وثائق سرية تكشف تورط البوليساريو في حرب سوريا بتنسيق إيراني جزائري    الجهات تبصِم "سيام 2025" .. منتجات مجالية تعكس تنوّع الفلاحة المغربية    تصفية حسابات للسيطرة على "موانئ المخدرات" بالناظور    من فرانكفورت إلى عكاشة .. نهاية مفاجئة لمحمد بودريقة    أخنوش يمثل جلالة الملك في جنازة البابا فرانسوا    دول الساحل تعلن دعمها الكامل للمغرب وتثمن مبادرة "الرباط – الأطلسي" الاستراتيجية    مجلس جهة طنجة يشارك في المعرض الدولي للفلاحة لتسليط الضوء على تحديات الماء والتنمية    المفتش العام للقوات المسلحة الملكية يقوم بزيارة عمل إلى إثيوبيا    جريمة مكتملة الأركان قرب واد مرتيل أبطالها منتخبون    مؤتمر "بيجيدي".. غياب شخصيات وازنة وسط حضور "طيف بنكيران"    جريمة قتل جديدة في ابن أحمد    طنجة تحتضن النسخة الحادية عشرة من الدوري الدولي "مولاي الحسن" بمشاركة أندية مغربية وإسبانية    الشيبي يسهم في تأهل بيراميدز    أخنوش يصل إلى روما لتمثيل جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    هيئة: وقفات بعدد من المدن المغربية تضامنا مع غزة وتنديدا بالإبادة الجماعية    مرسوم حكومي جديد يُحوّل "منطقة التصدير الحرة طنجة تيك" إلى "منطقة التسريع الصناعي" ويوسّع نطاقها الجغرافي    وليد الركراكي: نهجنا التواصل وعرض مشاريعنا على اللاعبين مزدوجي الجنسية... نحترم قراراتهم    المفتش العام للقوات المسلحة الملكية يقوم بزيارة عمل إلى إثيوبيا    أخنوش يصل إلى روما لتمثيل جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    بسبب التحكيم.. توتر جديد بين ريال مدريد ورابطة الليغا قبل نهائي كأس الملك    نشرة إنذارية: زخات رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة الجمعة بعدد من مناطق المملكة    قطار التعاون ينطلق بسرعة فائقة بين الرباط وباريس: ماكرون يحتفي بثمرة الشراكة مع المغرب    الأخضر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    العالم والخبير في علم المناعة منصف السلاوي يقدم بالرباط سيرته الذاتية "الأفق المفتوح.. مسار حياة"    تقرير يكشف عن نقص في دعم متضرري زلزال الحوز: 16% لم يحصلوا على المساعدة    عناصر بجبهة البوليساريو يسلمون أنفسهم طواعية للجيش المغربي    بودريقة يمثل أمام قاضي التحقيق .. وهذه لائحة التهم    إسكوبار الصحراء.. الناصري يلتمس من المحكمة مواجهته بالفنانة لطيفة رأفت    متدخلون: الفن والإبداع آخر حصن أمام انهيار الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    افتتاح مركز لتدريب القوات الخاصة بجماعة القصر الصغير بتعاون مغربي أمريكي    إحصاء الخدمة العسكرية ينطلق وأبناء الجالية مدعوون للتسجيل    مذكرة السبت والأحد 26/27 أبريل    ضابط شرطة يطلق رصاصا تحذيريا لإيقاف مروج مخدرات حرض كلابا شرسة ضد عناصر الأمن بجرادة    مهرجان "كوميديا بلانكا" يعود في نسخته الثانية بالدار البيضاء    "أمنستي" تدين تصاعد القمع بالجزائر    أرباح اتصالات المغرب تتراجع 5.9% خلال الربع الأول من 2025    أبرزها "كلاسيكو" بين الجيش والوداد.. العصبة تكشف عن برنامج الجولة 28    طنجة.. ندوة تنزيل تصاميم التهيئة تدعو لتقوية دور الجماعات وتقدم 15 توصية لتجاوز التعثرات    على حمار أعْرَج يزُفّون ثقافتنا في هودج !    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يناقش "الحق في المدينة" وتحولات العمران    الإعلان عن صفقة ب 11.3 مليار لتأهيل مطار الناظور- العروي    السايح مدرب منتخب "الفوتسال" للسيدات: "هدفنا هو التتويج بلقب "الكان" وأكدنا بأننا جاهزين لجميع السيناريوهات"    كاتبة الدولة الدريوش تؤكد من أبيدجان إلتزام المملكة المغربية الراسخ بدعم التعاون الإفريقي في مجال الصيد البحري    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    الملك يقيم مأدبة عشاء على شرف المدعوين والمشاركين في الدورة ال 17 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب    المديرة العامة لصندوق النقد الدولي: المغرب نموذج للثقة الدولية والاستقرار الاقتصادي    "الإيسيسكو" تقدم الدبلوماسية الحضارية كمفهوم جديد في معرض الكتاب    أكاديمية المملكة المغربية تسلّم شارات أربعة أعضاء جدد دوليّين    الرباط …توقيع ديوان مدن الأحلام للشاعر بوشعيب خلدون بالمعرض الدولي النشر والكتاب    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    الحل في الفاكهة الصفراء.. دراسة توصي بالموز لمواجهة ارتفاع الضغط    المغرب يعزز منظومته الصحية للحفاظ على معدلات تغطية تلقيحية عالية    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض مني
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 08 - 04 - 2012

رغم أجواء الفرح التي غمرتني وغمرت أهلي وكل من له علاقة بنا إلا أن غيمة قاتمة من الحزن ظلّلتني تلك الليلة ، وقد لا يحتاج الحزن الفلسطيني لسبب معين ليجيء . فكل ما يراه الفلسطيني ويسمعه يثير أحزانه .. عندما يفتح الراديو ويسمع أغنية عاطفية يتذكر أناسا افتقدهم ، فيحزن .. عندما يرى على شاشة التلفزيون طوابير اللاجئين في الصومال او رواندا أو البوسنة يتذكر مخيمات أهله اللاجئين ، فيحزن .. عندما يقرأ في الصحف تفاصيل تسلّم مانديلا للسلطة من زعيم البيض في جنوب إفريقيا يتذكر العنصرية الصهيونية المتحكّمة برقاب شعبه ، فيحزن. عندما يذهب لعرس أحد أصدقائه ويرى أهل العريس متحلّقين حوله يتذكر أهله الذين لا يستطيع رؤيتهم ، فيحزن .. عندما يذهب للمشاركة في تشييع أحد المتوفين يتذكّر موت العديد من أهله دون أن يتمكن من المشاركة في تشييعهم ، فيحزن .. عندما يتذكّر أن أسرته تعيش في أكثر من بلد بل وفي أكثر من قارة بلا أمل في أن يجتمعوا في مكان واحد ولو لأيام ، يحزن .
أشكال الحزن الفلسطيني هذه عامة سواء كان الفلسطيني داخل الوطن أو خارجه ، ولكن هناك أشكال من الحزن يختصّ بها فلسطينيو الشتات . الطالب الفلسطيني الذي يتابع دراسته في الخارج ويسكن في الحي الجامعي ، تأتي العطلة الدراسية ويعود الطلاب إلى أهلهم وهو لا يستطيع أن يفعل مثلهم ويبقى وحده في الحي الجامعي ، فيحزن .. تأتي الأعياد الوطنية والدينية ويذهب زملاؤه لتمضية العيد مع أهاليهم ويبقى وحيدا- حتى ولو استضافه أحد زملاؤه من أبناء البلد ? فيحزن .. يمرض هذا الطالب ويصيح كالعادة( يمّه ) ولا يجد أمه ولا أحدا من أسرته بجانبه ، فيحزن .. يسقط هذا الطالب في امتحاناته فلا يجد من يواسيه ، فيزيد حزنه حزنا .. ينجح هذا الطالب ولا يجد أحدا يشاركه فرحته ، فيحزن ، ويزداد حزنه لأنه لا يعرف إلى أين سيذهب وهل سيجد بلدا يتعاقد معه ? خاصة إذا لم يكن يملك تصريحا للعودة إلى الوطن ، أو لأن أهله في بلد لا يعطي إقامة إلا لمن يتعاقد معهم .
الفلسطيني الذي يعمل ويقيم في الخارج ، يريد أن يتزوج من إحدى بنات أقاربه أو من بلده ولا يستطيع الذهاب إلى الوطن ، يخطب له أهله ويرسلون إليه العروس وتصل وكأنها طرد بريدي ، فأي عرس سيكون وأية فرحة سيحسّ بها ؟ وقد حصل أن حضرت إبنة عمتي من الأردن بثوبها الأبيض لتتزوج من إبن خالي رشدي ، ولكنها لم تستطع الدخول بسبب التأشيرة ، ولم يسمح لخطيبها / زوجها أن يراها ، وبقيت معها في المطار حتى صباح الغد لتعود على الطائرة التي جاءت بها ، بعد أن سمح لي ضابط المطار بأن أفتح حقيبتها التي بقيت في مركز الحقائب لنأخذ للعروس ملابس عادية تعود بها .
يرجع الفلسطيني إلى بيته بعد يوم عمل مرهق فيجد أن زوجته قد أعدّت له طعاما فلسطينيا معيّنا ، فيفرح بذلك ثم لا يلبث أن يغتمّ لأنه يتذكر أمه التي كانت تعد له ذلك الطعام عندما كان صغيرا وهو الآن محروم من رؤِيتها أو تذوّق طعامها . يولد له طفل فيفرح ، ولكنه سرعان ما يحزن عندما يتذكر أن العديد من أفراد أسرته لن يحضروا ليروا الطفل ويباركوا له فيه . ويكبر هذا الطفل ويريد ختانه وفي غمرة فرحه يحزن لأنه سيختنه وحيدا . ويكبر هذا الطفل ويحصل على شهادة البكالوريا فيفرح أهله ولكنهم في غمرة فرحهم يحزنون لأنهم لا يعرفون هل ستقبله إحدى الجامعات أم لا ؟ وحتى لو قبلته تلك الجامعة هل ستعطيه سفارة دولة تلك الجامعة تأشيرة دخول ؟ وقد تقبله الجامعة ويحصل على تأشيرة ، فيبدأ حزن آخر: : هل سيتمكن أهله من رؤيته ثانية، لعدم يقينهم من أن الدولة التي يقيمون فيها ستعطي إبنهم تأشيرة ليجيء عندهم .
التأشيرة مصدر حزن لكل الفلسطينيين ، فلسبب ما تعلن الدولة التي يعمل فيها الفلسطيني عدم رغبتها في بقائه على ترابها وتضعه في أول طائرة تغادر مطارها ، فيصل إلى أول محطة في رحلة تلك الطائرة فترفض سلطات تلك المحطة إستقباله ، وتتوالى المحطات ويتوالى الرفض وقد يطول ترحاله بين المطارات أياما وأسابيع وشهور أحيانا ، إلى أن يأتي فرج من الله بعد تدخلات ومناشدات ، وعلى رأي أبو العلاء المعري : بعد هيا ط وميا ط وشفاعة من قريش . . وقد يفكر هذا الفلسطيني في إستضافة أبويه لعدة أيام في البلد الذي يعمل فيه ، قد يستجاب لطلبه وقد يرفض ، وأحيانا يستجاب لطلبه ويأتي الأبوان وفي المطار قد ترفض السلطات إدخالهما دون إبداء الأسباب ، بل وقد لا يسمح لإبنهما بمجرد رؤيتهما قبل إعادتهما على نفس الطائرة.
قد يتزوج الفلسطيني من فتاة من أحد الأقطار العربية ويرزقان بأولاد ويريد أن يصحبها والأولاد لزيارة أهلها ، ويصلون إلى أحد مطارات بلدها ، فيسمح لها ضابط المطار بالدخول هي وأولادها إن كانوا مسجلين معها في جواز سفرها ، ويصدّ الزوج ويأمره بالعودة على نفس الطائرة ، وإذا كان الأولاد غير مسجلين في جواز سفر أمهم يرفض الضابط إدخال الأب والأولاد .
وقد تسمح الظروف لأحد فلسطينيي الشتات بزيارة أهله في الوطن المحتل ،، عندما يدخل بيتهم لا يعرف إلا كبار السن فيه ، وحتى إخوته وأخواته الذين ولدوا بعد رحيله أو كانوا صغارا ، وبالطبع أبناءهم وبناتهم .ويبدأ بالسؤال عن أقاربه فيكتشف أن بعضهم قد توفي منذ سنين دون ان يعلم . ولنتصور حزن الأقارب القريبين جدا المتشوّقين لرؤية الغائب، ويأتون ليسلّموا عليه فيتفاجؤوا بأنه لم يتعرف عليهم . هذا هو سبب حزني في تلك الليلة ، لأن هذه هي حالتي .
لست أدري هل أن الفلسطينيين مرضى بالحزن ؟ فقد تغلغل الحزن في كل جوانب حياتهم إلى حد أن من عادات الفلسطينيين توديع الشهداء وحتى الموتى العاديين ? إذا كانوا شبابا بالزغاريد التي رغم أنها في العادة تعبير عن الفرح ، تتم في أوج لحظات الحزن . وهم عندما يزورون بعضهم ويريدون أن يشكروا الزائر على مبادرته ، يقولون له : نزورك إن شاء الله في ( هداة/ هدوء البال ) فيجيبهم ( الله يهدّي البال ).
الغربة عن الوطن حزن والغربة في الوطن حزن مركّز ، وبلا وطن معافي لابد وأن يكون الحزن سيد الموقف ، فبالوطن حتى ولو لم يكن كما نشتهي نحزن ولكننا نستطيع أن نخلق حالات من الفرح . ولعل أخطر ما في أمر الحزن أن أعصابنا اهترأت ولم تعد قادرة على الإحتفا ظ بمشاعر الحزن أو الفرح طويلا . ويبدو أن طول فقداننا للفرح يجعلنا نحسّ وكأنه غير موجود رغم وجوده الفعلي . فمن أجل أن نبقى قادرين على الحزن والفرح .. من أجل أن نحافظ على إنسانيتنا ، يجب أن نحصل على وطن ? جزء من وطن - نحمل مواطنيته ونستطيع أن نضمن أن رفاتنا ستجد حيّزا فيه ، ونضرب موعدا لأسرتنا المشتتة في جهات العالم الأربع لنلتقي دون أن ندوخ بحثا عن تأشيرة دخول .. لنلتقي ونبكي فرحا وحزنا كما يفعل الآخرون .
كانت لحظات استقبال المهنئين والسلام عليهم كشمس آذار / مارس ( ساعة شميسة وساعة أمطار وساعة مقاقات/ صياح الشنّار ) ، بعضهم عرفته من اللحظة الأولى ، وبعضهم بعد بعض الجمل التعريفية أمكنني التعرف عليه ، وبعضهم لم أتعرف عليه أبدا وادعيت أنني عرفته ودلّلت على ذلك بعناقه بحرارة . ليس هذا هو المهم في تلك اللحظات ، بل ما كنت أقرؤه في نظرات وحركات المهنئين ، فبعضهم في شوق حقيقي لملاقاتي ، وبعضهم يريد أن يرى ماذا فعل الزمان بي ، وبعضهم يريد أن يربط ويقارن بين رؤيتي وما سمعه عني في غربتي . وكنت أرى وأحسّ بمشاعر الود والمحبة لدى البعض ، وبلا مشاعر لدى البعض الآخر وكأن مجيئه أداء واجب تجاه أهلي ، ومشاعر عدم ارتياح لدى آخرين لأنني لم أتعرّف عليهم للوهلة الأولى معتبرين ذلك نوعا من التجاهل أو التكبّر، ناسين أنني لم أرهم طيلة 32 سنة أو يزيد وأن الزمان يفعل أفعاله في الذاكرة أولا.
كان مكوث كل مهنئ لا يدوم أكثر من نصف ساعة يشرب خلالها القهوة ويتبادل معي أو مع الآخرين بعض الحديث وينصرف ، فالناس يعرفون أن البيت الذي نستقبل فيه الزوار لا يتسع لأكثر من خمسة عشر شخصا فلا يطيلون الجلوس ليفسحوا المجال لغيرهم . ويبدو أن بعض الناس أجّلوا المجيء إلى الغد تاركين اليوم الأول للأسرة وللقريبين جدا ، وعلى ذلك ما أن جاء وقت العشاء حتى خلت الدار إلا من آل منصور ، وسمعت أصوات بعض نسائنا تقول : الحمد لله اللي ما ظلّ حدا ، حتى نقدر نشوفك على راحتنا .
من المؤكد أننا تعشيّنا عشاء فاخرا يليق بعزيز غاب طويلا ، وبمشاعر أم تتصوّر أن أبنها قد يجوع وهو بعيد عنها وقد لا يجد ما يشتهيه مما لا يمكن لإمرأة غيرها أن تطبخه . ولكن كيف أكلنا وماذا أكلنا لا يمكن تذكّره لأن من كانوا يأكلون جلوسا على الأرض بالعشرات تتراوح أعمارهم بين السبعين والسبع سنوات ، وكانت حركات اللسان أكثر من حركات الأسنان ، وكل ما أذكره أنني كنت أجلس بين والدتي وعمتي يسرى اللتين كانتا تتباريان في إطعامي بيديهما .
ثم انتقلنا إلى حوش الدار حيث كانت تتوارد علينا صواني الشاي وأباريق القهوة السادة ، وكان عمي أبومنصور وعمي أبو حنان يحيطان بي وأبو حنان لا يكفّ عن السعال بسبب العرق وحرارة الجو وركوبه السيارة ونوافذها مفتوحة طيلة الطريق وهو نحيل الجسم جدا . وفي أثناء الحديث أبديا الكثير من الملاحظات على إتفاق اوسلو ولكنهما أردفا ذلك بالقول ( والله يا أبو سفيان لو لم يكن للإتفاق من حسنة إلا أنه جعلنا نراك بيننا فإننا نقبله ) .
بعد منتصف الليل إنفضّت السهرة ونمت مع إخوتي خالد وفؤاد وعاصم وأبناءهم وبعض أبناء أخواتي الذكورفي الجزء غير المسقوف من سطح بيتنا والذي تحنل جزأه الآخرالشقة التي تسكنها أمي وشقيقتي غربية والتي ستكون مسكني طوال مكوثي في فلسطين ، وكانت الأرض مفروشة بفرشات سميكة نسبيا من الإسفنج ، ولكل واحد بطانية رقيقة ليتغطّى بها في آخر الليل . كنت متعبا للغاية ، ولكنني استعدت لذّة النوم في العراء طيلة غربتي ? باستثناء أيام القواعد الفدائية ? بما تحتويه من متعة التمتع برؤية النجوم ومراقبتها وهي تشعّ وتخفت .
أفقت صباحا على صوت أمي وهي تجلس عند رأسي تمسّد شعري ، ولعلها كانت تستذكر طفولتي وخاصة أيام مرضي ، حيث لم تكن الأمهات تمارس مثل هذه الطقوس إلا إذا كان الولد أو البنت مريضا . تظاهرت بأنني لم أستيقظ حتى استمتع بهذا الطقس وسمعتها تقول : الله الله يا ولدي تركتني وشعرك أصفر وعدت لي بشعرأبيض ، فضحكت ونهضت لأجد الجميع واقفا يراقب المشهد وبعضهم يبكون ، وجلسنا نتناول الفطور. كانت أمي قد توقفت عن ممارسة الطهي منذ زمن ، ولكنها إعتادت عند الجلوس إلى المائدة أن تضع الخبز أمامها وتقوم هي بتوزيع الخبز على الآكلين . ذلك أنه من تقاليد ذوي الأصول القروية أن الخبز هو الأكل ، ومن كان عنده الخبز كان عنده كل الخير ، ويحرص أرباب الأسر على توفير مؤونة القمح في موسم الحصاد ليأمنوا غدر الأيام ، أما ماذا سيأكلون بهذا الخبز فالأمر لا يتوقفون عنده كثيرا .
قبل أن تمتد يدي إلى الطعام طلبت مني أمي أن أريها يدي اليسرى وسألتني بعتاب : لماذا لا تلبس خاتم الزواج ؟ فأجبتها بأن أصابعي أصبحت أغلظ من الخاتم فنزعته واحتفظت به في البيت . ثم أخرجت صرّة من جيب فستانها وأخرجت منها خاتما فضيّا ووضعته في خنصر يدي قائلة هذا خاتم أبيك إحتفظت به لك بعد وفاته ، وهو نصيبك من تركته إضافة إلى عقاله وقمبازه ? القمباز هو لباس يشبه الجلباب إلى حد ما ولكنه مفتوح من الأمام وليس له غطاء رأس , يلبسه أبناء القرى وحتى بعض أبناء الحارات القديمة في المدن .
ولهذا الخاتم حكاية طريفة ففي عام 1986 قرروالدي أن يؤدي فريضة الحج مع والدتي، وبما أن جوازات السفر التي يستعملها أبناء الضفة الغربية عند سفرهم للخارج يتحصّلون عليها من الأردن باعتبار أنهم عند الإحتلال الصهيوني عام 1967 كانوا يحملون الجنسية الأردنية ، فقد سافر مع والدتي إلى الأردن قبل الموسم بشهرين وتقدم بطلب الحصول على جواز السفر ، وكان المعتاد أن تكون الزوجة مسجلة في جواز سفر زوجها وصورتها موضوعة على صفحة خاصة بها تتضمن معلوماتها الشخصية . تطلّب الأمر أن يكون من ضمن وثائق جواز السفر عقد زواج ، ولم ينفع إعتذارأبي بأنه وزوجته تجاوزا الستين من عمرهما وأن عقد زواجهما قد ضاع مع ضياع فلسطين . فاضطرا إلى الذهاب للمحكمة الشرعية في عمان حيث عقد القاضي الشرعي زواجهما من جديد ، وكان الشهود أصغر من أبنائهما ، وأمهرها خمسة دنانير أردنية وتبادل وإياها خاتمين فضيين . والمحزن في قصة هذا الخاتم أن المخابرات الأردنية التي كانت تتحكّم في منح جوازات السفر لم توافق على طلب أبي إلا بعد إنقضاء موسم الحج مما حرمه من أداء الفريضة إذ توفي في نفس ذلك العام .
وقد دفعني ذلك إلى السؤال عما تركه أبي من صور ، وقد انزعجت للغاية عندما قالوا لي بأنه لا يوجد لك عندنا أية صورة غير تلك التي أحضرتها شقيقتي غربية وشقيقي فؤاد وابن عمي منصور عندما رجعوا من المغرب إلى فلسطين . ذلك أن قوات الإحتلال الصهيوني في الأيام الأولى للإحتلال عام 1967 كانت تطارد كل من له صلة بمنظمة التحرير الفلسطينية ، وبما أن والدي كان عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني ممثلا لمخيمات اللاجئين في منطقة نابلس ( وظل كذلك إلى أن توفاه الله ) فقد اختفى عن الأنظار فترة في شرق الأردن ثم في داخل الضفة الغربية ، إلى أن هدأت الأمور نسبيا وعاد للظهور . في هذه الفترة كان متوقعا مداهمة بيتنا في كل لحظة ، فعمدت والدتي إلى إتلاف كل الصور الخاصة بأبي في إجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني في القدس او الإسكندرية أو القاهرة ، وكذلك صوري باللباس العسكري وحتى التي بملابس الكشفية الشبيهة بلباس العسكر .
ونحن على الفطور أخذت أمي تسألني هل كنت تأكل كذا وكذا من الأطعمة التي كانت تعدها لنا ، وكنت أجيبها بلا وبنعم إلى أن سألتني ماذا تشتهي أن تتغدّى اليوم ؟ فقلت لها على الفور ( مجدّرة ) وهي أكلة فلسطينية خالصة كان الفقراء في فلسطين يعدّونها من العدس والبرغل الذي هو قمح مسلوق ومجفف ومطحون بالرحى المنزلي التي نسميها ( الجاروشة ) مع كثير من البصل الذي كان يقلى حتى يصبح لونه بنيا . ورغم أن هناك أكلات شبيهة بها في بعض الأقطار العربية تستبدل البرغل بالأرز ، إلا أنني لم آكلها على الطريقة الفلسطينية منذ مغادرتي بيتنا في مخيم الفارعة إلا مرة واحدة عند عائلة فلسطينية في مخيم بعلبك في لبنان . وقد تفاجأت يومها من هذه العائلة التي زرتها بالصدفة أنهم تعرّفوا علي وعرفوا إسم أمي وإسم أبي واسم جدي وجدتي لأمي لمجرد أن رأوني ، ذلك أنهم كانوا يسكنون بجوارنا في حوّاسة بحيفا .
لمجرد أن قلت مجدّرة انتفض أخي الأصغر عاصم صائحا باحتجاج : الله يلعن أبو المجدّرة ، يا أخي أطلب أكلة فاخرة لنأكلها معك . فضحك الجميع وقالت أختي الكبرى وطفة التي كانت بمثابة الأم لإخوتي الصغار .. هذا مش شغلكم ، والمطلوب منكم فقط أن تجوعوا إستعدادا لأكل ما سنطبخ لكم .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.