لابد من التأكيد في البداية أن الحديث عن فنانينا الأمازيغيين الذين أبدعوا واجتهدو وأمتعوا الجماهير الأمازيغية ليس بالأمر السهل والبسيط، ومن الصعب اختزال عمر فني بكل تدفقه وفيضه في كلمات يسيرة ومختصرة، والموضوع في كل تجلياته يحتاج إلى صفحات ودراسات وأبحاث، فقط يبقى من واجبنا القيام بذلك في سبيل توثيق أعمال هؤلاء الرواد الذين قدموا الشيء الكثير ولم يأخدوا شيئا، وتأسيسا على ذلك، سبق لجمعية «حمو اليازيد» بالخميسات أن بادرت إلى تنظيم لقاءات متميزة لتكريم هؤلاء الفنانين، وتوثيق إبداعاتهم وأعمالهم الفنية، ورد الاعتبار لهم بتقريبهم من الأجيال الجديدة، وكان ذلك واضحا من خلال تكريم الفنانين: الغازي بناصر، العلوي مولاي إدريس، يامنة الويرة، بوعزة العربي، المرحوم العكري، لحسن أزاي، فاضمة ولتحديدو، محمد مغني، وموحى والحسين اشيبان...وكذلك ذكرى الأب الروحي للفن الأمازيغي بالأطلس المتوسط «اوعصيم حمو اوليازيد». حينما يخبو الضوء، ويسدل الليل أستاره، نشعر بحنين جارف لكل شعاع بعيد، ولهذا كانت سعادتي عميقة وأنا أستمع إلى معزوفات بوزكري، شعاعا من نور يعيد لي ثقتي في الحياة والناس والأشياء، ويزداد معه يقيني أن الأرض التي أنجبت هذا الجيل العملاق مثل المرحوم حمو اليازيد، علي ودا، زايد اوحديدو، موحى وموزون، موحى وبابا، ميمون وتوهام، بعيزة، اوعالي، بناصر وخويا، مولاي ادريس نسيدي عدي، موحى المودن، أعشوش...لا يمكن أبدا أن يصيبها العقم حتى لو استراح الزمان أحيانا، ربما يكون الصوت قد غاب والوجه قد خبا والأنفاس قد توقفت والعمر وصل إلى نهاية المطاف، ولكن الفن باق والصدق أبدي بين عشاق الفن الأصيل، وسوف تمضي مياه كثيرة في نهر أم الربيع وترحل فوق سمائنا سحابات كثيرة، وتتبدل الفصول وترحل المواسم والأيام، ومع كل هذا يظل صوت علي ودا وبوزكري صامدا خالدا. كان هاجس بوزكري عمران هو النبش المستمر في أغوار الأغنية الأمازيغية والنهل من ثراتها الأصيل، كما ظل مهووسا بخرق الحدود الفاصلة بين العيطة المرساوية والأغنية الأمازيغية بالأطلس المتوسط وطعمها بمقامات، استطاع عمران بوزكري أن يكسر المقامات المتجاورة في بعض الجمل الموسيقية واللحنية عكس المرحوم نعينيعة مصطفى الذي يتحسس المقامات أي يحوم حول مقامات النغمة مقاما مقاما، ولا يجرؤ على القفز من مقام إلى مقام، خوفا من الضياع أو من النشاز، وإذا قفز فهو يقفز في حدود المقامات المعدة لها أذن المستمع، فعلى غرار المرحوم بوزكري عمران يقفز قفزات غير موجودة في أذن المستمع ولا هو مهيأ وكأنه بذلك يريد أن «يلطش» المستمع ويقول له انتبه لما أسمعك إياه، ويظهر هذا جيدا في الآهات (نسميها بالامازيغية «ثخث جمعها ثخثيوين») الموجودة في أغنية «كرد ازين غر ساملو إلا وزال لكنقا» وفي عزفه تحس بالجدية والتفكير والتعبير بالجمل الموسيقية ونجده في«البراول» أيضا فذا ومبدعا. لقد ابتكر ضربا وإيقاعا جديدا لم يعرف من قبل وهذا الإيقاع سماه «تكربيلة»، وتألق علي ودا فيه وكان رائدا له، وطريقة عزفه على آلة الوتر مخالفة تماما، فهو يزحف بيده الشمال إلى اليد التي تعفق الأوتار ويصعد بها على الوتر، في خلاف مع عازفين آخرين على الوتر من أمثال المحجوب زعيريط ومولاي بوشتى الخمار رحمهما الله، يسرحون بآياديهم اليسرى على رقبة الوتر، وأحيانا يضربون على مقام ومقام آخر معا كالثالث أو الرابع حسب إمكانية الأصابع، الأمر الذي كان لا يعرف في ذلك الوقت، فقد كانت اليد اليسرى في ذلك الوقت لا تتحرك ومتشنجة على رقبة الوتر لدرجة أن العازف عندما كان يعزف على الأوتار العليا يعفق بأصابعه إلى أن يصل إلى جواب الحركة ثم «النوا»، وقد استطاع المرحوم بوزكري أن يدخل مقامات جديدة ودائما ملتزما بالقواعد والأصول، وكثيرا ما نراه عندما يحد أن شطرة «اللغة» أقل زمنا من الوقت المطلوب كما عند الفنان علي ودا الذي يضيف دائما كلمة «آه» قبل الشطرة، لا لشيء إلا لتكملة الوقت الزمني، ونلاحظ في أغنية «اكنا داخ استعزت غوري»، وعلى كل حال بوزكري عمران ثار على آلة الوتر في عزفه أكثر مما ثار في غنائه، وربما يرجع هذا إلى انه لم يكن قادرا على التغني الأمازيغية، وذلك يرجع إلى أصله المنحدر من نواحي بني ملال بعكس اتقانه لغناء بعض ما يصطلح عليه فنيا بالبراول. المرحوم بوزكري عمران من الفنانين الذين يمثلون المدرسة الكلاسيكية في الغناء والعزف الأمازيغي بالأطلس المتوسط، وما يزال هذا الفنان راسخا في أذهان كل غيور على أرشيف الثقافة الفنية الأطلسية، ولقد جعل بوزكري عمران تجربته الفنية أن تأتي إلينا من داخل الفن، ولم تكن مجرد مادة فلكلورية وجعل فنه عبقا حيا يصدع بلغة الأعماق الموسيقية في استغوار المضمون الثقافي الذي نسجه بآلاته الوترية، حيث دائما يربط أوتار آلته بأوتار قلوب مستمعيه في سعيه إلى تقديم أقوى ما لديه من إبداع على مستوى آلته صحبة رفيقه علي ودا، فيعد هذا الثنائي من الطينة النادرة. رغم هذه العظمة في الحياة والعزف، والقدرة على الإمساك بالعزف من ناصيته، ما يزال بوزكري عمران عازفا مجهولا قياسا بقامته الموسيقية الشاهقة، حتى أن القسم الأمازيغي للإذاعة الوطنية يعتريه فقر شديد لأغاني بوزكري عمران، ولم تدرج ولو قطعة واحدة من هذه الأغاني، ناهيك عن وزارة الثقافة التي لم تفكر يوما بتكريمه، ما لن يعتبر إلا جزء من الإهمال غير المبرر حيال الأسماء القوية والمضيئة الجديرة بالاحتفاء والتقدير. بوزكري عمران فنان أصيل، والذي يطبع مسيرته الفنية وإخلاصه للأغنية الأمازيغية حبه لآلة الوتر وحرصه الشديد على مصاحبته لها حتى في أيام مرضه، ومن أجل وتره عاش يمتع الناس به، يتفنن بأنامله الساحرة في البوح بالإنتعاش والإمتاع والمؤانسة إلى أن أصبح أحد أعلام الوتر المميزين، وينبغي الاشارة إلى أن عشقي للمرحوم بوزكري أتاح لي فرص كثيرة للإستماع والتمتع بعزفه الساحر الأخاذ، وللتعرف على بوزكري عمران، الإنسان الطيب والوديع والهادئ والسموح والذي لا يتكلم إلا بإيقاعاته الفريدة. ويعتبر المرحوم بوزكري عمران مدرسة قائمة بذاتها، وعندما يعزف هذا الفنان يغازل أوتار آلته يتجاوز حدود التوحد والإنصهار في تصوف غريب إلى حد الذوبان، فهو يغازل أوتاره فتغازله، يطاوعها فتحنو إليه، يقترب منها فتلتصق به شغفا وحبا، يطوف على اللحن الأمازيغي ويتناجى مع العيطة الزيانية، وكثيرا ما اتهموه بالتعقيد في جمله الموسيقية التي يريد أن يظهر براعته في عرضها، وكان رحمه الله قليل الكلام كثير التفكير، لا يطرق باب الدعاية ولا يبحث عن فرص للظهور و لا يعقد حلقات النميمة ولا ينقص من محبة الآخرين، مؤمن بإبداعه إلى حد الجنون، أنغامه وتقاسيمه بشموخ الأطلس، يجمع بين متعة الروح والعقل في إبداعاته الفنية مع احترام الموروث الثقافي والغوص في مخزونها وأغوارها، فهو يحلق بك في عالم روحي مثالي من المقامات الروحانية الّأمازيغية إلى المرساوي والحصباوي والبراول باحترافية قل أن نجدها لدى الكثيرين. حينما داهمه المرض وانطلق مسلسل الألم اقتنع أن هذا الابتلاء من الخالق عز وجل وفي لحظة الألم كانت آلته الوترية رفيقته الدائمة إلى أن سافر به الموت إلى عالم الخلود، وجثمانه يرقد الآن في مقبرة خنيفرة، إلا أن روحه تسري في أجساد أصحابه مثل: الراضي، الحمدوني، فهري علي، محمد مغني، القايد امهروق، بوزين احرضان ...رغم كثرة الغبار والضباب على فن بوزكري عمران لا زالت أنغامه ترن فوق جبال الأطلس المتوسط ويرتد صداها في منحدرات اروكو واكلمام وادخسال وجنان الماس.