ضمن سلسلة "شعريات فلسطينية"، صدرت مؤخرًا مجموعة شعرية جديدة للشاعرة والكاتبة الفلسطينية هيام مصطفى قبلان بعنوان: "لا أَرى غيرَ ظلّي" عن "بيت الشعر الفلسطيني" في رام الله. وقعت المجموعة في (94) صفحة من القطع المتوسط الجديد، واحتوت على (31) نصًّا شعريًّا، إضافة إلى حوار طويل ورد في بداية المجموعة أجرته معها الشاعرة والكاتبة آمال عواد رضوان، تحدثت فيه عن رحلتها الشخصية والعائلية والأدبية المليئة بالأحداث والمواقف؛ عن نفسها كإنسانة وشاعرة وكاتبة وناقدة، عن الشام حيث موطن أبيها، عن أُمهّا، عن لبنان، ونقتطف هنا ردّها على سؤال محاورتها حول: كيفَ تتجلّى الشام، السّجّان، لبنان، والزّمن؛ من حيث إنها إحداثيّاتٌ تُشكّلُ محصّلاتٍ عدةً في شِعرِها وحياتها؟ "الشّام: لها في قلبي مكانٌ.. وطنُ الجدودِ.. وطنُ أبي الرّاحلِ الّذي توارى تحتَ التّرابِ، ولم يقابلْ عائلتَهُ بعدَ أن فرّقَهُمُ الزّمنُ. الشام هي العِزّةُ، والكرامةُ.. أشمُّ رائحةَ أرضِهِ الطّيّبةِ، وأفتّشُ في السّهولِ والجبالِ عن أقحوانةٍ ليلكيّةِ العينيْنِ، تتمايلُ على كتفِ قصيدةٍ من شعرِ نزار قبّاني، فيطيرُ الفؤادُ معلِنًا الرّحيلَ والسّفرَ. هو تاريخُ أبي ورحيلُهُ عنِ الوطنِ.. وللرّحيلِ قصّةٌ. غادرَ أبي سوريا مُتّجِهًا مع فرقةٍ مِنَ الجنودِ السّوريّينَ للدّفاعِ عنِ الأراضي المغتصبةِ على أيدي اليهودِ وعن الشّعبِ الّذي لاقى العذابَ والتّهجيرَ عنْ أرضِ فلسطين، وذلكَ قبلَ سنة (1948)، وهنا اشتركَ في معركةٍ ضدَّ الجيشِ الإسرائيليِّ، سُمِّيتْ بِمعركةِ (رمات يوحانان)، وقُتل فيها في وقتِهِ أخو(موشيه ديّان)، والعديدُ منَ الجنودِ مِن الطّرفينِ. أُلقيَ القبضُ على أبي، ورَفعتْ فرقتُهُ الرّايةَ البيضاءَ مِن أجلِ السّلامِ والحوارِ. بعدَ فترةٍ قصيرةٍ غادرَ أبي أرضَ فلسطين عائدًا إلى وطنِهِ ومسقطِ رأسِهِ سوريا، وفي طرقاتِهِ الوعرةِ علمَ منَ أحدِ الجنودِ السّوريّينَ أنّهُ محظورٌ عليهِ العودةَ، لأنّهُ تحاورَ مع قياديّينَ يهودٍ. أبي الّذي دافعَ عن سوريا بِجسدِهِ وروحِهِ، لَمْ يعُدْ مأواهُ غيرَ البراري والجبال. أثناءَ تشرُّدِهِ، وصلَ إلى نَهرِ الحاصباني في لبنان، بالقربِ مِن محافظةِ حاصبيّا، والتجأَ إلى أهلِها الّذينَ حمَوْهُ لمدّةٍ طويلةٍ. هناك تعرّفَ إلى أمّي؛ فتاةٌ في مقتبلِ العمرِ، جميلةٌ، بريئةٌ، خجولةٌ، مطيعةٌ، خفقَ قلبُهُ لأوّلِ مرّةٍ وهو الشّابُّ العازبُ المُغامرُ. بادلتْهُ الحبَّ وعُقدَ قرانُهُما في لبنان. لكن الوضعَ أصبحَ خطيرًا.. ماذا يفعلُ؟ قرّرَ الهربَ والعودةَ إلى فلسطينَ ثانيةً ليعيشَ فيها مؤقّتًا، ومِنْ ثمَّ يلجأُ إلى بلدٍ عربيٍّ آخرَ، لكن مساعيَهُ باءتْ بالفشلِ وبقيَ هنا، بعيدًا عن عائلتِهِ لمدّةٍ خمسينَ عامًا. رحلَ أبي قبلَ فترةٍ وجيزةٍ دونَ كلمةِ وداعٍ، ودونَ أن يحتضنَ وجهَ أختِهِ الباكي عليهِ، ودونَ معانقةِ إخوتِهِ الّذينَ انتظروهُ بفارغِ الصّبرِ.. تدثّرَ والدي بثوبِهِ الأبيضَ الفضفاضِ.. أغمضَ عينيْهِ وبينَ شفتيْهِ: "سلامٌ للشام الوطنِ". غربةُ أبي، الوحدةُ، السّفرُ، التشرُّدُ، الظّلمُ، خيبةُ الأملِ، الشّوقُ والحنينُ في عينَيْهِ.. انتظارُهُ الطّويلُ في هضبةِ الجولانِ في منطقةِ (تلِّ الصّراخِ)، منتظرًا أهلَهُ ولَم ينتظرْهُ أحدٌ حتّى بحَّ صوتُهُ، والتحفَ بالصّمتِ إلى يومِ وداعِهِ الأخيرِ ورحيلِهِ، ولأنّنا نؤمنُ أنّهُ سوفَ يولدُ مِن جديدٍ، نُصلّي بأنْ يرى في جيلِهِ القادمِ مَن بقيَ مِن عائلتِهِ، وربّما بولادةِ الطّفلِ الصّغيرِ تعودُ الضّحكةُ إلى بيتِهِم القديمِ مرتعِ طفولتِهِ وزمرّدِ شآمِهِ. مِنَ الطّبيعيِّ أن تخلقَ الظّروفُ منهُ رجلاً عصاميًّا وحُرًّا، وقد ورثْتُ عن أبي الكثيرَ مِن خصالِهِ، مع أنّني ألومُهُ لتَرْكِهِ وطنَهُ، ما أدّى إلى عدمِ رؤيَتِنا أحبابِنا، ولَم نعرفْهُمْ أبدًا. كلُّ هذا التّاريخِ أثّرَ على كتاباتي المليئةِ بالعتبِ، والشّوقِ، والرّحيلِ، والغربةِ، والسّفرِ. السّجّانُ بالمعنى المجازي: هوَ الشّخصُ المتغطرسُ الظّالِمُ الّذي لا يَحملُ بقلبِهِ رحمةً. السّجّانُ هوَ الوجهُ المعتمُ الّذي تعيشُهُ المرأةُ، وتلتزمُ الصّمتَ حينَ تَهوي الهراوةُ بقسوةٍ على جسدِها، فتكتُمُ الألَمَ خوفًا منهُ ومنَ الفضيحةِ. السّجّانُ بالمعنى العاديِّ هوَ: القانونُ الّذي لا يعترفُ بالعطفِ والشّفقةِ، بل يُحسُّ بالقوّةِ والحرّيّةِ إزاءَ مُنافسِهِ الرّاقدِ وراءَ القضبانِ، إنّهُ يُمثّلُ الظّلمَ والحصارَ. لبنان: الغربةُ والرّحيلُ والسّفرُ أراهم في عينيّ أمّي الّتي هجَرتْ وطنَها الأمَّ لبنانَ، وتركتْ قطعةً مِن السّماءِ هطلتْ على الأرضِ لتعيدَ للحدائقِ ألوانَها. أمّي والغربةُ وليالي الفراقِ والسّهرِ، هي الّتي يُخيّمُ عليها السّكونُ، وتَجتاحُها نوبةٌ من البكاءِ لفراقِ الأحبّةِ. لبنانُ الأرزُ، لبنانُ الصّمودُ والنّزْفُ، والنّفوسُ الّتي ضاقتْ بِهم الأرضُ فرحلوا، وهوتْ نجمةُ الصّبحِ صريعةَ الدّمارِ والحروباتِ. لبنانُ هو البحرُ الّذي رسَمَهُ محمودُ درويش في قصائدِهِ، وهو بيروتُ العروسُ الّتي تغنّى بجمالِها الشّعراءُ.. بيروتُ المقاهي، وفناجينُ القهوةِ الّتي كانتْ تنتظرُ في عتبٍ، ورائحتُها المختلطةُ برائحةِ الجثثِ في الجنوبِ وفي الشّوفِ تَخترقُ فوّهةَ الغضبِ. مِنَ الجنوبِ اللّبنانيِّ أتتْ أمّي؛ الفتاةُ اليافعةُ الّتي لَمْ تَدْرِ ما ينتظرُها في هذهِ البلادِ الغريبةِ، عانتِ من الويلاتِ والغربةِ والحدودِ الفاصلةِ، وَعاركتِ الحياةَ مع أبي بِحلوِها ومُرِّها، ولَمْ تَعُدْ سِرًّا حكايتُها مع أبي؛ الحبُّ العارمُ الّذي مِنْ أجلِهِ تركَتْ أهلَها ولحقَتْهُ. لأمّي حكاياتٌ عن الخوفِ، والصّبرِ، والعشقِ، ومحاولةِ إنكارِ الذّاتِ، وكذلكَ الحرمان، والشّوقِ، والانتماءِ إلى الوطن لبنان. في عدوان (إسرائيل) على لبنان (1981-1982) كانتْ أمّي تَجهشُ بالبكاءِ، وهي تُشاهدُ دمارَ لبنانَ، ويُشعلُ جسدَها نارُ الخوفِ على أهلِها وعلى عائلتِها. في سنة (1982) تسنّى لأمّي زيارةَ أهلِها وبيتِهم القديمِ.. رافقْتُها إلى لبنانَ الّذي تركَ بي أثَرًا كبيرًا، وعدتُ ورائحةُ القهوةِ المسكوبةِ على طاولاتِ المقاهي تتعثّرُ بين شفتيّ، والعماراتُ المهدّمةُ والأُخَرُ الآيلةُ للسّقوطِ، ودماءُ القتلى على الشّوارعِ والطّرقِ التّرابيّةِ، والجوُّ الكئيبُ، ومع كلِّ هذا بقيَ الأرزُ صامدًا في وجهِ العواصفِ العاتيةِ، ليُخلّدَ ذِكْرَ لبنان الأبيِّ الزّاهرِ اليومَ بعمرانِهِ، والأطفالُ الّذينَ رقدوا تحتَ الرّكامِ، والزّعاماتُ النّائمةُ في سباتٍ عميقٍ بصمتٍ عمّا جرى وما يَجري اليومَ. الزّمان: الإنسانُ يتغيّرُ، يكبرُ، يسافرُ، يَجترحُ الرّحيلَ ويغادرُ، والزّمنُ يبقى في مكانِهِ يودّعُ الرّاحلينَ ويستقبلُ وجوهًا جديدةً، والأوراقُ يتبدّلُ لونُها، وتينتُنا العاريةُ تَخلعُ حزنَ الكلماتِ، والفقراءُ يفتّشونَ عن لقمةِ العيشِ، وأنا أفتّشُ عن ذاكرةٍ أدفنُ فيها حُلمي. الزّمنُ حاكمُ عصرِهِ يأمرُ وينهي.. يلبسُ ثيابَ العافيةِ ليستريحَ، لا يَحملُ على جبينِهِ علاماتِ الموتِ أو الفرحِ.. يُبقينا في دوّامةٍ من ضبابٍ.. نُلمْلمُ ما تبقّى مِن شظايا الزّحامِ". يُذكر أن الشاعرة من مواليد قرية عسفيا في جبل الكرمل سنة (1956). حاصلة على بكالوريوس في موضوع التّاريخ في جامعة حيفا، وموضوع التّربية العامّة والخاصّة في اللّغة العربيّة وآدابِها في الكلّيّة العربيّة حيفا. عملت لمدّة سبع سنوات في صحيفة الصّنّارة في النّاصرة، من خلال زاوية أدبيّة أسبوعيّة بعنوان "على أجنحة الفراش"، كما عملت مذيعةً ومُعِدّةً للبرنامج الأدبيّ في "راديو المحبّة". عضو في جمعيّة "منارة"، وعضو في اتّحاد الكتّاب العرب، وعضو في المنتدى الثّقافيّ الأدبيّ. تعمل مركّزة لموضوع الكتابة الإبداعيّة في الكرمل، وصدرت لها الأعمال الشّعريّة التالية: آمالٌ على الدّروب (1975). همساتٌ صارخةٌ (1981). وجوهٌ وسفرٌ (1992). انزعْ قيدَكَ واتبَعْني (2002). كذلك الأعمال الأخرى: بينَ أصابعِ البحرِ/ نصوصٌ أدبيّة وفلسفيّة (1996). طفلٌ خارجٌ من معطفهِ/ قصصٌ قصيرة (1998).