ربما تكون هذه المقالة الأولى من نوعها في الساحة المغربية، لجهرها بموقف سياسي صريح ومغاير لما هو ذائع إعلامياً تجاه الأزمة السورية. تركت مقالتي السابقة فيما يلي : «وأريد أن أطمئن القارئ، ومن الآن، بأن مواقفي لن تنفي مخططات التآمر، كما لن تطعن أيضاً في حقيقة الثورة، بل هي ستسعى على أن تضع كلا في مكانه ونصيبه وبدائله». إذن، هل هناك مؤامرة تستهدف إجهاض الثورات العربية الجارية؟ سؤال قد لا يحتاج منا إلى عناء تفكير؛ إذ لكل ثورة، ثورة مضادة تقابلها، أكانت من قوى داخلية أم خارجية أم هما معاً. وهذه الحقيقة الأولية، تبين لنا، أن كلمة «الثورة»، المحمولة في اللسان العربي والذهنية العربية على الإيجاب بإطلاق، هي مقولة مزدوجة المعنى، إيجاباً أو سلباً، فالثورة قد تعني أيضاً العودة إلى الوراء فيما ندعوه بالثورة المضادة. لقد نوهت سابقاً بما اعتبرته، في بعض الخطابات العربية، «سجال فذلكة»، لا يزيدنا إلا غموضاً ودوخاناً في وصف ما يجري «أهو ثورة أم انتفاضة أم مجرد حراك شعبي؟». وما أعيبه على هذا السجال، أنه يجعل من مفهوم الثورة مفهوماً جامداً ومغلقاً لا يتناسب وجدلية الواقع التاريخي. ويظهر لي ذلك من خلال ثلاث ملاحظات رئيسة هي في صلب تعريف الثورة، بما هي تغيير شامل في البنى السياسية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية؛ فهذا التعريف العام الصائب من الوجهة المبدئية، لا يعني أنه لا يعترف إلا بالثورات الناجحة، بينما يسقط من حسابه الثورات الفاشلة، فكم من الثورات الشعبية حملت في اتجاهها العام الروح التغييرية الجذرية، لكنها فشلت في الطريق قبل أن تصل إلى كمالها. ولعلها الأكثر عدداً في سجل التاريخ. أما العيب الثاني، فمرده أن التعريف العام للثورة لا ينفي أيضاً الدينامية الزمنية التي تحتاجها كل ثورة باختلاف وثائر تطور مجتمعاتها. فالثورة ليست كلمة الله العليا تقول للشيء «كن، فيكون». إنها صراع بشري ممتد في الزمان، تتقدم فيه تناقضات، وتتأخر أخرى، إلى أن يتم للثورة الاستقرار والغلبة. والعيب الثالث في «سجال الفذلكة» هذا، أن كل الثورات إلا وراكبها نزوع خلاصي مطلق يمثلن شعاراتها وأهدافها، وإلا ما كانت هناك ثورة في الأصل. والحال، أن هذه الخاصية هي من صميم روحية الإنسان وسعي تطلعاته نحو المطلق لما هو «خليفة الله على الأرض». ولذلك، سيكون من الخطأ وضع تناقض مفتعل وحدي بين الوعي بمشمولاته (الأيديولوجية المطابقة+ البرنامج المستقبلي المناسب+ التنظيم الفعال جماهيرياً) وبين الروح الخلاصية العفوية المباطنة والمحفزة للثورة، فكلاهما ضروري ومكمل للآخر، شريطة أن يعي الوعي الصاحي، أن الثورة ليست خلاصاً في المطلق، بل هي مجرد ارتقاء في سلم الصعود الإنساني التاريخي. وهكذا، إن أخذنا بكل الملاحظات السابقة في قراءتنا للثورة بوجه عام، لجازلنا الاستنتاج، بأن ما تعيشه مصر وتونس واليمن والبحرين... وسورية وليبيا، هو من حيث المبدأ، ثورة ديمقراطية أو من أجل الديمقراطية... ومع التشديد على أن الديمقراطية في مجتمعاتنا المتأخرة لا تستقيم إلا بإحداث تغييرات نوعية في البنية الشاملة للأنظمة التقليدانية (الريعية والاستبدادية والفاسدة) والتي كانت ومازالت قائمة. وها نحن أمام إشكال آخر؛ فلقد ترسبت لدى أجيالنا اقتناعات جازمة عن فشل الليبرالية السياسية (البرلمانية) في طبعتها العربية الأولى بدءاً من عشرينيات القرن الماضي (نموذج مصر مثلا)، من حيث أنها، لعمق صلابة الفوات الثقافي للمجتمع من جهة، ولنوعية الارتباطات العضوية للبورجوازية الهجينة عندنا، من جهة ثانية، لم تستطع تلك الليبرالية أن تحرر لا الفلاحين من عزلتهم وعبوديتهم للملاكين الكبار (وهم الأغلبية الكبيرة وقتئذ)، ولا أن تحرر الوطن من سطوة الاستعمار القديم والجديد أيضاً. فكان هذا الواقع التاريخي دافعاً لقيام ثورة من طراز آخر، قام بها الجيش في الزمن الناصري، لبت هذين المطلبين التاريخيين، وبدعم شعبي تطور إلى نهضة قومية تحررية لا مثيل لزخمها إلا في الثورات الراهنة. ونحن نعلم، قبل أفول الثورة الناصرية في الردة الساداتية، وبالرغم من كل النكسات الكبرى التي أصابت الثورة في عهد قائدها (فشل الوحدة، وهزيمة 67)، كيف انتهى الجدل في توصيف ما جرى، «أهو ثورة أم مجرد انقلاب؟»، إلى اقتناع لدى أجيالنا خرجت عن التنميط التقليدي لمفهوم الثورة، واضعة «الانقلاب» لطبيعته التحررية والشعبية في مصاف الثورة وفي نصابها. أردت من التذكير بالواقعتين التاريخيتين السالفتين (فشل الليبرالية الأولى+ الانقلاب/ الثورة) «إصابة عصافير بجحر واحد» سيراً على مضرب المثل الرائج، فمن جهة، التلميح إلى ما في الهجو المستشري للمرحلة الناصرية من مغالطات اللاتاريخية تتجاهل الأسباب العميقة لفشل الليبرالية في زمنها، وإلى الطبيعة التقدمية للانقلاب الذي تحول إلى ثورة في نتاجه وشعبيته في ظل شروطه الموضوعية، وفي نفس الآن، الإشارة إلى ما يحتويه هذا الهجو من تسطيح فكري ليبرالي ومن خلط أيديولوجي شائع بين الليبرالية والديمقراطية. ومن جهة ثانية، أردت من استحضار التجربة التاريخية التأكيد على نسبية المقولات والمفاهيم، وسيولة حركية الواقع التاريخي وجدليته. وأخيراً، أردت تجديد السؤال القديم : هل الليبرالية اليوم، وفي وزمن العولمة، هي غير الليبرالية في طبعتها الأولى ؟ ********* لا شك لدي أن الجواب على هذا السؤال يفيض كثيراً عما نحن بحاجة إليه من اقتضاب يساعدنا فقط على تلمس الخط العام للثورات العربية الجارية. والتزاماً بذلك، سأضيف لما قدمته من خلاصيات ثلاث في الحلقة السابقة الاستنتاجات التالية: أولا: في كل الثورات العربية الجارية، ليس، بعد، للقوى التي ستتحكم في مصائرها نموذجاً اقتصادياً، (وبالأحرى اجتماعياً وثقافياً) أبعد من النماذج النيو-ليبرالية السائدة إلى هذا الحين في زمن العولمة. وسيفاقم من هذا الأمر أنها، في مواجهة اقتصاد وطني مأزوم ومطالب اجتماعية ملحة وضخمة، ستتعرض لضغوطات غربية وإقليمية محافظة لا تملك الإرادة والتصور لمواجهتها. كل الجديد الذي ستأتي به القوى الحاكمة الوليدة، أنها قابلة باحترام قواعد اللعبة الانتخابية الديمقراطية، ومع كل الالتباسات الواردة لديها في مضامين الدولة المدنية.. إنها إذن ليبرالية سياسية نغلة وغير مكتملة الوضوح، أما ما عدا ذلك وفي باقي المستويات المجتمعية الأخرى، فهو متروك للتجريبية ولما سيفعله نمو التناقضات الاجتماعية والسياسية القادمة. ثانياً: في المسألة القومية، وبالتحديد في شأن القضية الفلسطينية، وهي قضية تدخل في صميم الأمن الوطني لدول الطوق، يبدو أن القوى الإسلامية النافذة (وبعض القوى الليبرالية) بحكم ارتباطاتها التي تقوت مع الدول الخليجية المحافظة، وبحكم حاجاتها إلى طمأنة الغرب وعلى رأسه الولاياتالمتحدة، ستشهد مواقفها الجذرية السابقة التفافات تأخذ بها إما إلى موقف استراتيجي مهادن لا يعلو عن السياسة العامة التي اتبعتها دول الخليج، والتي لا تخرج قط عما بوسع الولاياتالمتحدة أن تفعله من أجل «السلام» في المنطقة !! وإما ستأخذ بها إلى تناقضات جديدة داخل صفوفها وداخل صفوف الثورة بوجه عام (ومنها وضع حماس بوجه خاص). ثالثاً: أكدت في الحلقة السابقة على أن الثورة مازالت مفتوحة الآفاق، وأبديت في ذلك ثلاث خلاصات أو مؤشرات، أولها، أن الثورة كانت خطوة عملاقة في ولوج مجتمع المواطنة مع نضوج بات مكتسباً في القدرة الثابتة والنامية للنضال الجماهيري من أجل حقوقها (المواطنة) كاملة. وثانيها، أن فئات الطبقة الوسطى الحداثية تعيش مخاضاً مزلزلاً لفرداويتها وتدررها وسلبيتها في أفق أن تصير قوة اجتماعية شعبية بحق. وثالثها، أن المعركة الثقافية-الإيديولوجية التحديثية ستأخذ مكانة محورية في القادم لما ستكون عليه من تماس مباشر مع التناقضات السياسية والاجتماعية، ومما سيخرجها من نخبويتها وبرانيتها الحاليتين. ما أضيفه لهذه المؤشرات أنها سوف تتراكب مع وضعية عالمية تنبئ بتحولات كبرى في الزمن المنظور: أزمة اقتصادية ومالية ستمتد لسنوات وتهدد النظام الرأسمالي العالمي في مفاصيله الكبرى.. موجة عالمية جديدة ومتصاعدة من الاحتجاجات الشعبية على الحيف الطبقي وعلى تحميل الطبقات الشعبية تكاليف الخروج من الأزمة الضارية. تراجع في نظام القطب الواحد في مقابل بروز قوة ناهضة لقطب اعتراضي تمثله دول تحالف بريكست (روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا) عدا التحالف الجديد الناشئ طراً لدول أمريكا اللاتينية... هل نحن أمام عالم جديد سيعطي للثورات العربية دفقاً أقوى وأرحب في مستقبل منظور ؟ لا ريب في أن كل المعطيات القائمة ترجح ذلك. ********* عود على بدء، ما كان لي أن أجيب على سؤال المؤامرة بدون إطلالة ولو أولية على ميدان الثورة الذي تجري في حلباته صراعات كل القوى الفاعلة، وإذا عدنا إلى السؤال، فبلا تردد وبكل قوة، هناك مؤامرة تستهدف احتواء الثورات العربية لصالح القوى الامبريالية وخديمتها القوى العربية المحافظة. الأولى، من أجل إسرائيل والبترول والهيمنة الجيوبوليتيكية. والثانية، من أجل درء مخاطرها على أنظمتها وللحفاظ على شراكتها مع الغرب الامبريالي الحامي لأنظمتها. وإذا تركنا التفاصيل العينية لكل حالة عربية، فإن الصورة العامة للاحتواء تبدو على شاكلة الأسلوبين التاليين: الاحتواء «الناعم» الجاري في تونس ومصر واليمن، والاحتواء العنيف الذي مورس في ليبيا وبما سيترتب عن تدخل الحلف الأطلسي، وفي البحرين عبر تدخل درع الجزيرة لقمع الثورة، وفي سورية عبر تسليح وتمويل مليشيات مسلحة إضافة للضغط الشرس الاقتصادي والسياسي والديبلوماسي. قد تكون لأي منا استفهامات على الدور الذي قامت به قيادة الجيش في كل من تونس ومصر في الإطاحة برأسي النظامين، وهل تمّ ذلك ب»ضوء أخضر» من قبل الولاياتالمتحدة وفرنسا بعدما صارت الثورة في البلدين لا مفر منها، لكن الشيء المؤكد لدينا أن الطريقة التي تعاملت بها قيادة الجيش المصري، المنضوية في المجلس العسكري الحاكم، مع مطالب الثورة وقضايا المرحلة الانتقالية، تنم عن عقلية محافظة هي بالضرورة من رواسب الارتباطات التي كانت قائمة بين قيادة الجيش والنظام السابق الآيل إلى الزوال وليس بعيداً أن يتطور هذا التناقض بين الجيش وقوى الثورة إلى الحد الذي يجعله فاصلا في مصيرها. أما الأساليب الناعمة في كل الحالات، فهي تشمل إغراءات تقديم يد العون في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المزمنة والموروثة عن الماضي أو الطارئة عرضاً بسبب الثورة. كما تشمل استغلال البيئة التعددية الناشئة لزرع تنظيمات حزبية أو مدنية ذات الارتباط المخابراتي أو الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة وحلفائها من الغرب والعرب المحافظين. وفي جميع الحالات، يتم استثمار كل التناقضات المجتمعية الداخلية، الطائفية والمذهبية والقبلية كأقوى سلاح إما للإعاقة، وإما لاستخدامه بأقصى طاقته التفجيرية عند الحاجة «للفوضى الخلاقة» في أي بلد تعذر ترويضه. وليس بجديد التذكير بوجود سيناريوهات أمريكية - صهيونية تضع إمكان تقسيم دول الشرق العربي، بما فيها السعودية «الدولة الحليفة»، إلى دويلات طائفية أو مذهبية يسهل التحكم فيها تحت الهيمنة المطلقة لدولة إسرائيل، وللنفوذ الأمريكي. هذه السيناريوهات باتت معروفة ومركونة كبدائل في الوقت المناسب وفي هذا البلد العربي أو ذاك... كل هذه الأحكام صحيحة ومسنودة بشهادات موثوقة ووقائع تم كشفها والتنديد بها هنا وهناك... غير أنه لا بد من التشديد على أن المؤامرات الخارجية لا تجد إمكان نفاذها ووصولها إلى مبتغاها إلا إذا وجدت البيئة الوطنية العامة مواتية وقابلة للاستعمال. فعندما نعلم على سبيل المثال، أن جنوب السودان بكل اختلافاته عن شماله العربي، قد تُرك فريسة للتغلغل الإسرائيلي من جراء فشل كل الأنظمة التي توالت على الحكم فيه، وخاصة خلال ما يسمى بحكم الشريعة الإسلامية في السودان من عهد النميري إلى اليوم، وكذلك من جراء إهمال مصر (ومعها النظام العربي) لأمنها القومي ولسياستها الذليلة لإسرائيل... وعندما نعلم، مثلا، أن الطرق المعبدة في الجنوب لا تتعدى بضع عشرات الكيلومترات في مساحة، تكاد تغطي نصف مساحة المغرب، كعلامة على حضيض الفقر والتخلف الذي كان عليه الجنوب،،، عندما نعلم كل ذلك، كيف لا نتوقع عندئذ نجاح المؤامرات التي شجعت خيار التقسيم والانفصال. وقس على هذا المثال ما يخطط اليوم لجنوب اليمن من مؤامرات تقسيمية قادمة قد تهدد الثورة من داخلها ولحسابات استراتيجية تتعلق بتوازن القوى في الخليج العربي، ما لم تجد الثورة الحل الديمقراطي المناسب لمعضلة الجنوب ولغيرها في الشمال أيضاً. ولعل الدرس الكبير في نفس السياق يخلص إلى: عندما يبلغ الحدث حجماً تاريخياً مفصلياً في أي بلد [انفصال أوهزيمة عسكرية أو ثورة]، لا تعود لروايات المؤامرة سوى مكانة ثانوية في شبكة العلاقات الموضوعية الداخلية التي تصير هي الحاكمة في كل النتائج. ********* تحدث فيما سبق عن الاحتواء «الناعم» وبما قد يترتب عنه في حالة الاستعصاء، أما عن وجهة الاحتواء «العنيف» المباشر والعاري، بوسعنا أن نلاحظ، كيف مازال قمع الثورة البحرينية مستمراً وسط حصار إعلامي عربي ودولي شبه تام، وذنب هذه الثورة الوحيد، أن غالبية الشعب البحراني شيعية المذهب، ولأنه كذلك، فتهمة العمالة للتدخل الخارجي الإيراني جاهزة كذريعة رسمية وخليجية، لقمع الثورة وبمباركة تامة من القوى الغربية. وفي ليبيا، مازلنا نجهل كل المضاعفات السياسية والاقتصادية الناجمة عن تدخل الحلف الأطلسي، لغموض توزيع القوى داخل مجتمع جفت فيه الحياة السياسية كلية في النظام السابق، وانتصرت فيه الثورة المسلحة بتكلفة بشرية وعمرانية باهظة، وتحت رعاية خارجية غربية وخليجية حثيثة سيكون لها بالتأكيد أثمانها وتداعياتها على الدولة الوليدة. (يتبع)