أصبح الصالون المغربي ملتقى آل منصور إذ اجتمع فيه ذات يوم ستة وثلاثون شخصا ، وأصبح ملتقى أبناء وبنات أبو عاطف كل يوم خميس مجتمعين ، بل اصبح لكل واحد وواحدة منهم مكان نوم لا يجوز لأحد أن يتمدد فيه . وما عدا هذه اللقاءات أصبح مكان استقبال أمي لكل من يأتي لزيارتها وخاصة النساء اللواتي من جيلها . وقد التقيت عند أمي السيدة أم يوسف وهي زوجة أبن خال جدي أبو حسن وأم زوجة عمي أبو منصور وأم زوجة خالي محمد . لأم يوسف ولد شهد له كل من عرفه بالشجاعة والإيثار ، كيف لا وهو من الشبان الذين استقطبهم القائد الشهيد أبو علي إياد . هذا الولد كان إسمه محمد المسعود ظل مقاتلا بجانب الشهيد أبو علي إياد في أحراش جرش بمنطقة عجلون الأردنية في صيف عام 1971 عندما ابتدأ الجيش الأردني بتصفية آخر جيوب المقاومة الفلسطينية في الأردن التي كان يقودها ابوعلي ، الذي كان برجل واحدة وعين واحدة إثر إنفجار أحد الألغام بين يديه. ولما اشتد الطوق واقترب كثيرا من أبوعلي طلب من رجاله أن يتدبر كل واحد أمر نفسه وأن يتركوه لأنه أصبح عبئا عليهم بسبب عدم قدرته على المشي ، ولما رفضوا تنفيذ طلبه أقسم لهم بأنه سيطلق النارعلى من سيبقى ، وهم يعرفون أنه إذا قال فعل ، فتركوه وهو يصيح عبر جهاز اللاسلكي الذي يربطه بالقيادة : هذا آخر إتصال لي وسأكسر الجهاز .. وسنموت واقفين ولن نركع . ابتعد المقاتلون قليلا وتشاوروا فيما بينهم ماذا سيفعلون، فقرّ قرارهم على التوجه غربا واجتياز نهر الأردن القريب منهم ، وفي حالة محاصرتهم من قبل الجيش الصهيوني فانهم سيرفعون الراية البيضاء ويستسلمون ليصبحوا أسرى لدى العدو لعل الله يهيء لهم مخرجا ، وذلك أفضل لهم من أن يتجهوا شرقا حيث قوات الجيش الأردني التي لديها أوامر بقتل كل من تصادفه . وبالفعل عبروا نهر الأردن ورموا سلاحهم وتقدموا رافعين أيديهم فاعتقلهم الجنود الصهاينة وساقوهم إلى أحد المعتقلات العسكرية الواقعة في الشمال الشرقي من فلسطين . داخل المعتقل رسم محمد المسعود خطة للهرب ، وبدأوا بتنفيذها حيث كان محمد يحمل كل واحد من الأسرى على أكتافه ليتسلق سور المعتقل ويهرب ، وكان هو آخر من تسلق السور . اكتشف الصهاينة هروب المعتقلين فبدأوا حملة مطاردتهم وإطلاق الرصاص في كل اتجاه ، ولما كان محمد المسعود يعاني منذ صغره من ضعف في النظر وكان آخر من غادر المعتقل ، فمن المؤكد انه سقط برصاص الصهاينة واستشهد ، وأصبح أحد أصحاب ( قبور الأرقام ) وهم الشهداء الذين قتلهم الصهاينة ودفنوهم في مقابر سرية لا يعرفها غيرهم ، واعطوا لكل واحد منهم رقما لا يعرفه غيرهم . هذه الحكاية سمعتها بالتفصيل من الأخ وليد وشاح الذي جمعتني به دورة عسكرية في بيروت عام 1981 ، ولم يكن يعرف أن محمد المسعود من أقاربي فبدأت استفسره عن بعض التفاصيل وأوصاف محمد المسعود الذي كان يصغرني ببضعة اشهر فقط ، فأعطاني الأوصاف التي أعرفها إلى أن قال أنه كان يلقب ( الخروف ) لشدة بياضه وهذا اللقب كنت من بين من أطلقوه عليه ، ثم سألته من أين هو ؟ فقال لا أعرف بلدته الأصلية ولكنني أعرف أن أهله يقيمون في مخيم الفارعة ، فتأكد لي أنه محمد المسعود . كانت الخالة أم يوسف وكل أبنائها وبناتها يعتقدون أن محمد المسعود لا زال حيا وأنه لا بد وأن يفرج عنه في صفقة تبادل اسرى ، وقد رويت لهم ما حكاه لي الأخ وليد وشاح ولكن أم يوسف رفضت تصديق الرواية في حين أن أبناءها وبناتها أظهروا نوعا من الإقتناع بالحكاية . ولما قرر مناضلو مخيم الفارعة إقامة نصب الجندي المجهول في مدخل المخيم وكتابة أسماء كل الشهداء من أبناء المخيم عليه ، رفض إخوة الشهيد وضع إسم أخيهم على النصب إحتراما لمشاعر أمهم التي مازالت تعتقد أنه حي . ذات مساء جاءت السيدة آمنة الورّاد زوجة خالي حسن لبيتنا وجلست أنا وأمي وبعض أخواتي معها ، وكانت إمرأة مرحة تحب المزاح فقالت لأمي : يا عمتي ? ومن عادة النساء في فلسطين ان ينادين أخوات أزواجهن عمتي ? ما رأيك أنه مادام أبو سفيان هنا وحيدا ، أن نبحث له عن عروس ونزوّجه ؟ فقالت لها أمي بنرفزة( آمنة ، قومي وارجعي لدارك ) فعرفت آمنة أنها أغضبت أمي فارادت الإعتذار لها قائلة بانها تمزح ، قالت لها أمي ( هذه أمور لا أحب أن أسمعها ولو في باب المزاح ، فأم سفيان عندي لا تعدلها كل النساء ) وقد نبّهني ذلك إلى حقيقة غابت عني وهي أنه منذ جيل أجدادي لأبي وأمي لم يتزوج أحد من رجال عائلتنا زوجتين إلا في حالة وفاة زوجته . من هؤلاء الذين تزوجوا بعد وفاة زوجته خالي محمد وقد رزق بولد بعد رجوعي للوطن بعام وسمعت أمي تقول متأسفة ( ماذا سمّيتم الولد اليتيم ؟ ) اعتبارا بأن هذا المولود سيتيتّم قريبا . وقد حدث ذلك فعلا ، إذ كان خالي يعاني كثيرا من الأمراض وتجاوز السبعين وتوفي بعد سنة . ذهبت أمي وأقامت في دار خالي ثلاثة أيام ، كما هي العادة . ولما عدنا بها إلى البيت كانت تبكي خاصة وأنه آخر إخوتها ، وكانت تردد باستمرار ( محمد لا زال صغيرا ) ولم يكن باستطاعة أحد من إخوتي وأخواتي أن يطلب منها التوقف عن البكاء وترديد هذه الجملة ، فجاؤوني وقالوا لي : أنت الكبير فينا وأنت من يستطيع أن يهدّئ أمّنا . فقلت لها : يا أمي إن خالي قد تجاوز السبعين فكيف تقولين أنه لا زال صغيرا ؟ فقالت لي ( أنا اللي ربّيته وكنت أحمله وأطعمه وأغسل له ) فقلت لها ( يظهر أنك نسيتي أن عمرك قد تجاوز الثمانين ) فالتفتت نحوي بما يفيد (أسكت يا قليل الحياء ) وسكتت . أصبحت مواطنا فلسطينيا أقيم على جزء من أرض فلسطين ، أتنقل ضمن حدود هذا الجزء بحرية وإن كانت محدودة أو وفق أذونات خاصة ، وتحت سلطة ليست مكتملة السيادة على إقليمها ، ومع ذلك أحسّ بشيء من المواطنية . فقد حصلت على بطاقة وطنية وجواز سفر فلسطيني واستبدلت كل وثائقي ووثائق أسرتي الثبوتية المستخرجة من عدة دول عربية بوثائق فلسطينية . وأهم ما في الأمر أنني أعيش في مكان لا أسمع فيه أحدا يقول لي : لماذا أنت هنا ؟ أو ماذا تفعل هنا ؟ ولا أحد يشعرك بأنك غريب ليس من حقك أن تكون فيه ، وأحسّ أنني واحد من البشر الذين أعيش بينهم حقيقة وليس مجاملة . . وبالطبع باستثناء المحتل الصهيوني الذي تعلم شعبنا كيف يواجه غطرسته . لم أعد ذلك الكائن الأسطوري الذي تتمثّل مصيبته في أنه عاش زمنا طويلا ينظر إليه نظرة خاصة ومختلفة ، فلا يجوز أن يرى إلا مقاتلا مناضلا أو أسيرا أو شهيدا ، ليس له أن يبدو سعيدا أو أن أن يكون أنيقا ، وليس مقبولا منه أن يكتب عن الحب أو يرسم زهوة الدنيا ، وباختصار ليس من حقه أن يمارس الحياة كما يمارسها الآخرون بجدّها ولهوها بحلوها ومرّها . ولذلك فإن شاعرنا الكبير محمود درويش عندما صرخ ذات يوم ( إرحمونا من هذا الحب القاسي) كان يريد أن يقول لكل الناس : نحن بشر من حقنا أن نكون بشرا ، لا تضعونا في خانة الإستثنائيين ، لأننا لا نستطيع أن نبقى فيها أبد الدهر ، ولكيلا تجلدونا إذا مارس أحدنا طقسا إعتياديا كما يفعل سائر البشر في كل أركان المعمور . وأنا في داخل الوطن ذبت في اليومي ، أعيش الحدث وأساهم في صنعه ولو بقدر يسير ، فأنا على الطريق الإلتفافي الذي يقطعه المستوطنون ويهاجمونني ر اكبا في سيارة أو أنا ماش على قدمي ، تعبيرا عن رفضهم لأي إنسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 . أقف في مواجهة الحاجز الإسرائيلي مع مجموعة من الشباب الفلسطينيين لنهاجم الجنود والسيارات الإسرائيلية تعبيرا عن رفضنا للوجود الصهيوني على أرضنا ، أتواجد في قرية فلسطينية تضامنا مع أهلها الذين يفترشون الأرض أمام الجرافات الإسرائيلية التي تريد هدم بيت تدّعي أنه بني بدون ترخيص أو تريد إقتلاع أشجار الزيتون المعمرة مئات السنين لإقامة مستوطنة عليها . أنتقل إلى خارج الوطن في مهمة رسمية أو في زيارة فألتقي نماذج عديدة ومتنوعة من الفلسطينيين ، بعضهم يتلهّف للقائي ليشمّ فيّ رائحة الوطن وليسألني عن كل كبيرة وصغيرة ، أحسّ أنهم يحسدونني لأنني تمكنت من العودة للوطن وهم محرومون من ذلك . وبعضهم يلتقونني بحب ويسألونني بحرص الذي يريد أن يعرف ويطمئن لأنه لا ينتظر العودة قريبا للوطن ، لأنه يرى أن إتفاقات اوسلو تخلت عنه لأنه من لاجئي 1948 . وأقابل فلسطينيين يودّون لو لم يقابلوني ولكنهم ما دام قد قدّر لهم أن يقابلوني فإنهم يسارعون إلى الصراخ والهجوم على إتفاقات اوسلو وأقل صفة يعطونها ( الخيانية ) ، ويقولون لي أنهم لا يقبلون دخول فلسطين في ظلها فإما أن يعودوا إلى فلسطين كلها وهي محررة من كل دنس وإلا فلا .. كثير من هذه الشريحة رتّبوا أمورها في البلدان التي يعيشون فيها ، وليسوا مستعدين لأن يدفعوا ثمن إنتمائهم للوطن ، وهم يسيرون حسب مقولة أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم ، ويهربون إلى الأمام فما أسهل المزاودة . ذات يوم كنت في إحدى العواصم العربية ، وكان أكثر الحاضرين من الشريحة الأخيرة ، وبعد أن وصل النقاش ذروته أحسست بصداع عنيف يكاد يفلق رأسي فقلت للحاضرين : أرجو أن تسمحوا لي ببعض الوقت أتحدث فيه دون أن يقاطعني أحد حتى أكمل حديثي ، وبعدها قولوا ما شئتم .. القضية باختصار أن الشعب الفلسطيني مطرود من وطنه ويريد العودة إليه ، لهذا حمل السلاح وقاتل وقدّم الشهداء ، ثم جاء من أبعده عن حدود وطنه ورمى به على تخوم الصحراء الكبرى وغابات خط الإستواء ، ليمنعه من القتال والعودة أو الإستشهاد فوق تراب وطنه . أريد أن أفهم ما الفرق بين من احتل وطني وبين من منعني من القتال لاسترداده ؟ إذا كانت النتيجة في الحالتين أن أبقى منفيّا ومشردا ومطرودا ؟ والأدهى من ذلك وأمرّ أن ذلك الذي فعل كل هذا هو نفسه الذي يهاجم القيادة الفلسطينية بعد توقيع الإتفاق ، ولا أريد أن أحكي عن مجازرهم ضد شعوبهم وضدنا ولا عن إتصالاتهم السرية والعلنية مع الصهاينة واتفاقاتهم معهم علينا . ثم يا سبحان الله كل الدول العربية لها سيادتها ? كيفما كانت ? ولها علمها وحدودها وجواز سفرها ولها سياستها / الوطنية ، وعندما يحتدّ النقاش بينك وبين أي مسؤول عربي كبير أو صغير في إجراء معين إتخذه بحقك ، يقول لك ببساطة ( هذي بلدنا واحنا حرّين فيها ) أي أنه غير مسموح لأحد بأن يتدخل في القضايا الداخلية لهذا البلد . فلماذا يتدخل الكل في شؤون الفلسطينيين ؟ ولماذا لا يسمح للفلسطينيين أن يتصرفوا في قضاياهم الوطنية ؟ هل السياسات القطرية مسموح بها للدول العربية ? المستقلة ?والسياسات القومية تعني فلسطين وحدها ؟ ثم قولوا لي بالله عليكم : بأي حق أنا لا أحمل شهادة ميلاد فلسطينية وبطاقة تعريف فلسطينية وجواز سفر فلسطيني ؟ ولماذا لا أستطيع أن أزور بلدي أو أدفن فيه ؟ ولماذا يحملق شرطي المطار أو الحدود أو الميناء في البلدان العربية وغيرالعربية في وثيقة سفري طويلا ويتركني أنتظر ساعات قبل أن يسمح لي بالدخول أو يمنعني من الدخول رغم حصولي على تأشيرة ، ويرحّلني على نفس الطائرة التي جئت بها ليعيدني إلى البلد الذي جئت منه ، وربما لا يقبلني ذلك البلد فأقضي أياما وأسابيع قبل أن أجد بلدا يقبل دخولي ، وقد تتدخل منظمات حقوق الإنسان العربية والدولية حتى تحل مشكلتي . ثم أنني أكاد أفقد عقلي من حديثكم عن الديمقراطية ، فلطالما هاجمتم الأنظمة العربية لأنها لا تؤمن بالديمقراطية ولا تمارسها ، ودليلكم أنها لا تسمح بوجود معارضة في أقطارها . فلماذا تقيمون الدنيا ولا تقعدوها لأن هناك معارضة فلسطينية للإتفاق أو للسلطة وتقولون بأنه ما دامت هناك معارضة فلسطينية فإن الإتفاق غير شرعي والسلطة غير وطنية ؟ أم أنكم تريدون أن توافق الأجهزة والمؤسسات الفلسطينية على الإتفاق بأغلبية 99 بالمئة كما يفعل بعض الحكام العرب الذين لا زلتم تتندّرون بفعلهم ؟ وتتناسون إعجابكم بالديمقراطية الغربية وتصفيقكم لفوز بعض رؤسائها بأغلبية 51 بالمئة ؟ وأخيرا قولوا لي أين ستذهبون فيما لو قررت سلطات هذا البلد الذين تقيمون فيه أن تفسخ عقودكم وأخبرتكم بوجوب الرحيل ؟ ولا تقولوا لي ( بلاد الله واسعة ) لأنكم تعلمون جيدا ماذا حصل لإخوانكم أيام أزمة الكويت وإخوانكم في العراق بعد الإحتلال الأمريكي . فيا جماعة أنا أعرف أن بعض كلامكم صحيح ، وأعرف أن ما يعطينا الإتفاق أقلّ بكثير من آمالي وأحلامي التي لا أرى أنها تتحقق إلا بعودتي إلى قريتنا . وهل عدم عودتي لقريتنا يجعلني أرفض أن يرفع نير الإحتلال عن مدن وقرى أخرى في وطني ؟ . ما الأفضل أن نبقى على هذه الحالة أم أن نحصل على جزء من وطننا نمارس فيه بعض إنسانيتنا وشيئا من هويتنا الوطنية ؟ لا تنسوا أن هوشي منه احتاج لأكثر من عشرين سنة من النضال المرير لينهي الوجود الأجنبي من فيتنام بعد انتصاره في معركة ديان بيان فو وإقامته لدولة في الجزء الشمالي من فيتنام ، دون أن يأبه بالنعوت المشينة التي نعته بها بعض الفيتناميين بسب تركه الجزء الجنوبي من فيتنام تحت الإحتلال الأجنبي . هذا هو رأيي ، وربما أكون مخطئا ، وإذا كنت كذلك فصحّحوني . وهنا انفضّ السامر لأن لا أحد قال بأني مخطيء وحتى من كان بودّه أن يقول لي ذلك لم يجد ما يقوله لي .