هناك بعض الأحداث التي لا تُنسى. و من بينها ذلك العشاء الذي أعده سفير الجزائربالقاهرة، السيد الأخضر الإبراهيمي، في فبراير 1969. فخلاله تعرفت لأول مرة على المؤسسين الرئيسيين لحركة «فتح»، على رأسهم ياسر عرفات، و الذين كانوا يقومون بداهة بعملية علاقات عامة. أتخيلهم من جديد اليوم، جالسين حول مائدة بيضاوية طويلة، و أكتشف بأنهم في معظمهم قد انتهوا ضحايا عمليات «اغتيال انتقائية» نفذتها الأجهزة السرية الإسرائيلية. في اليوم الموالي، كان على حركة فتح و المنظمات الفدائية الأخرى أن تملأ «القوقعة الفارغة» لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد إقالة رئيسها، أحمد الشقيري، صنيعة الجامعة العربية و الأداة الطيعة للرئيس المصري جمال عبد الناصر. كان ذاك عهد جديد ينفتح: فعلى منظمة التحرير الفلسطينية أن تتحرر من سيطرة «الأشقاء» العرب، و إرساء قواعد مقاومة أصيلة تطمح إلى تعبئة الفلسطينيين، المُحبَطين بسبب سلبية و دماغوجية زعمائهم السابقين من جهة، و إلى جلب تعاطف و مساندة الرأي العام الدولي من جهة ثانية. كان مضيفنا، الأخضر الإبراهيمي، وزير الشؤون الخارجية الجزائري المقبل و الممثل الشخصي للأمين العام الأممي بعد ذلك، قد دعا إلى هذا الاجتماع سفراءَ الدول العربية الرئيسية، الذين كانوا، على غرار الصحفيين الإثنين الحاضرين، يتوقون للتعرف على هؤلاء الذين التزموا - بعد هزيمة الجيوش العربية الكارثية سنة 1967 - ب»تحرير فلسطين». أعطى الأخضر الإبراهيمي الكلمة تباعا إلى القائدين الرئيسيين، ياسر عرفات و أبو إياد، اللذين سأنسج معهما علاقات وطيدة طيلة ارتحالاتهما المتعددة. قام ياسر عرفات، و هو أول من تكلم، بعرض استراتيجية حركة المقاومة الفلسطينية الأهم. كان الرجل مُثيرا بتصريحاته كما بشكله الفيزيقي. فقامته القصيرة كانت تتباين مع بدلة الميدان العسكرية زيتونية اللون، التي كان يرتديها و كذا مع المسدس المعلق غمده في خاصرته (الذي لم يستخدمه تقريبا أبدا طيلة حياته). بينما كانت كوفيته ? رمز أصوله العربية- تتناقض مع سلوكاته المدينية. فالمهندس خريج جامعة فؤاد الأول بالقاهرة، المهاجر للكويت، قد اشتغل في خدمة الإمارة قبل أن يصبح مقاولا ثريا في الأشغال العمومية يقود سيارة رياضية حمراء قانية. فيما كانت النظارات السوداء، كبقية من بقايا العمل السري، و اللحية غير المشذبة تعكسان صورة الغواري الكامل. كان رفاقه يتحدثون إليه بإسمه الحركي «أبو عمار» أو يتحدثون عنه بلقب «الختيار» (الشيخ). كان بالكاد في الأربعين من العمر حينها، بينما كان محدثوه في الثلاثينات من أعمارهم يمحضونه الحب و الاحترام. لقد كان زعيما قبل الأوان، بما أنه لن يُنتخب رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلا في اليوم الموالي. توجه إلي عرفات بالحديث فورا، بلهجة عربية ممزوجة باللكنة المصرية ، التي طالما حاول التخلص منها دون أن ينجح ، مع أن مواطنيه لم يلوموه على ذلك أبدا. و بالرغم من لقاءاتنا المتعددة، فإن الزعيم الفلسطيني كان يتفادى الحديث عن ارتباطاته بوادي النيل. فوالداه كانا بالفعل من أصول فلسطينية، و كان يحرص على تذكيري بأن والدته تنتمي لواحدة من العائلات المقدسية العريقة التي تميزت بمقاومتها للاحتلالات المتوالية، و هي عائلة الحسيني المنحدرة بدورها من العائلة النبوية، و بذلك فقد كانت تحظى بالاحترام المزدوج. و إذا كان يتحدث بافتخار عن أصوله، فإن ياسر عرفات لم يقبل أبدا كونه وُلد بالقاهرة، و أن جدته لأبيه كانت مصرية، مثلها في ذلك مثل زوجتي أبيه المتتاليتين، اللتين أشرفتا على تربيته بعد وفاة والدته. كان والده، التاجر، قد هاجر إلى العاصمة المصرية لأسباب اقتصادية سنة 1927، أي سنتين قبل ولادة الزعيم المقبل. و قد ارتاد الشاب ياسر المؤسسات المدرسية المصرية، و عمل في نزع الألغام من منطقة قناة السويس في بداية الخمسينات، خلال معركة المتطوعين المصريين ضد المحتل البريطاني، ثم عمل في سنة 1956 ، في صفوف الجيش المصري، الذي كان يقاوم الغزو الإسرائيلي-الفرنسي-البريطاني، رُقي بعد ذلك إلى رتبة ملازم و ظل ضابط احتياط. و رغم هذه الهوية المزدوجة، فقد كان يتصرف كوطني فلسطيني متحمس. في واحدة من الاعترافات النادرة التي باح بها للمؤرخة نادية بنجلون التي سألته سنوات طويلة بعد ذلك، قال أنه لم يتحصل على «الفهم السياسي للتواجد الصهيوني في فلسطين إلا قبيل حرب 1948»، التي شارك فيها بشكل هامشي و كان في التاسعة عشر من عمره حينها. و بعد نهاية النزاع، لم يُخطط لمواصلة الكفاح من أجل القضية الفلسطينية. و لم يبرز نداء النضال داخله إلا بعد سنة على ذلك، حينما رفضت جامعة «طكساس» الأمريكية طلبه الانتساب إليها فقرر مواصلة دراسته بجامعة القاهرة. فور بدء العشاء، قدم لنا الخطوط العريضة للاستراتيجية التي من المفترض أن تتبناها منظمة التحرير الفلسطينية في الغد، بعد انتخابه على رأس المركزية الفلسطينية. فبنبرة انتصارية، أعلن ياسر عرفات للضيوف أن هدف المنظمة هو إنشاء «دولة موحدة و دمقراطية» على مجموع تراب فلسطين التاريخية، يعيش فيها جميع اليهود،مهاجرين أم لا، في تناغم مع مواطنيهم العرب، مسيحيين و مسلمين، و هذا عكس سياسة سلفه أحمد الشقيري، الذي لم يذكر إسمه، الداعي إلى إعادة اليهود الذين قدموا بعد سنة 1917 لبلدانهم الأصلية («رميهم إلى البحر» حسب التأويل الإسرائيلي). كان عرفات يسعى بشكل ظاهر إلى التأثير على سامعيه بإعلان القطيعة مع خطاب تقليدي مُعاد للأجانب. فأمام استغراب الحاضرين صاح عرفات : « آه لو كان بإمكان اليهود و الفلسطينيين أن يتوحدوا، فعبقرية الشعبين و الموارد المادية و الثقافية تكفي للقضاء على أنانية و فساد و خداع معظم الأنظمة العربية». كان مقتنعا بأن السفارديم (اليهود الشرقيين.م) سيكونون أول من ينضم لمشروعه ، أليسوا «يهودا عربا» و «إخوة توائم» للفلسطينيين، بثقافتهم و عقلياتهم؟ ألم يُعانوا من الميز الذي يمارسه «الأشكناز» ضدهم؟ و عكس هؤلاء ، ألم يعيشوا في سلام في بلدانهم الأصلية؟ (و قد تطلب منه الأمر عدة سنوات كي يتخلى عن أوهامه حول عقلية اليهود الشرقيين). لم يكن من اليسير عليه و على رفاقه، تبني مثل هذه الاستراتيجية، فقد أثارت هذه الأخيرة غيض الإسرائيليين، الذين لم يروا فيها محاولة للتعايش السلمي ، بل اعتبروها إرادة لتدمير دولتهم. كما تسبب المشروع في معارضة قوية ضمن الفلسطينيين، الذين رأوا من المهين لهم التعايش مع «المستوطنين» «غاصبي وطنهم». لكن الغضب تصاعد خصوصا في صفوف الإسلاميين، الذين لم يتأخروا في اكتشاف أن «الدولة الدمقراطية» المُتصورة، ستكون أيضا ذات طبيعة علمانية. و قد أكد لي زعماء من حركة فتح أن الأمر كذلك بالرغم من أنه لم يتم ذكر كلمة «علمانية». و ذكروا بهذا الصدد بأن القومية العربية، منذ ميلادها داخل الامبراطورية العثمانية، كانت علمانية في أعماقها من الناحية العملية، كما تشهد بذلك كتابات مُنظريها و قادتها،مسيحيين و مسلمين. و قد بلغ سُخط الإسلاميين أوجه حينما اطلعوا على الميثاق الوطني الذي تبنته منظمة التحرير الجديدة، الذي يتضمن تمجيدا «للقيم الدينية» دون توضيح للديانات. و قد ظل هذا التجديد الجريء فريدا من نوعه في العالمين العربي و الإسلامي إلى اليوم. و مع ذلك، فقد كان ياسر عرفات مسلما مطبقا يحترم شعائر الإسلام حرفيا. و لم تكن تصريحاته و لا تصرفاته طيلة حياته تتسم بأية أحكام مسبقة دينية أو عنصرية. و كان مُحاطا بمساعدين مسيحيين، و ارتبط بعلاقات ممتازة مع القادة المسيحيين من منظمات فلسطينية منافسة، لذلك فإن زواجه بسُهى، المنتمية للكنيسة الإغريقية-الأورثودوكسية، لم يُفاجئ أحدا. كما كان أساقفة مختلف الكنائس الشرقية، الذين يُكنون له التقدير و الإعجاب، يقومون بزيارته مرارا، في حين أن بعض القساوسة، الذين انضموا للمقاومة، قد اتُهموا ب»الإرهاب». و لم يكن الرجل الذي يصفه بعض القادة الإسرائيليين ب»هتلر الجديد» يكن أي عداء تجاه اليهود، الذين تآلف معهم منذ شبابه الأول. فأثناء احتضانه من طرف خاله بالقدس عقب وفاة والدته، يحكي أنه كان يلهو مع أطفال اليهود قرب حائط المبكى، الذي كان يسكن بجواره، في إقامة عائلة الحسيني (التي دمرت من طرف الجيش الإسرائيلي غداة حرب 1967 لتهيئة فضاء واسع لاستقبال المؤمنين). كما أُتيحت له الفرصة، مراهقا أو راشدا، للالتقاء مع يهود هليوبوليس، بالضاحية القاهرية حيث كان يقيم عادة عند والده. و هكذا تعلم ، فيما يبدو، بضع كلمات عبرية سمعته ينطق بها بمناسبة لقاءاته مع إسرائيليين، من بينها «شالوم» (السلام) و «شانا طوفا» (سنة سعيدة). و قد كان لدي الانطباع بأن معرفته باللغة العبرية تفوق ذلك. كما كان يفهم الفرنسية أكثر مما يزعم. بعد شهرين على لقائي الأول به، كانت لي فرصة التحاور بالقدس مع الجنرال «يهوشافات هركابي»، الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، المؤرخ المستعرب الذي أعد أطروحة الدكتوراه حول أيديولوجيا الحركة الفلسطينية، و الذي كان يبغُض عرفات إلى أبعد الحدود. و خلال هذا الحوار صرح لي : «لقد قرأت كل المقالات المنشورة من طرف حركة فتح في جريدة «فلسطيننا» منذ ظهورها سنة 1959 حتى زوالها سنة 1964، و لم أعثر فيها على أي موقف مُعاد للسامية». و قد وصلت بدوري إلى نفس الخلاصة باطلاعي شخصيا على مجلدات الجريدة، التي حصلتُ عليها بصعوبة شديدة. و قد كانت هذه الخلاصة مثيرة للاستغراب خاصة و أن طرح «المؤامرة» اليهودية كان رائجا في المنشورات التي تُراقبها الحكومات العربية، مبررة بذلك - لا شك - هزيمتها المُخزية في حرب 1948 . خلال مأدبة العشاء لدى الأخضر الإبراهيمي، جذب انتباهي القاموس الذي يستعمله ياسر عرفات: فقد كان يتفادى ما أمكن الإشارة إلى مواطني الدولة العبرية ب»الإسرائيليين» أو «اليهود»، مُفضلا شجب «العدو الصهيوني». و قد دأب على ذلك في لقاءاتنا التالية. و فهمت في النهاية أنه كان يريد الإشارة من جهة إلى عدم اعترافه بإسرائيل، و من جهة ثانية إلى أن النزاع لم يكن عنصريا و لا دينيا، كما يعتقد بذلك الكثيرون داخل الرأي العام الإسرائيلي و العالمي. و في هذا المستوى أيضا، أقام عرفات القطيعة مع الزعماء الفلسطينيين السابقين، الذين كانوا يخلطون بين اليهود المهاجرين لإسرائيل و بين يهود الشتات، صهاينة كانوا أم لا، مُدخلين بذلك نوعا من العداء للسامية داخل العالم العربي. و سيستمر هذا اللبس بسبب زعم إسرائيل تمثيل مجموع الشعب اليهودي، و بسبب التضامن الذي تحظى به من طرف مؤسسات تعتبر نفسها ناطقة باسم كافة اليهود. و في مناسبة أخرى، شرح لي عرفات أن التعايش بين الشعبين يعود إلى عصور تاريخية قديمة، و استشهد بمثال داوود، الذي نجا من الموت بلجوئه عند الفلسطينيين، أجداد فلسطينيي اليوم حسب روايته. و تجاهل مع ذلك التذكير بأن داوود نفسه بعد أن أصبح ملكا لليهود قد حارب الفلسطينيين، و قتل الآلاف من بينهم. لكن هذه لم تكن أول و لا آخر انتقاءاته الخادعة. فبحركة مسرحية، توجه إلي عرفات بالكلام خلال العشاء قائلا: « إذا وافقت على إنشاء دولة لا طائفية، فإني أمنحك فورا بطاقة الانتساب لحركتنا». و لم يكن الأمر مزحة، بما أنه فتح أبواب منظمة التحرير الفلسطينية إلى الإسرائيليين الذين رغبوا في الانضمام للمقاومة الفلسطينية، و مُعظمهم من صفوف اليسار المتطرف اللاصهيوني. و قد شغل أحدهم، «إيلان هالفي»، و هو مثقف فرنسي-إسرائيلي، من والدين يهوديين شيوعيين و مقاومين خلال الحرب العالمية الثانية، عدة مناصب مسؤولية متتالية، من بينها نائب وزير الشؤون الخارجية في السلطة الوطنية الفلسطينية، و ممثل منظمة التحرير الفلسطينية لدى الأممية الاشتراكية، و كذا لدى اللجنة الأممية لحقوق الإنسان. كما ضم المجلس الوطني الفلسطيني (برلمان منظمة التحرير) كأعضاء ملاحظين حاخامات أورثودوكسيين، يعتبرون لا شرعيا قيام دولة يهودية قبل ظهور المسيح. و غداة اتفاقيات أوسلو سنة 1994، استقطب عرفات يهوديا فرنسيا من أصل مغربي، «غابرييل بانون»، كي يجعل منه مستشاره الاقتصادي الرئيسي. و طبقا لهذا التقليد، سينتخب خلفاء عرفات سنة 2009 ، لعضوية المجلس الثوري لحركة فتح إسرائيليا من معسكر السلام، «أوري دافيس»، الذي كان يقول دائما عن نفسه أنه «فلسطيني ناطق بالعبرية». ظل ياسر عرفات وفيا لقناعاته حتى خلال أحلك الأحداث المأساوية، مثل مجزرة مخيمي صبرا و شاتيلا بلبنان، و التي أودت في سبتمبر 1982 بمئات من القتلى و الجرحى. إذ تم ذبح النساء و الرجال و الأطفال و الشيوخ دون أدنى تمييز، و طوال ثلاثة أيام متتالية، بسادية لا مثيل لها. و قد كان «أرييل شارون» وزير الدفاع الموجود على مدخل المخيمين على رأس وحدة من الجيش الإسرائيلي، الشاهد السلبي و ربما صاحب فكرة هذه المجزرة التي اقترفها حلفاؤه، الكتائبيون اللبنانيون. استقبلني ياسر عرفات بعد المجزرة في مقر قيادته بدمشق، حيث انسحب بعد طرد الفدائيين الفلسطينيين من طرف الجيش الإسرائيلي. كان وجهُه شاحبا و الدموع تكاد تنط من عينيه، و بصوت مخنوق و نشيج محبوس قال خلال الحوار الذي ستنشره صحيفة «لوموند» : «إن شارون و بيغن (رئيس وزراء إسرائيل) ليسا يهوديين، إنهما فاشيان»، و استطرد مُشيدا بتأثر ب»مئات الآلاف من الإسرائيليين» الذين تظاهروا في شوارع تل أبيب، معبرين عن غضبهم ضد تصرف جيشهم. كما لم يُخف مرارته العميقة حين علم أن اليهود الشرقيين، في أغلبهم، لم ينضموا إلى المحتجين. و علمتُ فيما بعد أنه تبنى ثمانية و عشرين رضيعا نجوا من المجزرة، ذكورا و إناثا منحهم إسمه و هيأ لهم وسائل ضمان مستقبلهم. و في معرض حديثه عن جانب ثان من استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية، خلال مأدبة العشاء عند الأخضر الإبراهيمي، أشار عرفات بنبرة حماسية أن الكفاح المسلح وحده يُمكن أن يقود إلى إنشاء الدولة الموحدة في فلسطين. و صرح بأنه مُقتنع بأن الفدائيين سيتوصلون إلى احتلال قطع متتالية من التراب الإسرائيلي «قل أن يصلوا لضفاف البحر المتوسط». حينها، سألته متشككا، على أي أساس يبني مثل هذه اليقينيات، فأجابني: «مواطنونا، المطرودون من وطنهم، لن يقبلوا أبدا أن يتحولوا إلى هنود حُمر للمحتلين الصهاينة»، و مُخففا من تصريحه الانتصاري أضاف : «لن أستغرب إذا ما اضطُر أبناؤنا إلى مواصلة المعركة». و بعد ذلك بعشر سنوات، باح لي أبو إياد، الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية، باعتراف هام: لم يكن عرفات و صحبُه يؤمنون كثيرا بقدرتهم على «تحرير فلسطين بالسلاح». فقد قال متذكرا: «في نهاية الخمسينات، حين أنشأنا تنظيمنا، كنا متأثرين جدا بحروب التحرير الوطنية في العالم الثالث، في الجزائر و في الصين و كوبا و فيتنام حيث - كما يقول عرفات- انتصرت السردينة على الحوت الضخم». كنا نقرأ بنهم مؤلفات «ريجي دوبري» و «فرانتز فانون». و كان «غيفارا» واحدا من إيقوناتنا...» الحلقة المقبلة : الرجل الذي لا يبتل تحت المطر فلسفة الزواج تغيرت عند بعض نساء اليوم، خاصة، أن بعضهن أصبح يلجأ، بعد إنجاب طفل أو أكثر، إلى تحريك دعوى المطالبة بتطليق الشقاق، الذي جاءت به مدونة الأسرة سنة 2004، بسبب أو بدون سبب، والعين على «النفقة» . فالزواج عند بعضهن، أصبح فرصة تستغل لتوفير دخل قار ومحدد، إلى جانب التمتع بالتحرر من القيود الاجتماعية، فضلا عن الاستقلالية المادية، ناهيك عن البحث عن أب شرعي لطفل شرعي من علاقة شرعية يقبل بها المجتمع ويغض الطرف عن كل ما يترتب عنها من أضرار. مع تطليق الشقاق تحول الزواج ، إذن، لدى بعض النساء إلى مشروع استثمار مربح بالنظر إلى أحكامه التي تشجع أكثر على لجوء الزوجات إليه، خاصة وأن أوراق دعوى الزوجة معفية من الرسوم الجمركية مقارنة مع أوراق دعوى الزوج. وهو الأمر الذي من شأنه أن يخلق نوعا من التردد لدى الرجل الراغب في الزواج وإنجاب الأطفال، مخافة هذا التطليق الذي يلزمه بدفع واجب النفقة وحضانة الأطفال، بدءا من أول يوم صدر فيه الحكم. فيوسف مزيمز ليس الزوج الوحيد الذي صدرت في حقه أحكام تطليق بالشقاق، إذ في ملف آخر لهذا التطليق، قضت المحكمة الابتدائية ببرشيد في حق مواطن بأداء مستحقات تفوق الأجر الذي يتقاضاه، إذ بلغت نفقة الأبناء الثلاثة وحضانة الزوجة ونفقة السكنى، ما مجموعه 3550 درهما، رغم أن وثائق الملف ضمت شهادة للدخل أدلى بها الزوج، تثبت أن أجره الشهري لا يتعدى 3000 درهم. أما محكمة تطوان الابتدائية، فقضت في حق أحد الأشخاص بأداء 15 مليون سنتيم لفائدة مطلقته، في دعوى للشقاق، و9 آلاف درهم نفقة العدة و4000 درهم، مقابل تأدية تكاليف سكن أولاده ، بالإضافة إلى 1200 درهم أجرة الحضانة. أما مواطن قاطن بتارودانت، فكل ما تبقى له، مبلغ 350 درهما من مجموع أجرته، حيث قضت المحكمة بمبلغ 500 درهم شهريا كواجب للنفقة، علما بأنه يؤدي مبلغ 700 درهم شهريا كواجب لحضانة ابنة أخرى من زواج سابق، فضلا عن مجموعة من الاقتطاعات لفائدة شركات قروض الاستهلاك. أحكام هذا القانون، لم تعد تراعي وضعيات الأزواج المادية، ولا تأخذ بعين الاعتبار أوضاع الاقتصاد المتدهور، خاصة وأنه أثر سلبا على راتب بعض الأجراء والعاملين بالشركات.ذلك أن منطوقه في تطليق الشقاق، يلزم الرجل غالبا بدفع النفقة والحضانة والمتعة ومؤخر الصداق والسكنى. تطليق لاقى إقبالا واسعا من لدن النساء وخاصة في السنوات الأخيرة. ويرجع راوضي عبد الحكيم، محام بهيئة الدارالبيضاء، هذا الإقبال إلى سببين اثنين، الأول يكمن في أنه «وسيلة المرأة الوحيدة والسهلة لطلب الطلاق، حيث تحصل عليه بمجرد وضع المقال» وأضاف بأن السبب الثاني يتجلى في كون أن هناك «نساء أخريات أصبحن يقمن باستغلال هذا التطليق من أجل الحصول على دخل قار يتمثل في تلك التعويضات المادية التي تحددها المحكمة والمتمثلة في واجب النفقة والحضانة والسكنى». أما عصام لحلو، المحامي بهيئة الرباط والكاتب العام لفرع المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، فهو «لا يعتقد بأنه يمكن الحديث عن استغلال طلبات التطليق للشقاق من طرف بعض الزوجات للحصول على مستحقات مادية من قبيل المتعة، ونفقة فترة العدة ونفقة الأبناء إن وجدوا وسكناهم. وذلك لاعتبارات تتمثل أساسا في تسجيل معاناة العديد من الزوجات المغربيات من صعوبة إثبات الضرر لتبرير طلب التطليق بناء على الضرر. إضافة إلى عدم وجود إحصاءات رسمية أو دراسات صادرة من وزارة العدل، أو من أي جهة أخرى تؤكد أو تنفي لجوء بعض الزوجات إلى تقديم طلب التطليق للشقاق للحصول على منفعة مادية لا غير.كما أن مسطرة التطليق للشقاق مسطرة دقيقة خاصة في حالة وجود أبناء». من جهتها نفت خديجة تكروين، مساعدة قانونية بمركز الرابطة انجاد ضد عنف النوع ، نفيا قاطعا وجود حالات مثل حالات استغلال النساء لتطليق الشقاق، وتعارض كذلك رفع النساء لدعوى الطلاق بغية الحصول على المكتسبات المادية وذلك راجع إلى ضعف هذه الموارد. فأجرة الحضانة لا تتعدى مائة درهم، في حين تصل أجرة السكنى إلى أربعمائة درهم، وهي مبالغ ضئيلة لن تغني أو تسمن من جوع. وقالت خديجة إن رغبة النساء في الحصول على تطليق الشقاق تكون دوما من أجل التخلص من الزوج المعنف جسديا ونفسيا. فحسبها النساء اللواتي يرغبن في الطلاق هن نساء غالبيتهن كن ضحايا العنف. وأضافت بأن نسبة النساء اللواتي يقمن باستغلال هذا التطليق من أجل الحصول على المكتسبات المادية، لا تعدو أن تكون مجرد أرقام هزيلة لا تستحق الحديث عنها. اختلفت الآراء و الأقوال حول تطليق الشقاق وتباينت من شخص لآخر، لكن لا يمكن أن يختلف اثنان حول أهمية قانون الأسرة ومدى فاعليته في تأطير النسيج الأسري، وتقنين علاقة الأزواج. ففلسفة قانون الأسرة، لا تروم قط إفقار الرجل أو تشجيع تفكك الأسر وتشتيت الأطفال بين الوالدين المتصارعين في دعوى تطليق الشقاق. فمحكمة الأسرة هي محكمة لصالح الأسرة بسائر أفرادها وليس لصالح فرد على حساب آخر. وبذلك ينبغي الوقوف أكثر عند أسباب التطليق وإضافة بنود تمنع استغلال هذا القانون في غير المقاصد التي جاء من أجل بلوغها.