مفارقة غريبة لطالما أثارت استغرابي ، لكنها لم تثر انتباه حماة المال العام. فكيف لمن التحق بالمجلس الجماعي مُعْدَمًا أو بالكاد يتدبر مصاريفه الشهرية أو مُذٌَخِرًا لقليل من المال لايكفي حتى لاقتناء شقة اقتصادية، كيف لهؤلاء أن يصبحوا بين سنة وأخرى من رجال الأعمال ومنعشين عقاريين والتحقوا بقوافل البورجوازيين الجدد؟ لنقف عند هذه المعطيات الرسمية ولنحاول قراءة ماوراء الأرقام، لنعرف إن كان الأمر يتعلق بنشاطات مشبوهة لهؤلاء، أم أن الأمر لايعدو أن يكون عملا مشروعا لايأتيه الفساد من أمامه ولا من خلفه، فالتعويض الشهري لعمدة مدينة لايتجاوز 5500 درهم شهريا والتعويض الشهري لنواب العمدة حدده القانون في 2750 درهما، أما التعويض الشهري لرؤساء المقاطعات فهو 1375درهما من دون سنتيم زيادة، في حين أن باقي الأعضاء لا تعويض لهم. فمن أين يتدبر مجموعة من المنتخبين أمور معيشتهم؟ وماسر النعمة التي تظهر عليهم فجأة ؟ وماسر مرابطة مجموعة منهم بمقرات الجماعات والمقاطعات لدرجة أن للبعض منهم مكاتب قارة بها وهم لايغادرونها حتى بعد مغادرة الموظفين؟ وكيف لمن كان يقترض لتدبر أمور معيشته أن يتلاعب بالملايين بقدرة مفسد عفا عنه الخطاب الرسمي ؟ فالقاعدة العامة تقول بأن السياسة لاتغني وبأن الإغتناء من خلال العمل السياسي، جماعيا كان أم نيابيا، يرجح فرضية الفساد، والقائل بغير ذلك فليثبت مصدر الثروة التي راكمها هؤلاء خلال فترة قياسية بين الولايتين الجماعيتين ، فالوقت هنا كالسيف ويستوجب بالتالي «ضريب الحديد ماحدو سخون». هؤلاء هم المسؤولون عما وصلت إليه الأوضاع بمجموعة من الجماعات ببلادنا. هؤلاء هم من يتحمل مسؤولية الصفقات غير القانونية والمشبوهة ومسؤولية عدم إتمام الأشغال بالأوراش أو الغش فيها، هؤلاء هم حماة الغش في التصاميم وتراخيص البناء الممنوحة . هؤلاء باختصار هم «وليدات الحاجة كرمومة» التي كانت ولاتزال تتحكم في تسيير مجموعة من المجالس الجماعية، كانت هي الآمر الناهي فيها . لم لا، وهي التي كانت تملك مفاتيح الفرج بها وكانت تسهل توقيع المسؤولين بالجماعة على الوثائق من دون تأخير! ترى، من يقف وراء كل هؤلاء؟ من يوفر لهم الحماية بالشكل الذي لا يكترثون معه لا للمتابعات الإعلامية لفضائحهم ولا للتقارير المنجزة في حقهم؟ أيستحق الفساد أن نحتفل به مرة كل سنة ونعلن يوما عالميا لمحاربته، ونحن نرصد تحركات هؤلاء وأولئك من دون أن تطالهم يد الرقيب؟ أيستحق أن ننشئ هيئات ومنظمات لمحاربته وهو الظاهر البائن أمامنا لايحتاج إلى تبيان؟ أيستحق الفساد موقعا على الشبكة العنكبوتية للإبلاغ عنه لأجل التصدي له أو لوصلة إشهارية « وياكم من الرشوة» بشكل يستفز شعور المغاربة ؟ لربما لأن الفساد في جماعاتنا ومدننا كبيت العنكبوت في شكل الخيوط التي تشكل أضلعه المتعددة، وهو كذلك بالنظر لقدرته على الايقاع بالضحايا طوعا أو كرها. لكن الفساد لا تنطبق عليه مقولة «أهون من بيت العنكبوت»، فشبكة الفساد متينة لدرجة عدم قدرة أي كان الوقوف في وجهها أو اجتيازها، فقد تقوى بالسلطة والمراكز المتقدمة منها، تقوى بالعلاقات الأسرية والعلاقات الخدماتية المشبوهة، لدرجة أن الجميع يتحدث عن محاربته حتى أولئك الذين عاثوا فسادا في البلد، وتلك هي المفارقة الغريبة حقا. فكيف لا تتم محاسبة هؤلاء الذين اتسخت أياديهم بالمال العام بين المقاطعات والجماعات، كيف لا تتم محاسبتهم والبحث في مصدر ثرائهم ؟ إن تخليق الممارسة الجماعية يمر عبر إعمال حقيقي لآليات الحكامة الجيدة، وإشاعة ثقافة المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، وتجسيد حرمة المال العام، وتطويق الأذرع الطويلة لأخطبوط الفساد المالي وإقرار مبدأ من أين لك هذا، وإنشاء هيئة «محاربة الكسب غير الشرعي»، لربما إذا ماتم هذا، قد نجد أنفسنا خلال الانتخابات الجماعية ، أمام نقص مهول في عدد المرشحين لعضوية المجالس الجماعية، من يدري؟