عشرات الصحفيين يندّدون ب"خروقات جسيمة" داخل لجنة أخلاقيات الصحافة ويدعون إلى تحقيق عاجل    عصبة الأبطال الافريقية (دور المجموعات).. الأهلي المصري يستهل مشواره بانتصار كبير على شبيبة القبائل 4-1    نهضة بركان يستهل "الأبطال" بفوز ثمين    21 شهيدا في غزة في انتهاكات إسرائيلية للهدنة    أحمد الشناوي يعلق على استبعاده من جائزة الكاف    النبهان ينتقد "الولوج المطلق" لصناع المحتوى إلى مجال التمثيل الفني        وضع سيدة مولودها داخل إحدى عربات "الترامواي".. مستشفى مولاي عبد الله بسلا لم يسجل أي ولوج للمعنية بالأمر إلى مصالحه (بلاغ)        الأميرة للا مريم تترأس حفل الاختتام الرسمي للمنتدى الإفريقي الأول لبرلمان الطفل                جلالة الملك يهنئ الجيش الملكي النسوي عقب تتويجه بدوري أبطال إفريقيا للسيدات    وكالة التنمية الرقمية تعقد مجلسها الإداري السابع وتصادق على خارطة طريقها الجديدة ل 2030        اليماني: مجلس المنافسة يتهرب من مواجهة الاحتكار في سوق المحروقات        الداخلة .. تنظيم لقاء علمي حول الذكاء الاصطناعي في أبعاده الاجتماعية والسيادية    موسيقى كناوة المغربية تلهب حماس الجمهور في مهرجان فني بالكويت        إجراء ناجح لعمليتين في القسطرة القلبية بمستشفى محمد السادس بأكادير    مجلس المستشارين يعقد الثلاثاء المقبل جلسة عمومية مخصصة للأسئلة الشفوية الموجهة لرئيس الحكومة حول السياسة العامة    البرازيل.. إيداع الرئيس السابق جايير بولسونارو رهن الاعتقال الاحتياطي    لجنة الأفلام تُطلِق برنامج قطر لحوافز الإنتاج السينمائي والتلفزيوني (QSPI)    تنظيم مهرجان فاس السينمائي العربي الإفريقي    جلالة الملك يهنئ الرئيس اللبناني بمناسبة العيد الوطني لبلاده    لجنة الأفلام في قطر تحصل على حقوق قصة "قيصر"    الإنتربول تشيد بالدور الإستراتيجي للمغرب في مكافحة الجريمة العابرة للحدود    هل يصيب الذكاء الاصطناعي بعض الناس بالتوهم؟    قوات روسيا تعلن عن تحرير بلدتين    الطالبي العلمي بمؤتمر الاتحاد البرلماني الإفريقي: التنمية الحقيقية رهينة بتعزيز سيادة الدول الإفريقية على مواردها الطبيعية    أكبر جمعية حقوقية بالمغرب تدين تواتر الأحكام القضائية القاسية في حق محتجي "جيل زيد"    أفراد طاقم فيلم "صوت هند رجب" وأبطال القصة الحقيقيين في مهرجان الدوحة السينمائي: صوت هند هو صوت غزة وكلّ الفلسطينيين    حادثة سير خطيرة تودي بحياة 4 أشخاص في بوجدور    ساركوزي يكتب عن السجن: كما هو الحال في الصحراء.. تتقوّى الحياة الداخلية في السجن    القاهرة تستعجل تشكيل "قوة غزة"    ارتفاع الدرهم بنسبة 0,4 في المائة مقابل الدولار    عقار : ارتفاع مؤشر الأسعار في الفصل الثالث من سنة 2025    أرسنال يفقد مدافعه غابرييل لأسابيع    الأمم المتحدة: الإمدادات الغذائية لغزة تتحسن منذ وقف إطلاق النار    طقس مستقر في توقعات اليوم السبت بالمغرب    وفاة ثلاثيني وإصابة شاب آخر في حادثَيْ دراجة نارية متتاليَيْن داخل نفق "مركز الحليب" بطنجة    بوعرعار "كبير المترجمين".. سفير لغوي متجول بارع ودبلوماسي "فوق العادة"    الداخلية تلزم الجماعات بتحديد تسعيرة الضريبة على الأراضي غير المبنية لتشمل الدواوير... تغازوت نموذجا (فيديو)    بن هنية: "صوت هند رجب" يتخلّد حين يصل نفس الشعور إلى كافة الناس    "الأول يكشف تفاصيل استنطاق "بوز فلو".. الرابور أمام القضاء بسبب اتهامات مرتبطة بمضامين أغانيه    أجهزة قياس السكري المستمر بين الحياة والألم    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    أجهزة قياس السكر المستمر بين الحياة والألم: نداء أسر الأطفال السكريين لإدماجها في التغطية الصحية    جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    معمار النص... نص المعمار    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    ارتفاع معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال والمراهقين بواقع الضعف خلال العقدين الماضيين    أطباء يوصون بتقليل "شد الجلد" بعد الجراحة    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض مني
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 08 - 04 - 2012

رغم أجواء الفرح التي غمرتني وغمرت أهلي وكل من له علاقة بنا إلا أن غيمة قاتمة من الحزن ظلّلتني تلك الليلة ، وقد لا يحتاج الحزن الفلسطيني لسبب معين ليجيء . فكل ما يراه الفلسطيني ويسمعه يثير أحزانه .. عندما يفتح الراديو ويسمع أغنية عاطفية يتذكر أناسا افتقدهم ، فيحزن .. عندما يرى على شاشة التلفزيون طوابير اللاجئين في الصومال او رواندا أو البوسنة يتذكر مخيمات أهله اللاجئين ، فيحزن .. عندما يقرأ في الصحف تفاصيل تسلّم مانديلا للسلطة من زعيم البيض في جنوب إفريقيا يتذكر العنصرية الصهيونية المتحكّمة برقاب شعبه ، فيحزن. عندما يذهب لعرس أحد أصدقائه ويرى أهل العريس متحلّقين حوله يتذكر أهله الذين لا يستطيع رؤيتهم ، فيحزن .. عندما يذهب للمشاركة في تشييع أحد المتوفين يتذكّر موت العديد من أهله دون أن يتمكن من المشاركة في تشييعهم ، فيحزن .. عندما يتذكّر أن أسرته تعيش في أكثر من بلد بل وفي أكثر من قارة بلا أمل في أن يجتمعوا في مكان واحد ولو لأيام ، يحزن .
أشكال الحزن الفلسطيني هذه عامة سواء كان الفلسطيني داخل الوطن أو خارجه ، ولكن هناك أشكال من الحزن يختصّ بها فلسطينيو الشتات . الطالب الفلسطيني الذي يتابع دراسته في الخارج ويسكن في الحي الجامعي ، تأتي العطلة الدراسية ويعود الطلاب إلى أهلهم وهو لا يستطيع أن يفعل مثلهم ويبقى وحده في الحي الجامعي ، فيحزن .. تأتي الأعياد الوطنية والدينية ويذهب زملاؤه لتمضية العيد مع أهاليهم ويبقى وحيدا- حتى ولو استضافه أحد زملاؤه من أبناء البلد ? فيحزن .. يمرض هذا الطالب ويصيح كالعادة( يمّه ) ولا يجد أمه ولا أحدا من أسرته بجانبه ، فيحزن .. يسقط هذا الطالب في امتحاناته فلا يجد من يواسيه ، فيزيد حزنه حزنا .. ينجح هذا الطالب ولا يجد أحدا يشاركه فرحته ، فيحزن ، ويزداد حزنه لأنه لا يعرف إلى أين سيذهب وهل سيجد بلدا يتعاقد معه ? خاصة إذا لم يكن يملك تصريحا للعودة إلى الوطن ، أو لأن أهله في بلد لا يعطي إقامة إلا لمن يتعاقد معهم .
الفلسطيني الذي يعمل ويقيم في الخارج ، يريد أن يتزوج من إحدى بنات أقاربه أو من بلده ولا يستطيع الذهاب إلى الوطن ، يخطب له أهله ويرسلون إليه العروس وتصل وكأنها طرد بريدي ، فأي عرس سيكون وأية فرحة سيحسّ بها ؟ وقد حصل أن حضرت إبنة عمتي من الأردن بثوبها الأبيض لتتزوج من إبن خالي رشدي ، ولكنها لم تستطع الدخول بسبب التأشيرة ، ولم يسمح لخطيبها / زوجها أن يراها ، وبقيت معها في المطار حتى صباح الغد لتعود على الطائرة التي جاءت بها ، بعد أن سمح لي ضابط المطار بأن أفتح حقيبتها التي بقيت في مركز الحقائب لنأخذ للعروس ملابس عادية تعود بها .
يرجع الفلسطيني إلى بيته بعد يوم عمل مرهق فيجد أن زوجته قد أعدّت له طعاما فلسطينيا معيّنا ، فيفرح بذلك ثم لا يلبث أن يغتمّ لأنه يتذكر أمه التي كانت تعد له ذلك الطعام عندما كان صغيرا وهو الآن محروم من رؤِيتها أو تذوّق طعامها . يولد له طفل فيفرح ، ولكنه سرعان ما يحزن عندما يتذكر أن العديد من أفراد أسرته لن يحضروا ليروا الطفل ويباركوا له فيه . ويكبر هذا الطفل ويريد ختانه وفي غمرة فرحه يحزن لأنه سيختنه وحيدا . ويكبر هذا الطفل ويحصل على شهادة البكالوريا فيفرح أهله ولكنهم في غمرة فرحهم يحزنون لأنهم لا يعرفون هل ستقبله إحدى الجامعات أم لا ؟ وحتى لو قبلته تلك الجامعة هل ستعطيه سفارة دولة تلك الجامعة تأشيرة دخول ؟ وقد تقبله الجامعة ويحصل على تأشيرة ، فيبدأ حزن آخر: : هل سيتمكن أهله من رؤيته ثانية، لعدم يقينهم من أن الدولة التي يقيمون فيها ستعطي إبنهم تأشيرة ليجيء عندهم .
التأشيرة مصدر حزن لكل الفلسطينيين ، فلسبب ما تعلن الدولة التي يعمل فيها الفلسطيني عدم رغبتها في بقائه على ترابها وتضعه في أول طائرة تغادر مطارها ، فيصل إلى أول محطة في رحلة تلك الطائرة فترفض سلطات تلك المحطة إستقباله ، وتتوالى المحطات ويتوالى الرفض وقد يطول ترحاله بين المطارات أياما وأسابيع وشهور أحيانا ، إلى أن يأتي فرج من الله بعد تدخلات ومناشدات ، وعلى رأي أبو العلاء المعري : بعد هيا ط وميا ط وشفاعة من قريش . . وقد يفكر هذا الفلسطيني في إستضافة أبويه لعدة أيام في البلد الذي يعمل فيه ، قد يستجاب لطلبه وقد يرفض ، وأحيانا يستجاب لطلبه ويأتي الأبوان وفي المطار قد ترفض السلطات إدخالهما دون إبداء الأسباب ، بل وقد لا يسمح لإبنهما بمجرد رؤيتهما قبل إعادتهما على نفس الطائرة.
قد يتزوج الفلسطيني من فتاة من أحد الأقطار العربية ويرزقان بأولاد ويريد أن يصحبها والأولاد لزيارة أهلها ، ويصلون إلى أحد مطارات بلدها ، فيسمح لها ضابط المطار بالدخول هي وأولادها إن كانوا مسجلين معها في جواز سفرها ، ويصدّ الزوج ويأمره بالعودة على نفس الطائرة ، وإذا كان الأولاد غير مسجلين في جواز سفر أمهم يرفض الضابط إدخال الأب والأولاد .
وقد تسمح الظروف لأحد فلسطينيي الشتات بزيارة أهله في الوطن المحتل ،، عندما يدخل بيتهم لا يعرف إلا كبار السن فيه ، وحتى إخوته وأخواته الذين ولدوا بعد رحيله أو كانوا صغارا ، وبالطبع أبناءهم وبناتهم .ويبدأ بالسؤال عن أقاربه فيكتشف أن بعضهم قد توفي منذ سنين دون ان يعلم . ولنتصور حزن الأقارب القريبين جدا المتشوّقين لرؤية الغائب، ويأتون ليسلّموا عليه فيتفاجؤوا بأنه لم يتعرف عليهم . هذا هو سبب حزني في تلك الليلة ، لأن هذه هي حالتي .
لست أدري هل أن الفلسطينيين مرضى بالحزن ؟ فقد تغلغل الحزن في كل جوانب حياتهم إلى حد أن من عادات الفلسطينيين توديع الشهداء وحتى الموتى العاديين ? إذا كانوا شبابا بالزغاريد التي رغم أنها في العادة تعبير عن الفرح ، تتم في أوج لحظات الحزن . وهم عندما يزورون بعضهم ويريدون أن يشكروا الزائر على مبادرته ، يقولون له : نزورك إن شاء الله في ( هداة/ هدوء البال ) فيجيبهم ( الله يهدّي البال ).
الغربة عن الوطن حزن والغربة في الوطن حزن مركّز ، وبلا وطن معافي لابد وأن يكون الحزن سيد الموقف ، فبالوطن حتى ولو لم يكن كما نشتهي نحزن ولكننا نستطيع أن نخلق حالات من الفرح . ولعل أخطر ما في أمر الحزن أن أعصابنا اهترأت ولم تعد قادرة على الإحتفا ظ بمشاعر الحزن أو الفرح طويلا . ويبدو أن طول فقداننا للفرح يجعلنا نحسّ وكأنه غير موجود رغم وجوده الفعلي . فمن أجل أن نبقى قادرين على الحزن والفرح .. من أجل أن نحافظ على إنسانيتنا ، يجب أن نحصل على وطن ? جزء من وطن - نحمل مواطنيته ونستطيع أن نضمن أن رفاتنا ستجد حيّزا فيه ، ونضرب موعدا لأسرتنا المشتتة في جهات العالم الأربع لنلتقي دون أن ندوخ بحثا عن تأشيرة دخول .. لنلتقي ونبكي فرحا وحزنا كما يفعل الآخرون .
كانت لحظات استقبال المهنئين والسلام عليهم كشمس آذار / مارس ( ساعة شميسة وساعة أمطار وساعة مقاقات/ صياح الشنّار ) ، بعضهم عرفته من اللحظة الأولى ، وبعضهم بعد بعض الجمل التعريفية أمكنني التعرف عليه ، وبعضهم لم أتعرف عليه أبدا وادعيت أنني عرفته ودلّلت على ذلك بعناقه بحرارة . ليس هذا هو المهم في تلك اللحظات ، بل ما كنت أقرؤه في نظرات وحركات المهنئين ، فبعضهم في شوق حقيقي لملاقاتي ، وبعضهم يريد أن يرى ماذا فعل الزمان بي ، وبعضهم يريد أن يربط ويقارن بين رؤيتي وما سمعه عني في غربتي . وكنت أرى وأحسّ بمشاعر الود والمحبة لدى البعض ، وبلا مشاعر لدى البعض الآخر وكأن مجيئه أداء واجب تجاه أهلي ، ومشاعر عدم ارتياح لدى آخرين لأنني لم أتعرّف عليهم للوهلة الأولى معتبرين ذلك نوعا من التجاهل أو التكبّر، ناسين أنني لم أرهم طيلة 32 سنة أو يزيد وأن الزمان يفعل أفعاله في الذاكرة أولا.
كان مكوث كل مهنئ لا يدوم أكثر من نصف ساعة يشرب خلالها القهوة ويتبادل معي أو مع الآخرين بعض الحديث وينصرف ، فالناس يعرفون أن البيت الذي نستقبل فيه الزوار لا يتسع لأكثر من خمسة عشر شخصا فلا يطيلون الجلوس ليفسحوا المجال لغيرهم . ويبدو أن بعض الناس أجّلوا المجيء إلى الغد تاركين اليوم الأول للأسرة وللقريبين جدا ، وعلى ذلك ما أن جاء وقت العشاء حتى خلت الدار إلا من آل منصور ، وسمعت أصوات بعض نسائنا تقول : الحمد لله اللي ما ظلّ حدا ، حتى نقدر نشوفك على راحتنا .
من المؤكد أننا تعشيّنا عشاء فاخرا يليق بعزيز غاب طويلا ، وبمشاعر أم تتصوّر أن أبنها قد يجوع وهو بعيد عنها وقد لا يجد ما يشتهيه مما لا يمكن لإمرأة غيرها أن تطبخه . ولكن كيف أكلنا وماذا أكلنا لا يمكن تذكّره لأن من كانوا يأكلون جلوسا على الأرض بالعشرات تتراوح أعمارهم بين السبعين والسبع سنوات ، وكانت حركات اللسان أكثر من حركات الأسنان ، وكل ما أذكره أنني كنت أجلس بين والدتي وعمتي يسرى اللتين كانتا تتباريان في إطعامي بيديهما .
ثم انتقلنا إلى حوش الدار حيث كانت تتوارد علينا صواني الشاي وأباريق القهوة السادة ، وكان عمي أبومنصور وعمي أبو حنان يحيطان بي وأبو حنان لا يكفّ عن السعال بسبب العرق وحرارة الجو وركوبه السيارة ونوافذها مفتوحة طيلة الطريق وهو نحيل الجسم جدا . وفي أثناء الحديث أبديا الكثير من الملاحظات على إتفاق اوسلو ولكنهما أردفا ذلك بالقول ( والله يا أبو سفيان لو لم يكن للإتفاق من حسنة إلا أنه جعلنا نراك بيننا فإننا نقبله ) .
بعد منتصف الليل إنفضّت السهرة ونمت مع إخوتي خالد وفؤاد وعاصم وأبناءهم وبعض أبناء أخواتي الذكورفي الجزء غير المسقوف من سطح بيتنا والذي تحنل جزأه الآخرالشقة التي تسكنها أمي وشقيقتي غربية والتي ستكون مسكني طوال مكوثي في فلسطين ، وكانت الأرض مفروشة بفرشات سميكة نسبيا من الإسفنج ، ولكل واحد بطانية رقيقة ليتغطّى بها في آخر الليل . كنت متعبا للغاية ، ولكنني استعدت لذّة النوم في العراء طيلة غربتي ? باستثناء أيام القواعد الفدائية ? بما تحتويه من متعة التمتع برؤية النجوم ومراقبتها وهي تشعّ وتخفت .
أفقت صباحا على صوت أمي وهي تجلس عند رأسي تمسّد شعري ، ولعلها كانت تستذكر طفولتي وخاصة أيام مرضي ، حيث لم تكن الأمهات تمارس مثل هذه الطقوس إلا إذا كان الولد أو البنت مريضا . تظاهرت بأنني لم أستيقظ حتى استمتع بهذا الطقس وسمعتها تقول : الله الله يا ولدي تركتني وشعرك أصفر وعدت لي بشعرأبيض ، فضحكت ونهضت لأجد الجميع واقفا يراقب المشهد وبعضهم يبكون ، وجلسنا نتناول الفطور. كانت أمي قد توقفت عن ممارسة الطهي منذ زمن ، ولكنها إعتادت عند الجلوس إلى المائدة أن تضع الخبز أمامها وتقوم هي بتوزيع الخبز على الآكلين . ذلك أنه من تقاليد ذوي الأصول القروية أن الخبز هو الأكل ، ومن كان عنده الخبز كان عنده كل الخير ، ويحرص أرباب الأسر على توفير مؤونة القمح في موسم الحصاد ليأمنوا غدر الأيام ، أما ماذا سيأكلون بهذا الخبز فالأمر لا يتوقفون عنده كثيرا .
قبل أن تمتد يدي إلى الطعام طلبت مني أمي أن أريها يدي اليسرى وسألتني بعتاب : لماذا لا تلبس خاتم الزواج ؟ فأجبتها بأن أصابعي أصبحت أغلظ من الخاتم فنزعته واحتفظت به في البيت . ثم أخرجت صرّة من جيب فستانها وأخرجت منها خاتما فضيّا ووضعته في خنصر يدي قائلة هذا خاتم أبيك إحتفظت به لك بعد وفاته ، وهو نصيبك من تركته إضافة إلى عقاله وقمبازه ? القمباز هو لباس يشبه الجلباب إلى حد ما ولكنه مفتوح من الأمام وليس له غطاء رأس , يلبسه أبناء القرى وحتى بعض أبناء الحارات القديمة في المدن .
ولهذا الخاتم حكاية طريفة ففي عام 1986 قرروالدي أن يؤدي فريضة الحج مع والدتي، وبما أن جوازات السفر التي يستعملها أبناء الضفة الغربية عند سفرهم للخارج يتحصّلون عليها من الأردن باعتبار أنهم عند الإحتلال الصهيوني عام 1967 كانوا يحملون الجنسية الأردنية ، فقد سافر مع والدتي إلى الأردن قبل الموسم بشهرين وتقدم بطلب الحصول على جواز السفر ، وكان المعتاد أن تكون الزوجة مسجلة في جواز سفر زوجها وصورتها موضوعة على صفحة خاصة بها تتضمن معلوماتها الشخصية . تطلّب الأمر أن يكون من ضمن وثائق جواز السفر عقد زواج ، ولم ينفع إعتذارأبي بأنه وزوجته تجاوزا الستين من عمرهما وأن عقد زواجهما قد ضاع مع ضياع فلسطين . فاضطرا إلى الذهاب للمحكمة الشرعية في عمان حيث عقد القاضي الشرعي زواجهما من جديد ، وكان الشهود أصغر من أبنائهما ، وأمهرها خمسة دنانير أردنية وتبادل وإياها خاتمين فضيين . والمحزن في قصة هذا الخاتم أن المخابرات الأردنية التي كانت تتحكّم في منح جوازات السفر لم توافق على طلب أبي إلا بعد إنقضاء موسم الحج مما حرمه من أداء الفريضة إذ توفي في نفس ذلك العام .
وقد دفعني ذلك إلى السؤال عما تركه أبي من صور ، وقد انزعجت للغاية عندما قالوا لي بأنه لا يوجد لك عندنا أية صورة غير تلك التي أحضرتها شقيقتي غربية وشقيقي فؤاد وابن عمي منصور عندما رجعوا من المغرب إلى فلسطين . ذلك أن قوات الإحتلال الصهيوني في الأيام الأولى للإحتلال عام 1967 كانت تطارد كل من له صلة بمنظمة التحرير الفلسطينية ، وبما أن والدي كان عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني ممثلا لمخيمات اللاجئين في منطقة نابلس ( وظل كذلك إلى أن توفاه الله ) فقد اختفى عن الأنظار فترة في شرق الأردن ثم في داخل الضفة الغربية ، إلى أن هدأت الأمور نسبيا وعاد للظهور . في هذه الفترة كان متوقعا مداهمة بيتنا في كل لحظة ، فعمدت والدتي إلى إتلاف كل الصور الخاصة بأبي في إجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني في القدس او الإسكندرية أو القاهرة ، وكذلك صوري باللباس العسكري وحتى التي بملابس الكشفية الشبيهة بلباس العسكر .
ونحن على الفطور أخذت أمي تسألني هل كنت تأكل كذا وكذا من الأطعمة التي كانت تعدها لنا ، وكنت أجيبها بلا وبنعم إلى أن سألتني ماذا تشتهي أن تتغدّى اليوم ؟ فقلت لها على الفور ( مجدّرة ) وهي أكلة فلسطينية خالصة كان الفقراء في فلسطين يعدّونها من العدس والبرغل الذي هو قمح مسلوق ومجفف ومطحون بالرحى المنزلي التي نسميها ( الجاروشة ) مع كثير من البصل الذي كان يقلى حتى يصبح لونه بنيا . ورغم أن هناك أكلات شبيهة بها في بعض الأقطار العربية تستبدل البرغل بالأرز ، إلا أنني لم آكلها على الطريقة الفلسطينية منذ مغادرتي بيتنا في مخيم الفارعة إلا مرة واحدة عند عائلة فلسطينية في مخيم بعلبك في لبنان . وقد تفاجأت يومها من هذه العائلة التي زرتها بالصدفة أنهم تعرّفوا علي وعرفوا إسم أمي وإسم أبي واسم جدي وجدتي لأمي لمجرد أن رأوني ، ذلك أنهم كانوا يسكنون بجوارنا في حوّاسة بحيفا .
لمجرد أن قلت مجدّرة انتفض أخي الأصغر عاصم صائحا باحتجاج : الله يلعن أبو المجدّرة ، يا أخي أطلب أكلة فاخرة لنأكلها معك . فضحك الجميع وقالت أختي الكبرى وطفة التي كانت بمثابة الأم لإخوتي الصغار .. هذا مش شغلكم ، والمطلوب منكم فقط أن تجوعوا إستعدادا لأكل ما سنطبخ لكم .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.