أما بيريزاد شعبان برواري، فقد تعرفت عليها في أحد الليالي في مطعم الفندق. كنت جالسة رفقة امرأة أخرى نتناول وجبة من الوجبات، عندما اقتربت مني وأهدتني آخر ديوان شعري لها موسوم ب»أنا وأيلول» وأيلول (شتمبر) هو الشهر الذي أعدم فيه والدها. كانت بيريزاد شعبان قد قرأت بعض القصائد من هذا الديوان في افتتاح المؤتمر. وكنت قد رأيتها من بعيد، فهالني جمالها الأخاذ، الذي يجمع بين الجمال الكردي والجمال العربي، بثوبها الطويل المحتشم الذي يبرز جسدها الممشوق، وشعرها الطويل المنسدل على كتفيها. كانت فاتنة الجمال. وكانت قد قرأت إهداء لوالدها الشهيد شعبان محمد برواري الذي أعدم في زنزانة بالموصل سنة 1977 على أيدي نظام البعث، فقط لأنه ناضل من أجل هويته الكردية، قائلة: «إلى أبي الذي خجلت منه خشبة الإعدام». وتضيف الشابة الكردية بيريزاد التي توجد في العقد الثالث من عمرها، والتي تشغل منصب برلمانية في العراق، في مقدمة كتابها: «لماذا أكتب؟ أنا أكتب لأني مومنة بالله وكوردستان...أكتب لأن عيني فقدتا الابتسامة ... وأنا في زنزانة الطاغية أرى حبيبي الأول والاخير (أبي) يؤخذ للمنشنقة. أكتب لأني ما زلت تلك الطفلة ذات الأعوام السبعة التي تنتظر عودة والدها عصرا ليجلب لها (الحامض حلو) الذي تحبه، والذي فقد مذاقه منذ رحيله واستشهاده. أكتب لأني انتظر قدوم الربيع كل عام لأقطف نرجسه، لا لأتزين به بل لعلي بعد ثلاثة وثلاثين عاما من الانتظار أحظى بقبر يضم رفات والدي، فأضع النرجس على قبره وأقول له...أحبك. أكتب لأني صبرت على كل المواجع، ورأيت أحلامي مصلوبة في وضح النهار، ولم يكن الصبر من شيمي لكني تعلمته مثل بقية إخوتي من أمي العظيمة. أكتب لأن اكتمالي لم يكتمل بعد... فأنا لم أعش بعد تحت سماء الدولة الكردية. أكتب لأن قلبي بأجزائه الأربعة ما زال يئن تحت سياط الطغاة. أكتب لأني تلك الكردية المؤنفلة، وحفيدة صلاح الدين الأيوبي، لأني عروسة حلبجة وبارزان وباهدينان وسوران ... لأني قامشلو ومهاباد وآمد ودهوك، ولأني أستمد قوتي دائما من قلعة الصبر... (هولير). أكتب للإنسانية جمعاء... للسلام ... للطفل... للمرأة ... للشيخ ... وللشهيد. للذي يسعى دوما أن يغير الحياة اتجاه الأحسن. أكتب لأني أعلم أن غدا ستشرق الشمس.» كما يتبين من هذا النص، فبيريزاد برواري (ويكتب بالكردي: به ريزاد به رواري)، كردية أبا عن جد، كما أنها متشبثة بهويتها الكردية، وتواصل النضال الذي بدأه والدها، بمختلف التاكتيكات، من أجل تحقيق كردستان الكبرى. كما أنها لا تجد حتى رفات والدها من أجل زيارة قبره ووضع بعض الأزهار عليه. إنها تجسد جزءا من مأساة شعب برمته، ما زال يرزح تحت وطأة الطغاة كما سمتهم هي نفسها. أما راهبة، فهي امرأة مناضلة نسائية عراقية تعيش في هولاندا. تعرفت عليها في المؤتمر. فبدت لي لطيفة تتوفر على معرفة واسعة بتاريخ العراق الحديث ووضع النساء فيه. كما أنها تعرف الكثير عن تاريخ الكرد، خاصة نسائه. وقد حدثتني أكثر من مرة عن بعض النساء اللواتي رأينا صورهن معلقة في جدران أحد الفنادق. فتسترسل في الحكاية بحماس كبير وكأنها تستمد فخرها من هؤلاء النساء اللواتي يؤكدن بنضالهن أو تزعمهن لبعض الحركات أو قيادتهن لبعض المحافظات الكردية، أنهن عندما تؤمن بهن، ومن خلالهن بالنساء جميعا، فإنها تؤمن بالورقة الرابحة في اللعبة السياسية عموما. هاشم نعمة فياض، تعرفت عليه في الفندق، وبالضبط في قاعة الأكل. عراقي وسيم جدا، وشديد التهذيب، مقيم في هولاندا. علمت فيما بعد أنه متزوج من مغربية، وأنه وزوجته كاتبان. نشر عدة كتب منها دراسة باللغة العربية حول «هجرة العمالة من المغرب العربي إلى أوروبا: هولاندا نموذجا، دراسة تحليلية». وأهداني بعض كتبه، وكذا كتاب لزوجته نجاة تميم باللغة الفرنسية حول «هويات في صراع، الشخصية النسائية لدى الطاهر بنجلون». ترك لدي انطباعا إيجابيا جدا. واتفقنا أن نعمق معرفتنا أكثر عندما يحل بالمغرب في أحد الأيام القادمة. هناك أيضا الباحث والمخرج المسرحي عميد كلية الفنون الجميلة بالبصرة عبد الكريم عبود عودة، بمجرد أن علم برغبتي في زيارة العراق، وعلم بخارطة الطريق التي وضعها لي الصديق واصف منصور، حتى شجعني على ذلك. وقال إنه يمكنه أن يتدبر أمر بطاقة الطائرة التي ستقلني إلى البصرة، لأشارك في مهرجان المربد. تحمست للفكرة، وبدأت أستعد لذلك بعد أن اتصل هو ببعض الأشخاص في المربد وأعطاهم إسمي. بدأت أرتب أمري لزيارة العراق، رغم أن أغلب من عرفوا ذلك، لم يشجعوني عليه، معتبرين أن كردستان تعد جنة بالمقارنة مع جحيم العقليات ومظاهر الخراب الموجودة في العراق. انتهوا بإثباط عزيمتي، فبقيت في كردستان، التي لم يكن لدي وقت كاف لزيارتها كاملة. كان شخصا لطيفا جدا، ومكونا. ليلة عودته إلى البصرة، سهرنا في غرفته أنا وشامة وسندس وباسم، ندردش ونغني ونمرح ونحكي النكات حتى وقت متأخر من الليل، قبل أن نودعه ونذهب إلى غرفنا للنوم.