عليَّ في البداية أن أبوحَ لكم بترددي في أن أتكلم باللغة الفُصحى تحت أنظارِ الأستاذ محمد عنيبة الحمري، شاعرُ الجاهلية المعاصر، (أليسَ كذلك يا بوجمعة؟) والشاعر الجاهلي المعاصر هو الشخصية التاريخية المفترَضَة الأكثر جاذبية عند الأستاذ محمد عنيبة. ولا أخفيكم كذلك أنّ ذاكرتي تلعبُ لي أدواراً دائما، وها هي الآن تُخْجِلني إذْ لستُ أذكرُ متى تعرفتُ على عنيبة الحمري. وكأنه حَفَرَ ثُقْباً في ذاكرتي وتسّرّبَ منْه أو خرج. ذاتُ الانطباعِ لديَّ حين أراهُ، لا أعرفُ متى ظهَرَ ولا كيف اختفَى ، مثل فيرناندو بيسوا، يختَلِسُه الرصيف وتبْتلعُهُ العتمات. يختفي عنيبة بين نخيل أشعاره. يُطارِده وقتٌ له متسع من الوقت. تطارده مواعيد لا ميقاتَ لها. يَسْتَعْجِلُه مقطعُ شعرٍ حَفِظَهُ قبْل أن يَكتبَهُ في ذهنه. يُضْرِمُ نارَ أحزانه الدفينة على شعرهِ المذبوحِ المبحوحِ المُغْمَدِ في أحشائِه. ويُعْلِنُ بَهْجَتَه المُدَوِّية على الوجوهِ الحزينة. هازِئاً لا شيء يثنيه عن المَرَح. ما مِنْ مُبْتَسِمٍ إلا مُحِبًّا أو محبوباً. إذْ ليس بوسع قلبٍ كارهٍ إلا أن يكون مُتَجَهِّماً لأن الحِقْدَ حجابُ الفرح. وما من ابتسامة إلا وهي لغة كونية للطيبوبة. فالقلوب المحبوبة قلوبٌ مبتسِمة، وهي علامةُ الامتلاء كما أن الخبث دليل على فراغ الروح. ولعلّ أخطرَ ما في التوزيع اللامتكافئ بين الناس والذي لا نستطيع أمامه شيئا هو: الطيبوبة. الطيبوبة في القول تَوّلِّد الإحساس بالأمان، والطيبوبة في المَعْشَرِ تعطي الإحساس بالعُمق، وفي العطاء تقود إلى الحُبّ، إلا أن الطيبوبة في الكتابة مكابدة، تقود صاحبَها إلى كهفٍ للمحنِ لأنها مقامُ الصِّدق. ولكن هيهات.. فما ابتسامةُ عنيبة الحمري وبهْجَتُه وخِفَّةُ روحه المورقةِ سوى الشّجرةُ التي تُخفي الغابة. غابةٌ يَسْكُنها شخصٌ آخرَ ماردٌ، كَدِرٌ، متقلبٌ في خُلوةٍ يقارعُ الأهْوال. أيّهذا الشخص الآخرَ الكَدِرُ، المكتئبُ، العارمُ، الحزينُ الذي لا علاقةَ لهُ بِكَ، العالقُ بهِ كالمسمارِ، يا خاطفَ ظِلِه، هل قلتَ لصاحبي: أَعْصِرُ من ألمي خمرَ كلّ السنين وأهرب مني إليك يطاردني الوقت ألمْ تقلْ له: اكتفيتُ بشربِ السرابِ كلّما لامني صاحبي تِهْتُ في عَبثي علني أنتشي بالتعبِ يا أسيرَ الظنونِ مقامُكَ بين الكواكبِ لا يستقيم بغير الشُّهبِ ألمْ تقلْ لصاحبي: حين تسبح في جسدي حُرَقِي أتفيأ ظلَّ الكآبة حِبْراً يفيض على ورَقِي وأسيح كأي مسيح تكلله ومضة قد تكون نهايتها في عَشاه ترتدي حُرقة الذوبان على شَفَقِ أيهذا الشخص الآخر الكَدِرُ، المكتئبُ، العارمُ، الحزينُ الذي لا علاقةَ لهُ بِكَ، العالقُ بهِ كالمسمار، توَضّحْ.. توضّحْ، يا خاطفَ ظلِه فأيُّ نصٍّ أنتَ، أيُّ قلقٍ أنتَ، أيُّ لاطمأنينةٍ أنتَ، لمنْ تشبهُ أنتَ...؟ رأفةً يا شيطانَه الشّعري... فإنْ كنتَ مِمّا يُفْنيهِ فهو عليك ، وإنْ كانَ مِمّا يُبْقيهِ فهو لك. أخي عنيبة، اعلم أن مقدار كلِّ امرئٍ حديثُ قلْبِهِ، فلا تَمُدَّنَّ عيْنَيْكَ لِغيرِ قلْبِكَ. وإنْ كُنْتَ طالباً لطريقِ السِّرِّ فلا تَقِفَنَّ في ومعَ مألوفٍ بل «ارجع وَراكَ ففيكَ السِرُّ والسّكَنُ» . أخي عنيبة، لكَ كثيرٌ ما يَكْفي مِن الماضي وما لا يكْفي. لا أشياءَ تمْلِكُها لتَمْلِكَكْ، أنتَ لسْتَ لكَ. أنتَ لللاّطُمأنينة أنتَ لنا. شاعراً حقاً وصديقاً رقيقاً، ودوداً، بهيجاً، بهيّا. وكل عامٍ و أنتَ محبوبٌ بيْنَنا. ولكُمْ جميعاً أتمنى سنةً مليئةً بالحبِّ وبِما تشْتهون. الدارالبيضاء 30 دجنبر 2011