كلمة لا بد منها لقد اعتمدنا في هذا العرض البسيط، على الترجمة من ناحية، و على حرية التصرف من جهة أخرى. و لمعرفتنا باللغتين: الإسبانية و الفرنسية،كثيرا ما عدنا في الترجمة، إلى تحقيق النص المترجم، بإعادته إلى أصله الإسباني، كيما نرفع كل التباس، يحول بيننا و تأدية المعنى الصحيح. البطاقة الشخصية للشاعر "فدريكو كارسيا لوركا"، كاتب و شاعر إسباني، ولدفي 19 أغسطس سنة 1898 في "فوينتي فكروس" و هي قرية تقع في الأندلس، على مقربة من غرناطة. و لقد تعاطى و هو بعد شابا، إلى الشعر و الموسيقى و المسرح و الرسم. و كان أصدقاؤه في تلك الفترة من خيرة ما أنتجت الأرض الإسبانية من أمثال "سلفادور دالي"، "رفائيل ألبرتي"، "بيدرو .دِ. ساليناس" و "رفائيل د فايا". و لقد شهدت مؤلفاته، الشعرية و المسرحية، صدى و نجاحا كبيرا في الأوساط الشعبية و الثقافية. و حين اندلعت الحرب الإسبانية، في تموز "يوليو" 1936 فاجأته و هو في مدينة غرناطة، كما هي عادته خلال أيام الصيف. و مشكوك في تعاطفه مع الحرس الجمهوري، أوقف "لوركا" من قبل مليشيات الجنرال "فرانكو" الفاشية. و في 19 غشت، قيد الشاعر إلى مكان يدعى "فزنار"، حيث أعدم رميا بالرصاص.
لوحة تمثل إعدام لوركا ما هي الشاعرية؟ يتساءل "لوركا" عن الشعر – من مقدمة ديوانه : قصائد أولى- قائلا:" ماذا بإمكاني أن أقول عن الشعر؟"، يتساءل عن الغيوم و عن السماء، و يجيب نفسه قائلا:" رؤيتها، رؤيتها .. و لا شيء آخر." و يتابع تعليقه قائلا، بأن مهمة التساؤل يجب أن تترك للنقاد و الأساتذة. و بأنه، لا أنت، ولا أنا -يقصد نفسه- و لا أي شاعر يدري ما هو الشعر. الشعر إن أحببت، هو عند لوركا، نظر و نار بين يديه. و يصرح بأنه يفهم كلام الشعر بطلاقة، من حيث أنه يشتغل معه. و لكنه من جهة أخرى، ليس في استطاعته أن يتحدث عنه بدون استدعاء لروح الأدب. إنه يفهم كل الأنفاس الشاعرية، و لكن ليس في استطاعته أن يتحدث عنها، بدون أن يغير آراءه حولها في كل خمسة دقائق. و كل هذا لا يمنعه أن يقع في حب الشعر الرديء، كما هي حاله الآن مع الموسيقى الرديئة، التي بات يعشقها. و لسوف يضرم النار، كما قال، ذات يوم في "البانتيون - مجمع الآلهة لدى القدماء "، من أجل أن يعيد في اليوم التالي تشييده، بدون أية رغبة في إتمامه. و يعترف بأنه قد حصل له في محاضراته التي كان يلقيها، أن يتكلم عن الشعر و فضاءاته، و لكن الشعر الوحيد الذي لم يكن في استطاعته الحديث عنه، شعره هو. و يصرح، بأنه واع كل الوعي، بما يقوم به من عمل شعري. و هو لا يدري بالضبط، إن كانت منحة الشاعرية، هي من عطاء الآلهة أو الشياطين، إلا أن جانب العمل التقني و المجهودات الجبارة بالإضافة لكل هذا، تظل شرطا أساسيا في تحقيق القصيدة.
القصائد الشعرية المختارة
دوارة الريح دَوّارَةُ هَواء ريحُ الجَنوب ! كَم أَنْتِ مُتَوَحّشَة و مُحْرِقَة، حينَ تَنْفُثينَ على جِلدي، بَذارَ لَمَعانِ النّظَر، و شذى أَشجار البُرْتقال. إِنّكِ تُخْجِلينَ القَمَر، و تُبْكيها أَشجارَ الحَوْر الحَزينَة، غَيرَ أَنّكِ، تَأْتينَ بَعد فَواتِ الأَوان، بَعدما أكون قد لَفَفْتُ لَيلَ رِوايتي، على رُفِّ السَّهَر ! و بِدونِ أَدْنى مَشَقّة، بإِمِكانِكِ أَن تُصَدِّقيني، دُرْ يا قَلبي، دُرْ يا قَلبي. ريحُ الشّمال دُبٌّ أٌبْيَض ! إِنّكِ تَنْفُخينَ على جِلدي، المُقْشَعّر بالشَّفَقِ القُطْبي، و بِتَبَعَتَكِ مِن الأَشْباحِ الرُّبّانِيَة، الضّاحِكَة مِلْئَ فيها، مِن "دانْتي"، أَيُّهذا المُشَذّبِ لِلنُّجوم. و لَكِنّكِ تَأْتينَ بَعدَ فَواتِ الأَوان، فالدّولاب قَد تَسَوّس، و أنا قد أَضَعْتُ المِفْتاح. و بِدونِ أَدنى مَشَقّة بإِمْكانِكِ أَن تُصَدّقيني، دُرْ يا قَلبي، دُرْ يا قَلبي. هَواءٌ بَحْرِيّ، عَفاريت و زَوابِع، قادِمَة مِن اللاّ مَكان، حَشَراتُ الوُرود، تُوَيْجات هَرَمِيّة. و رِياحٌ تَكْبُرُ مُخْضَرّة، بَيْنَ الأَشْجارِ القاسِيَة، ناياتٌ في العَواصِف. أُتْرُكوني ! سَلاسِلٌ ثَقيلَة، تَسيرُ وَراءَ ذِكْرَياتي، و الطّائِرُ السَّجين، الذي كان يَرْسُمُ المَساء، بِزَقْزَقاتِه. فالأَشْياءُ التي تَمْضي لا تَعود، كُلُّنا نَعْرِفُ هذا. و في وُضوحِ جُمْهورِ الرِّياح، فلا جدوى من التَّشَكّي، أَلَيْسَ كَذلِك أَيُّها الحَوْر، السَّيِّد النّعيم لِلنّسيم؟ لا جَدوى مِن التّشَكّي ! و بِدونِ أَدْنى مَشَقَّة، بإِمْكانِكِ أَن تُصَدّقيني، دُرْ يا قَلبي، دُرْ يا قَلبي. لوحة تمثل المرأة الزانية المَرْأَةُ الزّانِيَة أَخَذْتُها بِقُرْبِ الوادي، و أَنا أَحْسَبُها بِلا زَوْج، بَيْنَما كانَتْ زانِيَة. و كان ذَلِك لَيْلَة "القدّيس جاك"، عَبْرَ مَواعيدَ و اتِّفاق مُبَيَّت، حين اِنْطَفأَت المَصابيح، و أوقِدَ الصُّياح .. الصُّياح. في آخِرِ رُكْنٍ لِغُرْفَة الفَضيحَة، كُنْتُ أَلْمَسُ نَهْدَيْها النّائِمَيْن، حينَ اِنْفَتَح لي صَدْرُها، مِثْلَ بَراعيمَ ياقوتِيّة. و في أُذُني عِطْر نَشاء، مِنْ شَذى جُبّتِها النَّشَئِيّة، يُصَرْصِرُ مِثْلَ حَرير مُمَزّق، بِعَشَرَةِ خَناجِرَ مُتَواطِئَة. و ذُرى الأَشْجار بِلا ضِياء، تَكْبُرُ على جَوانِب الطُّرُقات، و أُفُقٌ هائِلٌ مِن الكِلاب، تَنْبَحُ بَعيدَةً مِن النّهْر. حينَ تَجاوَزْنا العُلّيق، و الأشْواك و الجَوْلَق، نَفَذَت مِن تَحْتِها، عَقيصَةُ جَديلَتِها، و أَحْدَثَت ثَقبا في طَمْيِها. و حينَ نَزَعَتْ مِنّي رَبْطَتي، و خَلَعَتْ عَنها جُبّتَها، نَزَعْتُ بِدَوْري حِزامي، فَوَقَعَت أَرْبَع صِداراتٍ دُفْعَةً واحِدَة. فلا الحَلَزون و لا النّارْدين، لهُما بَشَرة أَشَدّ نُعومَة. و لا تَحْتَ القَمَر كان لِلْبِلّوْر، شُعاعٌ أَكْثَرَ لَأْلَأَةً و بَهاء. و كانَت فَخِذاها تَفِرُّ مِن تَحتي، مِثْلَ سَلْمون مَذْعور، نِصْفٌ كُلّه اشْتِعالا، و النِّصْفُ الآخَرُ مَمْلوء بالبُرودَة. و لَقَد رَأْيَتني هذه اللّيْلَة أَصول، في أَجْمَل جَولاتي الفارِسِيّة، على مُهْرَة صَدَفِيّة، بدون لِجامٍ و بِدونِ رِكاب. أَنا رَجُلٌ و لَسْتُ قادرا أَن أُكَرّر، العِبارات التي كانَت تَهْمِسُها لي، فاسْتَلْهَمَني الفَهْمُ الواضِح، بأَن أَتَظاهَر أَكْثَر حَذرا. وَسِخٌ بِالقُبُلاتِ و بِالرِّمال، أَخْرَجْتُها مِن شَطّ الماء، و السَّوْسَنُ تَتَأَرْجَح سُيوفه، ضِدّ نَسيم اللّيْلِ و شَذاه. و كَيْما أَتَصَرّفُ بِمِلْءِ يَميني، مِثْلَما يَتَصَرّف غَجَرِيٌّ أَمين، مَنَحْتُها و أَنا أُغادِرُها، سَلّة كَبيرة مِن الخِياطَة. و بِدونِ إِرادَة لِلتّعَلُّقِ بِها، لِأَنّها كانَت كذَلِكَ زانِيَة، و تَدّعي بِأَنّها بِدونِ زَوْج، حين كُنّا في اِتّجاهِ الوادي. المطر لوحة مستوحاة من شعر لوركا
المَطَر لِلمَطَرِ مِثل سِرّ، شاسِعٍ و وَديع، مَليءٍ بِالإِسْتِسْلام، و بِالنُّعاسِ المَليح. و بِخَفاءٍ تَصْحو مَعَهُ موسيقى، تُدَغْدِغُ روحَ المَناظِرِ البَطيئَة. إِنّهُ قِبْلَةٌ لازورْدِيّة، هذه التي تَتَلَقّاها الأرْض. إنّهُ الأسْطورَة البِدائِيّة، تَتَوَلّدُ مِن جَديد. اِتّصالٌ بَيْنَ أَرْضٍ و سَماءٍ باردَتَيْن، في نُعومَةِ مَساءٍ لا يَنْتَهي أَبَدًا. إِنّهُ شَفَقُ الفاكِهَة، الحامِلِ لِلزّهور، طَهارَةٌُ لِروحِ قُدس البِحار. إِنهُ الحامِلَِ لِلْوَصِيّة، على الحَياة في البُذور، صَوْتُ المَجْهول، في قُلوبِنا المُرَّة. إِنّهُ الوُسْواسُ الرّهيب، لأرْواحِ حَياةٍ تَضيع، إنّهُ الشّعورُ الحَتْمي، بالمَجيءِ بَعدَ فَواتِ الأوان، و التّوَهُّماتِ المُقْلِقَة، لِمُسْتَقْبَلِ مُسْتَحيل، تَوَهُّمات بِلَوْنِ البشرَة. إِنّهُ يوقِظُ الحُبّ، في رَمادِ إيقاعاتِها، إِنّهُ سماؤنا الدّاخِلِيّة، التي تَتَقَرْمَزُ بِالتّفَوّق. و مَعَ ذَلك تَتَحَوّل ثِقَتُنا إلى أَحزان، بِتَأَمُّلِها لِلْقَطَراتِ المَيِّتَة على الزُّجاج. إِنّها عُيونُ الأبَدِيَة، هذه القَطَراتُ التي تَرى، بَياضَ اللاّ نِهايَة، التي مَنَحَتْها البِداية. و كُلّ قَطْرَةٍ مَطَرِيّة، تَضْطَرِبُ على الزُّجاج، تَغدو إلهية، كَجُرْحِ جَوْهَرَة. شاعِرَةً لِلْماء، الذي رأى و تَأَمّل، ما يَجْهَلُهُ النّهْر، و كُلّ رَوافدِه. بِلا رِياحٍ و لا رُعود، أيّها المَطَرُ الصّامِت ! حَنانٌ رَءوف و وَديع، لِأجْراسِ الخِرافِ و الضّياء. طيبَةٌ مُسالِمَة، وَحْدَها الحَقيقيّة، هذه العاشِقَة الحَزينَة، التي لَها خِفّةَ السُّقوط. أيُّها المَطَرُ "الفْرَنْسيسكاني"، أَنْتَ مَن كُلُّ قَطْرَةٍ مِن قَطَراتِك، تَحْمِلُ روحا صافِيَة لِلنّافورات، و لِتَواضُعِ الينابيع ! و حين تَنْحَدِرُ رُوَيْدا، على مَشارِفِ الطّبيعَة، تَتَفَتّحُ لِموسيقاتِك، ورودُ قَلبي. و المَزْمور البِدائي، الذي رَتّلْتَهُ في هُدوء، و الحِكايَة الرّخيمَة، التي حَكَيْتَها للأغْصان المُلْتَفّة. فَقَلْبي في صَحْرائِه، ما زالَ يُرَدّدها و هو يَبكي، على الخُطوطِ الخَمْسَة السّوداء، تلك التي لا مِفْتاحَ لِمُيولِها. و في نَفْسي حُزْنٌ، بِرِقّة الشّتاء. حُزْنٌ بلا أَمَل، للذي يَمْتَنِعُ عَن الإنْجاز. و عِند المدى أرى، نَجْمَةً مُتّقِدَة، و لكنّ قَلبي يَمْنَعُني، مِنَ اللِّحاقِ بها لِرُؤيَتِها. إِنّكَ تَضَعُ رِقّةً مُحَيِّرَة، على مَلامِسِ "البيانو"، أَيّها المَطَر الصّامِت، أَنْتَ مَن تُحِبّ الأشجار ! إِنّكَ تَمْنَحُ قَلبي، الرّجْعَ الشّاسِع، الذي يَهزُّ الرّوح البَطيء، لِمَشاهِدِ الطّبيعَة. كانطي خوندو. يقول الشاعر كارسيا لوركا، عن "كانطي خوندو"، بأنه أول قبلة و أول دمعة، بل هو في الأصل غناء الأندلس البدائية وروحها. و يشتمل هذا التحديد، على كل من المجموعات الشعرية التي تنطلق من ( كانطي خوندو ) مرورا ب( بطرينا و سغريا خيطانا ) لتنتهي ب( رومانسيرو خيطانو )، و التي تحتوي على القصائد الغجرية التي ذكرناها أعلاه. و تمثل هذه المجموعة،الغناء الغجري الذي بقي محتفظا به في الفلكلور الأندلسي، لغاية يومنا هذا. و هكذا عبر هذا البناء الرومانسي،بل ( العربي الروح ) نجد شاعرنا في قلب إلهام الشاعرية الأندلسية. بل بتعبير أدق، (الحَمْراوِيّات) الغرناطية نسبة إلى قصر الحمراء، المنتسب إلى أسرة بني الأحمر، آخر ملوك الأندلس من المسلمين. أو الأندلسيات، نسبة إلى الأندلس الإسلامية، قبل سقوطها. و في هذا السياق بالذات، نفهم عودة لوركا إلى جذور إسبانيا البدائية، المتمثلة لديه في عالم الغجريات ( خيطانيزم ) البدائية و إسبانيا المغتصبة، المتمثلة لديه في قسمات الحزن العربي، الساكن في حمرة نجوم قصور غرناطة. هذا الحزن الذي يقول عنه و نسوق تعبيره :" لقد كانت الحضارة العربية الإسلامية، حضارة محببة، شعرا و تنجيما و هندسة، بل و مودة نادرة في هذا العالم. لكنها مودة اختفت. دعوني أقول علنا بأنها حضارة قد اغتيلت و انمحت، ليحل محلها مدينة خائفة و فقيرة، بقعة أرضية منسية، يقطنها البؤساء". و هذه النفحة الذكرياتية قد انتهت إليه من كل ممن سبقه من وجوه الشعر التراثي الأندلسي، و نقصد " أنجيل جانفيه " صاحب "غرناطة الجميلة" و " أونا مونو " صاحب الشخصية الثقافية الحزينة. و نورد بالمناسبة سلسلة من المعذبين بأغنيات أندلسية، من أمثال: "بيدرو صوطو دي روخاس، رزيّا، مانويل مشادو و سالفادور رويدا" و لا نستثني صديق لوركا الحميم "خوصي مورا غوارنيدو" من الإسبان. و من الأجانب نجد "واشنطن إرفين" و "طيوفيل كوتييه" و "شاتو بريونبل" و حتى "ألكسندر دوماس" و "فكتور هيكو." ففي هذا المناخ الأندلسي، وجد لوركا نفسه كمبعوث شاعري لهذه الروح العربية، المنفية من هذه الأرض التي لم يعد لها أية قيمة من بعد ترحيلها و رحيلها عنها . و دعنا نصغى إليه متغنيا بغرناطة، حين يقول : مِن أَجْلِ ذاك الذي يَحْلُمُ التَّعَبَ و القيثارَة، فَأنْتِ الشّمْسُ التي تُنيرُ الطّرُقات. أَنْتِ مَن يُساوي كُلّ جَمال، في اللَّوْنِ و الضِّياءِ و الموسيقى.
نصغى لهذا الحنين، و لهذا الإشتياق، و لهذا الحب الغابر. و أيضا في هذا الحب الممزوج بسهام الشمس الحمراء، بأغصان البرتقال، و شذى الخيري و القرنفل و الياسمين. هكذا ندرك عمق هذا الحب، الذي كان يستحوذ على نفس لوركا العميق، و روح الفضاء الأندلسي الساكن بأعماقه. بالفعل، لقد كان في تلك الفترة، نخبة إسبانية ذات اهتمامات تراثية. مجموعة من " النوسطالجيين" تحن إلى آفاق السحر الهندسي الإسلامي، الذي ما يزال مرسوما و مخيما، على قصور غرناطة و إشبيلية و مالقة. و هذا الحنين الغجري العربي، بالإضافة إلى هيجان روح الجنوب بسهام حرارتها و فضاءاتها الفسيحة و بفضة نحاسها و ذهبها القاتل، قد كانت صوتا للوركا العربي. و من هذا العمق يأتينا صوته قائلا: أَنْدَلُس .. يا أَنْدَلُس، يا ذاتَ الطّرُقات الحَمْراء .. !
مِن غُرْفَتي الغَرْناطِيّة، تَنْتَهي إليّ رَشّاتُ الماء، فَأَحْلُم بِأَنّي صاحٍ. آه عَلَيْكِ أَيّتُها الصَّوْمَعَة ! أَبكي دُموعَكِ المَشْرِقِيّة. و من قصيدة أخرى لحبيبته غرناطة: أَجْراسُ الفَجْر، القادِمَة مِن غَرْناطَة ! كُلّ البَناتِ يَسْمَعْنَكِ، و يَبْكينَ "شُمّيسَة" الوَديعَة المَغْمورَة بِالحُزْن. و في قصر الحمراء يقول: هِي "الحَمْراء" سَلالِمٌ مِن ذَهَبٍ و حَرير، و الحَديقَةُ الصّامِتَة تَحتَ القَمَر، حَيْثُ تَنامُ اِمْرَأَة فاتِنَة. ثم يتعالى صوته الشاعري ليحتضن كل غرناطة قائلا: قَمَرٌ أَنْتِ يا غَرْناطَة، غارِقٌ تَحتَ عُشْب اللّبْلاب. غَزالَة أَنْتِ يا غَرْناطَة، وَرْدِيّةٌ في دَوّاراتِ الرّيح. و في غَرْناطَة كُلّ مَساء، كُلّ مَساء طِفْلٌ يَموت، و الماءُ كُلّ مَساء' يُدَرْدِشُ مَع أَصْدِقائِه. آه ! لَكَم أَوَدّ أَن أَنْزل في البِئْر، أُريدُ أَن أَتَسَلّقَ جُدْرانَ غَرْناطَة، كَيْما أَرى القَلْبَ الذي مَضى، تَحْتَ مَياسِمِ المِياهِ القاتِمَة. و هكذا راح لوركا متغنيا بآثار إسبانيا المنقرضة على حساب هذه الأخيرة، التي تصدق عليها مقولة الشاعر الغرناطي " رافنيه": " إسبانيا أمة عبثية، لا أفق ما ورائي لها، لا ! ليس لها سوى العبث". و لكن تلك التي راحت، و لم يبق منها سوى هذه القصور الشاهدة عليها، و هذه النوافير المحدثة عنها، و تلك التربة الحمراء المروية بدمائها.
غِناء ( كانْطي خونْدو) صورة مستوحاة من المجموعة الشعرية (كانطي خوندو) غناء ( كانطي خونْدو)
(مِن مَجْموعَة سِغِرِيّا)
سِغِرِيّا
مُرور سِغِرِيّة (غَجَرِيّة) مِن بَيْن الفَراشاتِ السّوْداء، تَمْشي "مورِسْكِيّة" سَمراء، بِحذاء ثُعْبانٍ أَبْيَض، مِنَ الغُيوم. أَرْضُ ضِياء، سَماءُ أَرْض، تَمْشي مُقَيَّدَةً لارتِعاشَة، إيقاعٍ لا يَأْتي أَبَدًا. لَها قَلْبٌ مِن فِضّة، و في اليَدِ خَنْجَر. إلى أَيْنَ أَنْتِ ذاهِبَة يا "سِغِرِيّا" بِهذا الإيقاع المَعْتوه؟ أيُّ قَمَرٍ يُواسي أَلَمَ لَيْمونِك، و بَرَاعِمَ وَرْوِدك؟ أَرْضُ ضِياء، و سَماءُ أَرْض. (مِن مَجموعَة لاصولِيّا)
شُمّيسَة
شُمّيسَة (لاصولِِيا) مُلْتَحِفَةً بِخُمُرِها السّوْداء، تخالُ بِأَنّ العالَمَ جِدَّ صَغير، و القَلْبُ لا حُدودَ لِسِعَتِه. مُلْتَحِفَة بِخُمُرِها السَّوْداء. تَخالُ بِأَنّ التّأَوُّهَ الرّقيق، و الصُّياحُ يَخْتَفِيان، مَعَ مُرورِ الرِّياح. مُلْتَحِفَة بِخُمُرِها السّوْداء. تَرَكَتْ نافِذَتَها مُشْرَعَة، و عِنْدَ الفَجْرِ عَبْرَ النّافِذَة، انْصَبّتْ السّماء بِكُلّيَتِها آه ! آه ! ... مُلْتَحِفَة بِخُمُرِها السّوْداء. لوحة مستوحاة من موكب طواف ديني ( لمريم العذراء) بغرناطة
مُرور (باصو) عَْذراء في قِماشٍ قُطني، عَذراءُ العُزْلَة "صوليداد"، مَُّتَفَتّحَةً مِثْل خُزامى هائِلَة. في مَرْكَبَِ الضِّياء، تَمْضين، على مَرِيّة المَدينَة، العالِيَة، بَيْنَ أَسْهُمٍ مُضْطَرِبة، و نُجومٍ مِن بِلّوْر.َ عَذْراء في قِماش قُطْني، تَمْضين، على نَهْرِ الشّارِع، لِغايَةِ البَحْر. لوحة تمثيلية للقصيدة
مَوْت بِتِنيرا في الدّارِ البَيْضاء، تَحْتَضِر الرّجالُ المُضاعَة، و مائَة مُهْرَةٍ تَصولُ و تَجول، لِأنّ فُرْسانها قَد ماتَت. و تَحْتَ مَجَرّةِ، المَصابيحِ المُرْتَعِشَة، تَضْطَرِبُ جُبّتُها المُتَمَوِّجَة، بَيْن فَخِذَيْها البرونْزِيّة. مائَة مُهْرَةٍ تَصول و تَجول، لأَنّ فُرْسانُها قَد ماتَت. ظِلالٌ طَويلَة مَشحوذَة، تَتَناهى مِن المَدى المُضْطَرِب، و طَنينُ قيثارَة يَنْقَطِع. مائَة مُهْرَة تَصول و تَجول، لأَنّ فُرْسانُها قَد ماتَت. لوحة تمثيلية للقصيدة
طَريق مائَة فارِسٍ حَزين، إلى أَيْنَ يَتَوَجّهون، عَبْرَ هَذه السّماءِ النّازِفَة، لِحُقولِ البُرْتُقال؟ لَنْ يَصِلوا لِقُرْطُبَة، لا لَنْ يَصِلوها، و لا لإشْبيلِيّة، و لا لِغَرْناطَة المُتَأَوّهَة بَعْدَ البَحْر. سَتَحْمِلُهُم، هذه الجِيادُ الغَافِيَة، إلى مَتاهَةِ المِحَن، حَيْثُ يَضْطَرِبُ "الطّرَب"، مُثْخَنينَ بِشِكاياتِهِم السّبْعَة، إلى أَيْنَ يَتَوَجّهون، عَبْرَ هذه السّماءِ النّازِفَة، لِحُقُول البُرْتُقال؟ القيثارة لوحة لبابلو بكاصو الأوْتار السِّتَّة القيثارَة، تَبْكي الأوْهام. و نَحيبُ الأرْواح، الضّائِعَة، يَنْفُذُ هارِبًا، مِن فَمِها، المُسْتَدير. و مِثْلَ الرُّثَيْلاء' تَنْسُجُ نَجْمَة كَبيرَة، لِتَطْرُدَ الآهات، التي تَطْفو، في خَزّانِها، الخَشَبِيّ الأسْوَد. رقصة في حديقة بترينا رَقْص (في حديقة بتنيرا) في لَيْلِ الحَديقَة، سِتّةُ رِجالٍ مٍن الغَجَر، في ثِيابِهِم البَيْضاء، يَرْقُصون. في لَيْلِ الحَديقَة، مُتَوّجين، بِورود مِن الوَرَق، و بٍالشّمار. في لَيْلِ الحَديقَة، تَكْتُبُ، أَسْنانُهم الصّدَفِيّة، الظِّلالَِ المُحْتَرِقَة. و في لَيْلِ الحَديقَة، تَتَطاوَلُ ظِلالُهم، واصِلَةً، إلى عِنانِ السّماء، البَنَفْسَجِيّة.
لوحة من وحي شعر لوركا رومانس مٌسَرْنِم ( المْاشي في نومه)
أخضر، أَنْتَ الذي أُحِبُّ أَخَضْر، أَخَضْر الرّيحِ و أَخَضْر الأغْصان، الحِصانُ في الجَبَل، و المَرْكَبُ على البَحْر. تَحْلُمُ، و الظِّلُ مَشْدودٌ لِخاصِرَتِها، و هي مائِلَة على الشُّرْفَة، خَضْراء الوَجْهِ، خَضْراء الشَّعَر، و حَدَقتاها مَعْدِنٌ بارِدٌ. أَخْضَر أَنْتَ الذي أَُحِبّ أَخْضَر. و تَحْتَ القَمَرِ الغَجَرِيّ، كُلّ الأَشْياءِ تَرْمُقُها، هي التي لا تَسْتَطيعُ أَن تَراها. *** أَخْضَر، أَنْتَ الذي أُحِبُّ أَخْضَر، سِرْبُ كَواكِب مِن فِضّة النّدى، تَمشي في حِراسَة، مَوْكِب سَمَكِ الظِّلِّ، الذي يَفْتَحُ طَريق الفَجْر. و التّينَةُ تُخَدِّشُ الهَواء، بِعناقيد أَغْصانِها، و الرّابِيَةُ، مِثْلَ قِطّةٍ مُتَوَحّشَة، تُثير عُشْبَتُها المُسْكِرَة كُلّ بَهار. و لكِن مَن سَيِأْتي؟ و مِن أَيْن؟ مائِلَةٌ على شُرْفَتِها، خَضْراء الوَجْه، خَضْراء القَمَر، و البَحْرُ حُلُمُها المُرّ. *** صديقي، أَما تُريدُ أَن تَمْنَحُني، بَيْتُكَ بَدلاً مِن حِصاني، و مِرْآتُك بَدَلا مِن سِرْجي، و مِعْطَفُكَ بَدلاً مِن خَنْجَري؟ ها أَنَذا أَعودُ مُثْخَنا بِالجِراح، قادما مِن مُرْتَفعاتِ "كابْرا". لو أَسْتَطيعُ، يا إِبْني، كُنْتُ قَبِلْتُ عَرْضَكَ. و لَكنّي لَم أَعُد أنا نَفْسي، و بَيْتي نَفْسَهُ، لَم يَعُد بَيْتي. لَكَم أَوَدّ يا صديقي أَن أَموت، في سََرير هادِئ، على فِراشٍ جَميلٍ مِن الفولاذ، بَيْن أَغْطِيَة هولَنْدِيّة. أَما تَرى هذا الجُرْحَ الذي يَنْفَتِح، مِن صَدري إلى حَلْقي؟ أرى ثَلاثُ مائةِ وَرْدَة بُنِّيّة، تُوَرِّدُ قَميصَكَ الأَبْيَض. و قُطنُ حِزامَكَ، قد تَلَوّنَ بِرائِحَة دَمِكَ. و لَكِنّي لَم أَعُد أنا نَفْسي، و بَيْتي نَفْسه لَم يَعُد بَيْتي. دَعْني، على الأَقَل، أَصْعَد، نَحْو هَذه الشُّرْفَة العالِيَة، دَعْني، دَعْني أَصْعَد، نَحو هذه الشُّرْفَة الخَضْراء، إلى أَعْمِدَة القَمَر، حَيْثُ تَساقَطُ المِياهُ كَشَلّال. *** و نَهَضَ الصّاحِبان، نَحو الشُّرفاتِ العالِيَة، تاركينَ آثارَ دِماء، تاركينَ آثارَ دُموع، بِضْعَة مَصابيح قَصدير، كانَت تَضْطَرِبُ على السُّطوح. و أَلْفَ طَبْل زُجاجيّ، تَجْرَحُ الصّباحَ الصّغير. *** أَخْضَر، أَنْتَ الذي أُحِبُّ أَخْضَر، أَخْضَر الرّيح و أَخْضَر الأَغْصان. و كان الصّاحِبان يَصْعَدان، و في فَمِهِما كانَت الرّيحُ الكَبيرة، تَتْرُكُ مِثْلَ طَعْماً لِلضّغينَة، و آخر لِلرّيحان و النّعْناع. قُل لي يا صَديقي أَيْن هِي، إِبْنَتُكَ، اِبْنَتُكَ المُرّة؟ فَلَكَم ظَلّت تَنْتَظِر ! و لَكَم ظَلّت تَأْمَل ! وَجْهٌ فَتِيّ و شَعَر أَسْوَد، عِنْدَ الشّرْفَة الخَضْراء ! *** و في مِرآة خَزّان الماء، كانَت الغَجَرِيّة تَتَأَرْجَح طافِيَة، خَضْراء الوَجْه، خَضراء الشّعَر، و حَدَقتان مِن مَعْدِن بارِد. قِطْعَةٌ واهِيَة مِن ثَلْج القَمَر، كانت تَدْعَمُها على السَّطْح. و تَظاهَرَ اللّيْلُ أَشَدّ حِشْمَة، مِثْلَ ساحَة صَغيرَة. حُرّاسٌ مَدَنِيّون، في مُنْتَهى الثّمالَة، كانوا يَطْرُقون على الأَبْواب، هُنالِك ... ! أَخْضَر، أَنْتَ الذي أُحِبّ أَخْضَر، أَخْضَر الرّيح، و أَخْضَر الأَغْصان، الحِصانُ في الجَبَل، و المَرْكَبُ على البَحْر. مقطوعات من رومانسيرو خيطانو. " رومانسيرو خيطانو " الكلمة الأولى مشتقة من كلمة " رومانس " التي تعني في الأدبيات اللاّتينية – خصوصا في القرون الوسطى - حكايات عن القصور و الأميرات و الأبطال و العشق النبيل. و الكلمة الثانية تعني غجر إسبانيا. و لقد عمد الشاعر كارسيا لوركا في محاولته الشعرية " رومانسيرو خيطانو " بعث روح إسبانا الأندلسية في وجوه غجر الأندلس الذين عبرهم تتجلى كل فضاءات الأندلس المورسكية. و يقول بخصوص هذا:" رومانسيرو خيطانو شعر قلبي و بلاغة صوتي". و يضيف:" ثمة جنسان من الرومانس: رومانس حكائي و آخر غنائي، و أنا قد سمحت لنفسي بدمج الإثنين في صياغة واحدة جديدة." و سنبدأ بتقديم هذا المقطع الذي يعتبر من أجمل ما كتب. الحَرَس المَدَنيّ يَرْكَبون جياداً سَوْداء، و أَسْوَدٌ كَذَلكَ حديدُها، و على قُبّعاتِهِم تَجَلّى، لامِعَة بُقَعُ حِبْرٍ و شَمْع. و بِأَرْواحِهِم المُجَلّدَة بِاللّمَعان، يَتَقَدّمونَ عَلى شَواهِدِ الطّريق. و إِذا كانوا لا يَعْرِفونَ البُكاء، فِلَأَنّ لا مُخَّ لَهُم بَل رَصاص. مُحْدََوْدبون و لَيْلِيّون، مِن حَيْثُما مَرّوا تَركوا، فَراغًا قاتِمًا لَزِجًا مِن خَلْفِهِم، و خَوْفًا رَهيبًا عَلى رِمالٍ خَجْلى. يَمُرّون إذا أَحَبّوا المُرور، و في رؤوسِهِم، قد خَبّئوا تَنْجيما، مُسَدّسات غُرور. و من: " برسيوسَة و الرّيح ". دَعيني يا غالِيَتي، أَرْفَعُ جُبّتُكِ كَيما أَراك ! و افْتَحي في أَصابِعي العَتيقَة، وَرْدَةَ سُرّتُكِ الزّرْقاء، كَيما أَراك ! و تارِكَة طَبْلها " بريسيوسة"، فَرّتْ هارِبَة بِنَفْسِها " بْريسْيوسَة"، و الرّيحُ الرُّجولِيّة تُلاحِقُها، بِسَيْفٍ مِن حَرارَة الرّيح. أرْكُضي يا "بْريسْيوسا" ارْكُضي، فالرّيحُ الخَضْراء على وَشَكِ أَنْ تُمْسِكُكِ ! أُرْكُضي يا " بريسْيوسا " ارْكُضي، قادِمٌ في شَهْوَة النُّجومِ و أَلْسِنَة اللَّهَب. و من المرأة الزانية نسوق المقطع التالي: المَرْأَةُ الزّانِيَة ْ أَخَذْتُها بِقُرْبِ الوادي، و أَنا أَحْسَبُها بِلا زَوْج، بَيْنَما كانَتْ زانِيَة. و كان ذَلِك لَيْلَة "القدّيس جاك"، عَبْرَ مَواعيدَ و اتِّفاق مُبَيَّت، حين اِنْطَفأَت المَصابيح، و أوقِدَ الصُّياح .. الصُّياح. في آخِرِ رُكْنٍ لِغُرْفَة الفَضيحَة، كُنْتُ أَلْمَسُ نَهْدَيْها النّائِمَيْن، حينَ اِنْفَتَح لي صَدْرُها، مِثْلَ بَراعيمَ ياقوتِيّة. و في أُذُني عِطْر نَشاء، مِنْ شَذى جُبّتِها النَّشَئِيّة، يُصَرْصِرُ مِثْلَ حَرير مُمَزّق، عَشَرَةِ خَناجِرَ مُتَواطِئَة. و ذُرى الأَشْجار بِلا ضِياء، تَكْبُرُ على جَوانِب الطُّرُقات، و أُفُقٌ هائِلٌ مِن الكِلاب، تَنْبَحُ بَعيدَةً مِن النّهْر. حينَ تَجاوَزْنا العُلّيق، و الأشْواك و الجَوْلَق، نَفَذَت مِن تَحْتِها، عَقيصَةُ جَديلَتِها، و أَحْدَثَت ثَقبا في طَمْيِها. و حينَ نَزَعَتْ مِنّي رَبْطَتي، و خَلَعَتْ عَنها جُبّتَها، نَزَعْتُ بِدَوْري حِزامي، فَوَقَعَت أَرْبَع صِداراتٍ دُفْعَةً واحِدَة. فلا الحَلَزون و لا النّارْدين، لهُما بَشَرة أَشَدّ نُعومَة. و لا تَحْتَ القَمَر كان لِلْبِلّوْر، شُعاعٌ أَكْثَرَ لَأْلَأَةً و بَهاء. و كانَت فَخِذاها تَفِرُّ مِن تَحتي، مِثْلَ سَلْمون مَذْعور، نِصْفٌ كُلّه اشْتِعالا، و النِّصْفُ الآخَرُ مَمْلوء بالبُرودَة. و لَقَد رَأْيَتني هذه اللّيْلَة أَصول، في أَجْمَل جَولاتي الفارِسِيّة، على مُهْرَة صَدَفِيّة، بدون لِجامٍ و بِدونِ رِكاب. و من القصيدة " المسرنم " التي يمكن أن نسميها بالقصيدة الخضراء لما فيها من دلالات إيحائية و رمزية: المُسَرَْْنَم أَخْضَر، أَنْتَ الذي أُحِبُّ أَخْضَر، سِرْبُ كَواكِب مِن فِضّة النّدى، تَمشي في حِراسَة، مَوْكِب سَمَكِ الظِّلِّ، الذي يَفْتَحُ طَريق الفَجْر. و التّينَةُ تُخَدِّشُ الهَواء، بِعناقيد أَغْصانِها، و الرّابِيَةُ، مِثْلَ قِطّةٍ مُتَوَحّشَة، تُثير عُشْبَتُها المُسْكِرَة كُلّ بَهار. و لكِن مَن سَيِأْتي؟ و مِن أَيْن؟ مائِلَةٌ على شُرْفَتِها، خَضْراء الوَجْه، خَضْراء القَمَر، و البَحْرُ حُلُمُها المُرّ. و نختم هذه المجموعة، بهذا المقطع الذي له دلالة حنينية خاصة: الحَنينُ الأَسْوَد آهٍ لَك مِن سُوَيْداء، أَنْتِ التي ُتجْريني كَالمَهْبولَة، في أَرْوِقَةِ بيتي ! و جَدائِلي المُتَسَكِّعَة خَلْفي، مِن أَرْضِيّة المَطْبَخ لِغُرْفَة الغَرام، و أنا أُصْبِح يا لَحَنيني، َسأُصْبِحُ سََبَجًا و لَحْماً و ثِيابا.
إِنّهُ قَلْبي، آهٍ مِنْهُ قَلبي ! أَسْوَدٌ مِثْلَ أَعْمِدَة، هَيْكَلِ سُلَيْمان. إِنّهُ قَلْبي، آهٍ مِنْهُ قَلبي ! كُلّهُ بَنَفْسَجٌ كَما السّوْسَن، كُلّهُ سَوادٌ كَما الفَحْم. وحيدَةٌ أَنا، وحيدَةٌ وُلِدْت، وحيدَةٌ، أَنْجَبَتْني أُمّي، وحيدَةٌ، عَلَيّ أَن أَموت، و العُزْلَةُ تُرافِقُني. إٍغْسِلي أَيّتُها العُزْلَةُ جَسَدي، بِماءِ الخَطاطيف، و اتْرُكي قَلْبَكِ في سَلام، يا عُزْلَة، صوليداد مُنْطويا ! آيّ ! غابَةُ البُكاء آيّ ! يَتْرُكُ الصِّياحُ في الرّيح، ظِلالاً للِصّنَوْبَر. (أُتْرُكوني في هَذا الحَقْلِ أَبْكي.) كُلُّ شَيْءٍ في هَذا العالَم، قَد تَكَسّر... و لَم يَبْقَ سِوى الصّمْت. (أُتْرُكوني في هَذا الحَقْلِ أَبْكي.) فالأفُقُ بِلا ضِياء، قد عَضّتْهُ الحَرائِق. (لَقَد سَبقَ و قُلتُ لَكُم، أَن اتْركوني في هذا الحَقْلِ أَبْكي.) -انتهى-