حديثة    الثورة السورية والحكم العطائية..    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إريك رولو و كواليس الشرق الأوسط
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 08 - 2013

هناك بعض الأحداث التي لا تُنسى. و من بينها ذلك العشاء الذي أعده سفير الجزائر بالقاهرة، السيد الأخضر الإبراهيمي، في فبراير 1969. فخلاله تعرفت لأول مرة على المؤسسين الرئيسيين لحركة «فتح»، على رأسهم ياسر عرفات، و الذين كانوا يقومون بداهة بعملية علاقات عامة. أتخيلهم من جديد اليوم، جالسين حول مائدة بيضاوية طويلة، و أكتشف بأنهم في معظمهم قد انتهوا ضحايا عمليات «اغتيال انتقائية» نفذتها الأجهزة السرية الإسرائيلية.
في اليوم الموالي، كان على حركة فتح و المنظمات الفدائية الأخرى أن تملأ «القوقعة الفارغة» لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد إقالة رئيسها، أحمد الشقيري، صنيعة الجامعة العربية و الأداة الطيعة للرئيس المصري جمال عبد الناصر. كان ذاك عهد جديد ينفتح: فعلى منظمة التحرير الفلسطينية أن تتحرر من سيطرة «الأشقاء» العرب، و إرساء قواعد مقاومة أصيلة تطمح إلى تعبئة الفلسطينيين، المُحبَطين بسبب سلبية و دماغوجية زعمائهم السابقين من جهة، و إلى جلب تعاطف و مساندة الرأي العام الدولي من جهة ثانية.
كان مضيفنا، الأخضر الإبراهيمي، وزير الشؤون الخارجية الجزائري المقبل و الممثل الشخصي للأمين العام الأممي بعد ذلك، قد دعا إلى هذا الاجتماع سفراءَ الدول العربية الرئيسية، الذين كانوا، على غرار الصحفيين الإثنين الحاضرين، يتوقون للتعرف على هؤلاء الذين التزموا - بعد هزيمة الجيوش العربية الكارثية سنة 1967 - ب»تحرير فلسطين». أعطى الأخضر الإبراهيمي الكلمة تباعا إلى القائدين الرئيسيين، ياسر عرفات و أبو إياد، اللذين سأنسج معهما علاقات وطيدة طيلة ارتحالاتهما المتعددة.
قام ياسر عرفات، و هو أول من تكلم، بعرض استراتيجية حركة المقاومة الفلسطينية الأهم. كان الرجل مُثيرا بتصريحاته كما بشكله الفيزيقي. فقامته القصيرة كانت تتباين مع بدلة الميدان العسكرية زيتونية اللون، التي كان يرتديها و كذا مع المسدس المعلق غمده في خاصرته (الذي لم يستخدمه تقريبا أبدا طيلة حياته). بينما كانت كوفيته ? رمز أصوله العربية- تتناقض مع سلوكاته المدينية. فالمهندس خريج جامعة فؤاد الأول بالقاهرة، المهاجر للكويت، قد اشتغل في خدمة الإمارة قبل أن يصبح مقاولا ثريا في الأشغال العمومية يقود سيارة رياضية حمراء قانية. فيما كانت النظارات السوداء، كبقية من بقايا العمل السري، و اللحية غير المشذبة تعكسان صورة الغواري الكامل. كان رفاقه يتحدثون إليه بإسمه الحركي «أبو عمار» أو يتحدثون عنه بلقب «الختيار» (الشيخ). كان بالكاد في الأربعين من العمر حينها، بينما كان محدثوه في الثلاثينات من أعمارهم يمحضونه الحب و الاحترام. لقد كان زعيما قبل الأوان، بما أنه لن يُنتخب رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلا في اليوم الموالي.
توجه إلي عرفات بالحديث فورا، بلهجة عربية ممزوجة باللكنة المصرية ، التي طالما حاول التخلص منها دون أن ينجح ، مع أن مواطنيه لم يلوموه على ذلك أبدا. و بالرغم من لقاءاتنا المتعددة، فإن الزعيم الفلسطيني كان يتفادى الحديث عن ارتباطاته بوادي النيل. فوالداه كانا بالفعل من أصول فلسطينية، و كان يحرص على تذكيري بأن والدته تنتمي لواحدة من العائلات المقدسية العريقة التي تميزت بمقاومتها للاحتلالات المتوالية، و هي عائلة الحسيني المنحدرة بدورها من العائلة النبوية، و بذلك فقد كانت تحظى بالاحترام المزدوج.
و إذا كان يتحدث بافتخار عن أصوله، فإن ياسر عرفات لم يقبل أبدا كونه وُلد بالقاهرة، و أن جدته لأبيه كانت مصرية، مثلها في ذلك مثل زوجتي أبيه المتتاليتين، اللتين أشرفتا على تربيته بعد وفاة والدته. كان والده، التاجر، قد هاجر إلى العاصمة المصرية لأسباب اقتصادية سنة 1927، أي سنتين قبل ولادة الزعيم المقبل. و قد ارتاد الشاب ياسر المؤسسات المدرسية المصرية، و عمل في نزع الألغام من منطقة قناة السويس في بداية الخمسينات، خلال معركة المتطوعين المصريين ضد المحتل البريطاني، ثم عمل في سنة 1956 ، في صفوف الجيش المصري، الذي كان يقاوم الغزو الإسرائيلي-الفرنسي-البريطاني، رُقي بعد ذلك إلى رتبة ملازم و ظل ضابط احتياط. و رغم هذه الهوية المزدوجة، فقد كان يتصرف كوطني فلسطيني متحمس.
في واحدة من الاعترافات النادرة التي باح بها للمؤرخة نادية بنجلون التي سألته سنوات طويلة بعد ذلك، قال أنه لم يتحصل على «الفهم السياسي للتواجد الصهيوني في فلسطين إلا قبيل حرب 1948»، التي شارك فيها بشكل هامشي و كان في التاسعة عشر من عمره حينها. و بعد نهاية النزاع، لم يُخطط لمواصلة الكفاح من أجل القضية الفلسطينية. و لم يبرز نداء النضال داخله إلا بعد سنة على ذلك، حينما رفضت جامعة «طكساس» الأمريكية طلبه الانتساب إليها فقرر مواصلة دراسته بجامعة القاهرة.
فور بدء العشاء، قدم لنا الخطوط العريضة للاستراتيجية التي من المفترض أن تتبناها منظمة التحرير الفلسطينية في الغد، بعد انتخابه على رأس المركزية الفلسطينية. فبنبرة انتصارية، أعلن ياسر عرفات للضيوف أن هدف المنظمة هو إنشاء «دولة موحدة و دمقراطية» على مجموع تراب فلسطين التاريخية، يعيش فيها جميع اليهود،مهاجرين أم لا، في تناغم مع مواطنيهم العرب، مسيحيين و مسلمين، و هذا عكس سياسة سلفه أحمد الشقيري، الذي لم يذكر إسمه، الداعي إلى إعادة اليهود الذين قدموا بعد سنة 1917 لبلدانهم الأصلية («رميهم إلى البحر» حسب التأويل الإسرائيلي).
كان عرفات يسعى بشكل ظاهر إلى التأثير على سامعيه بإعلان القطيعة مع خطاب تقليدي مُعاد للأجانب. فأمام استغراب الحاضرين صاح عرفات : « آه لو كان بإمكان اليهود و الفلسطينيين أن يتوحدوا، فعبقرية الشعبين و الموارد المادية و الثقافية تكفي للقضاء على أنانية و فساد و خداع معظم الأنظمة العربية». كان مقتنعا بأن السفارديم (اليهود الشرقيين.م) سيكونون أول من ينضم لمشروعه ، أليسوا «يهودا عربا» و «إخوة توائم» للفلسطينيين، بثقافتهم و عقلياتهم؟ ألم يُعانوا من الميز الذي يمارسه «الأشكناز» ضدهم؟ و عكس هؤلاء ، ألم يعيشوا في سلام في بلدانهم الأصلية؟ (و قد تطلب منه الأمر عدة سنوات كي يتخلى عن أوهامه حول عقلية اليهود الشرقيين).
لم يكن من اليسير عليه و على رفاقه، تبني مثل هذه الاستراتيجية، فقد أثارت هذه الأخيرة غيض الإسرائيليين، الذين لم يروا فيها محاولة للتعايش السلمي ، بل اعتبروها إرادة لتدمير دولتهم. كما تسبب المشروع في معارضة قوية ضمن الفلسطينيين، الذين رأوا من المهين لهم التعايش مع «المستوطنين» «غاصبي وطنهم». لكن الغضب تصاعد خصوصا في صفوف الإسلاميين، الذين لم يتأخروا في اكتشاف أن «الدولة الدمقراطية» المُتصورة، ستكون أيضا ذات طبيعة علمانية. و قد أكد لي زعماء من حركة فتح أن الأمر كذلك بالرغم من أنه لم يتم ذكر كلمة «علمانية». و ذكروا بهذا الصدد بأن القومية العربية، منذ ميلادها داخل الامبراطورية العثمانية، كانت علمانية في أعماقها من الناحية العملية، كما تشهد بذلك كتابات مُنظريها و قادتها،مسيحيين و مسلمين. و قد بلغ سُخط الإسلاميين أوجه حينما اطلعوا على الميثاق الوطني الذي تبنته منظمة التحرير الجديدة، الذي يتضمن تمجيدا «للقيم الدينية» دون توضيح للديانات. و قد ظل هذا التجديد الجريء فريدا من نوعه في العالمين العربي و الإسلامي إلى اليوم.
و مع ذلك، فقد كان ياسر عرفات مسلما مطبقا يحترم شعائر الإسلام حرفيا. و لم تكن تصريحاته و لا تصرفاته طيلة حياته تتسم بأية أحكام مسبقة دينية أو عنصرية. و كان مُحاطا بمساعدين مسيحيين، و ارتبط بعلاقات ممتازة مع القادة المسيحيين من منظمات فلسطينية منافسة، لذلك فإن زواجه بسُهى، المنتمية للكنيسة الإغريقية-الأورثودوكسية، لم يُفاجئ أحدا. كما كان أساقفة مختلف الكنائس الشرقية، الذين يُكنون له التقدير و الإعجاب، يقومون بزيارته مرارا، في حين أن بعض القساوسة، الذين انضموا للمقاومة، قد اتُهموا ب»الإرهاب».
و لم يكن الرجل الذي يصفه بعض القادة الإسرائيليين ب»هتلر الجديد» يكن أي عداء تجاه اليهود، الذين تآلف معهم منذ شبابه الأول. فأثناء احتضانه من طرف خاله بالقدس عقب وفاة والدته، يحكي أنه كان يلهو مع أطفال اليهود قرب حائط المبكى، الذي كان يسكن بجواره، في إقامة عائلة الحسيني (التي دمرت من طرف الجيش الإسرائيلي غداة حرب 1967 لتهيئة فضاء واسع لاستقبال المؤمنين). كما أُتيحت له الفرصة، مراهقا أو راشدا، للالتقاء مع يهود هليوبوليس، بالضاحية القاهرية حيث كان يقيم عادة عند والده. و هكذا تعلم ، فيما يبدو، بضع كلمات عبرية سمعته ينطق بها بمناسبة لقاءاته مع إسرائيليين، من بينها «شالوم» (السلام) و «شانا طوفا» (سنة سعيدة). و قد كان لدي الانطباع بأن معرفته باللغة العبرية تفوق ذلك. كما كان يفهم الفرنسية أكثر مما يزعم.
بعد شهرين على لقائي الأول به، كانت لي فرصة التحاور بالقدس مع الجنرال «يهوشافات هركابي»، الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، المؤرخ المستعرب الذي أعد أطروحة الدكتوراه حول أيديولوجيا الحركة الفلسطينية، و الذي كان يبغُض عرفات إلى أبعد الحدود. و خلال هذا الحوار صرح لي : «لقد قرأت كل المقالات المنشورة من طرف حركة فتح في جريدة «فلسطيننا» منذ ظهورها سنة 1959 حتى زوالها سنة 1964، و لم أعثر فيها على أي موقف مُعاد للسامية». و قد وصلت بدوري إلى نفس الخلاصة باطلاعي شخصيا على مجلدات الجريدة، التي حصلتُ عليها بصعوبة شديدة. و قد كانت هذه الخلاصة مثيرة للاستغراب خاصة و أن طرح «المؤامرة» اليهودية كان رائجا في المنشورات التي تُراقبها الحكومات العربية، مبررة بذلك - لا شك - هزيمتها المُخزية في حرب 1948 .
خلال مأدبة العشاء لدى الأخضر الإبراهيمي، جذب انتباهي القاموس الذي يستعمله ياسر عرفات: فقد كان يتفادى ما أمكن الإشارة إلى مواطني الدولة العبرية ب»الإسرائيليين» أو «اليهود»، مُفضلا شجب «العدو الصهيوني». و قد دأب على ذلك في لقاءاتنا التالية. و فهمت في النهاية أنه كان يريد الإشارة من جهة إلى عدم اعترافه بإسرائيل، و من جهة ثانية إلى أن النزاع لم يكن عنصريا و لا دينيا، كما يعتقد بذلك الكثيرون داخل الرأي العام الإسرائيلي و العالمي. و في هذا المستوى أيضا، أقام عرفات القطيعة مع الزعماء الفلسطينيين السابقين، الذين كانوا يخلطون بين اليهود المهاجرين لإسرائيل و بين يهود الشتات، صهاينة كانوا أم لا، مُدخلين بذلك نوعا من العداء للسامية داخل العالم العربي. و سيستمر هذا اللبس بسبب زعم إسرائيل تمثيل مجموع الشعب اليهودي، و بسبب التضامن الذي تحظى به من طرف مؤسسات تعتبر نفسها ناطقة باسم كافة اليهود. و في مناسبة أخرى، شرح لي عرفات أن التعايش بين الشعبين يعود إلى عصور تاريخية قديمة، و استشهد بمثال داوود، الذي نجا من الموت بلجوئه عند الفلسطينيين، أجداد فلسطينيي اليوم حسب روايته. و تجاهل مع ذلك التذكير بأن داوود نفسه بعد أن أصبح ملكا لليهود قد حارب الفلسطينيين، و قتل الآلاف من بينهم. لكن هذه لم تكن أول و لا آخر انتقاءاته الخادعة.
فبحركة مسرحية، توجه إلي عرفات بالكلام خلال العشاء قائلا: « إذا وافقت على إنشاء دولة لا طائفية، فإني أمنحك فورا بطاقة الانتساب لحركتنا». و لم يكن الأمر مزحة، بما أنه فتح أبواب منظمة التحرير الفلسطينية إلى الإسرائيليين الذين رغبوا في الانضمام للمقاومة الفلسطينية، و مُعظمهم من صفوف اليسار المتطرف اللاصهيوني. و قد شغل أحدهم، «إيلان هالفي»، و هو مثقف فرنسي-إسرائيلي، من والدين يهوديين شيوعيين و مقاومين خلال الحرب العالمية الثانية، عدة مناصب مسؤولية متتالية، من بينها نائب وزير الشؤون الخارجية في السلطة الوطنية الفلسطينية، و ممثل منظمة التحرير الفلسطينية لدى الأممية الاشتراكية، و كذا لدى اللجنة الأممية لحقوق الإنسان. كما ضم المجلس الوطني الفلسطيني (برلمان منظمة التحرير) كأعضاء ملاحظين حاخامات أورثودوكسيين، يعتبرون لا شرعيا قيام دولة يهودية قبل ظهور المسيح. و غداة اتفاقيات أوسلو سنة 1994، استقطب عرفات يهوديا فرنسيا من أصل مغربي، «غابرييل بانون»، كي يجعل منه مستشاره الاقتصادي الرئيسي. و طبقا لهذا التقليد، سينتخب خلفاء عرفات سنة 2009 ، لعضوية المجلس الثوري لحركة فتح إسرائيليا من معسكر السلام، «أوري دافيس»، الذي كان يقول دائما عن نفسه أنه «فلسطيني ناطق بالعبرية».
ظل ياسر عرفات وفيا لقناعاته حتى خلال أحلك الأحداث المأساوية، مثل مجزرة مخيمي صبرا و شاتيلا بلبنان، و التي أودت في سبتمبر 1982 بمئات من القتلى و الجرحى. إذ تم ذبح النساء و الرجال و الأطفال و الشيوخ دون أدنى تمييز، و طوال ثلاثة أيام متتالية، بسادية لا مثيل لها. و قد كان «أرييل شارون» وزير الدفاع الموجود على مدخل المخيمين على رأس وحدة من الجيش الإسرائيلي، الشاهد السلبي و ربما صاحب فكرة هذه المجزرة التي اقترفها حلفاؤه، الكتائبيون اللبنانيون. استقبلني ياسر عرفات بعد المجزرة في مقر قيادته بدمشق، حيث انسحب بعد طرد الفدائيين الفلسطينيين من طرف الجيش الإسرائيلي. كان وجهُه شاحبا و الدموع تكاد تنط من عينيه، و بصوت مخنوق و نشيج محبوس قال خلال الحوار الذي ستنشره صحيفة «لوموند» : «إن شارون و بيغن (رئيس وزراء إسرائيل) ليسا يهوديين، إنهما فاشيان»، و استطرد مُشيدا بتأثر ب»مئات الآلاف من الإسرائيليين» الذين تظاهروا في شوارع تل أبيب، معبرين عن غضبهم ضد تصرف جيشهم. كما لم يُخف مرارته العميقة حين علم أن اليهود الشرقيين، في أغلبهم، لم ينضموا إلى المحتجين. و علمتُ فيما بعد أنه تبنى ثمانية و عشرين رضيعا نجوا من المجزرة، ذكورا و إناثا منحهم إسمه و هيأ لهم وسائل ضمان مستقبلهم.
و في معرض حديثه عن جانب ثان من استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية، خلال مأدبة العشاء عند الأخضر الإبراهيمي، أشار عرفات بنبرة حماسية أن الكفاح المسلح وحده يُمكن أن يقود إلى إنشاء الدولة الموحدة في فلسطين. و صرح بأنه مُقتنع بأن الفدائيين سيتوصلون إلى احتلال قطع متتالية من التراب الإسرائيلي «قل أن يصلوا لضفاف البحر المتوسط». حينها، سألته متشككا، على أي أساس يبني مثل هذه اليقينيات، فأجابني: «مواطنونا، المطرودون من وطنهم، لن يقبلوا أبدا أن يتحولوا إلى هنود حُمر للمحتلين الصهاينة»، و مُخففا من تصريحه الانتصاري أضاف : «لن أستغرب إذا ما اضطُر أبناؤنا إلى مواصلة المعركة». و بعد ذلك بعشر سنوات، باح لي أبو إياد، الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية، باعتراف هام: لم يكن عرفات و صحبُه يؤمنون كثيرا بقدرتهم على «تحرير فلسطين بالسلاح». فقد قال متذكرا: «في نهاية الخمسينات، حين أنشأنا تنظيمنا، كنا متأثرين جدا بحروب التحرير الوطنية في العالم الثالث، في الجزائر و في الصين و كوبا و فيتنام حيث - كما يقول عرفات- انتصرت السردينة على الحوت الضخم». كنا نقرأ بنهم مؤلفات «ريجي دوبري» و «فرانتز فانون». و كان «غيفارا» واحدا من إيقوناتنا...»
الحلقة المقبلة :
الرجل الذي لا يبتل تحت المطر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.