ليس هناك من شك أن أخذ المسافة أضحت ضرورية لفهم التطورات التي يعرفها العالم العربي منذ اندلاع ثورة تونس ومصر، فلحد الساعة لا يزال التدافع قائما بين إرادة الثورة، وبين جيوب مقاومة التغيير، أو بعبارة أكثر تحديدا، لا يزال الصراع مفتوحا بين الثورة وما تبقى من مؤسسات النظام الذي تم إسقاط رموزه الرئيسة. ولحد الساعة، لا تزال العديد من الأسئلة تطرح بصدد قدرة الثورة على تحقيق عناوينها وتطلعاتها، وكذا دور القوى السياسية والشعبية في ترتيب مستقبل الوضع السياسي في المنطقة. ولعل من أهم الإشكالات التي لا لم يعمق النقاش حولها بشكل مستفيض الدلالات السياسية لهذه الثورات وموقع الإسلاميين منها ودورهم في صناعتها وترتيب الوضع السياسي بعدها، وقدرة مشاركتهم على التأثير على مستقبل المنطقة. ضمن هذا السياق، وربما استكمالا لأطروحات تبناها بعض الباحثين المتخصصين في دراسة الحركات الإسلامية فشل الإسلاميين كما هو الأمر عند أوليفي روي فقد بدأت بعض التحليلات تنحاز لقراءة الثورات التي اندلعت في العالم العربي من زاوية كونها مؤشرا على ما أسموه ''ما بعد الإسلاميين'' Post-Islamism. تتمة للجزء الأول من المقال التحليلي، سنحاور أن نعرض لهذه الأطروحة كما أسسها بعض ورادها، ونرصد مفهومها، والمؤشرات التي استندت إليها، والعوائق والتحديات التي تواجه هذا المقترب التفسيري، وسنحاول أن نضع عليها جملة من الملاحظات النقدية بهدف تطوير النقاش وإحداث تراكم معرفي وعلمي يساعد في إعادة بلورة مقترب تفسيري يسهم بشكل أفضل في فهم موقع ودور الإسلاميين في الثورة وما بعدها. وسنعرض في هذا المقال للنموذج الثاني لهذه الأطروحة ويتعلق بأوليفي روى من خلال مقال نشره بجريدة لوموند بتاريخ 12 فبراير 2011 تحت عنوان ثورة ما بعد الإسلاميين. وسنحاول أن نعرض لأطروحته والمؤشرات التي استند إليها والخلاصات التي انتهى إليها، والتحديثات والاستشرافات التي وضعها، ثم نضع عليها ملاحظاتنا النقدية. أين ذهب الإسلاميون؟ يرى أوليفي روي أن الرأي العام الأوربي ينظر إلى الانتفاضات الشعبية في شمال إفريقيا وفي مصر من خلال بوابة يرجع تاريخها إلى أكثر من ثلاثين سنة، يقصد بذلك الثورة الإسلامية في إيران، وهيمنة التوقع من أن تتصدر حركة الإخوان المسلمين ونظائرها المحليين في مختلف بلدان العالم العربي، سواء في قمة هذه الحركات، أو أن تتوارى من أجل الاستعداد للسيطرة على السلطة. ويعتبر أوليفي روي أن التقدير السياسي للإخوان المسلمين والرؤية البراغماتية التي تبنوها تثير الدهشة والحيرة في وقت معا، وتثيران تساؤلا كبيرا هو أين ذهب الإسلاميون؟ الأطروحة ينطلق أوليفي روي من حيثيات تأسيس الحركات التي قادت الثورات في العالم العربي، ويستنتج أن الأمر يتعلق بجيل جديد اصطلح عليه جيل ما بعد الإسلاميين. ويقول :'' إذا نحن نظرنا إلى الذين أسسوا الحركة وأطلقوا الانتفاضة الشعبية، فإنه من الواضح أن الأمر يتعلق بجيل جديد ما بعد الإسلاميين'' ويمضي أوليفي روي في بيان خصائص هذا الجيل كما يلي: 1 جيل يرى أن الحركات الثورية الكبرى التي عرفها العالم العربي ما بين 1970 و ,1980 تعتبر بالنسبة إليهم التاريخ القديم، أي ثورات آبائهم. 2 جيل لا يهتم بالإيديولوجية، فالشعارات التي كان يرفعها حسب روي كانت ملموسة وجد براغماتية وملموسة، مثل شعار ''ارحل''. 3 إنه جيل لا يدعو إلى الإسلام كما فعل الجيل السابق في الجزائر في نهاية الثمانينيات. إنه يعبر قبل كل شيء عن رفض الدكتاتوريين والفاسدين ويطالب بالديمقراطية. 4 إنه جيل لا ينظر إلى الإسلام كإيديولوجية سياسية تسعى إلى قامة الدولة النموذجية. 5 إنه جيل يشعر أنه أفضل في حقل سياسي علماني. 6 إنه جيل قومي لكن لا يدعو إلى القومية 7 يعتبر روي أن الأكثر أصالة في هذا الجيل وهذه الحركات التي هو تغييب نظرية المؤامرة، فلا حديث عن اتهام الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل، بل حتى لفرنسا التي كانت بالنسبة إلى تونس تدعم نظام بن علي إلى آخر رمق ولا تحميل لهذه للمسؤولية لهذه الأطراف فيما يعيشه العالم العربي من الآلام. 8 إنه جيل خلق واقعا سياسيا، فرغم التقليد الأعمى الذي رمى بالمصريين واليمنيين إلى الشارع بسبب محاكاتهم للأحداث في تونس، إلا أن ذلك يبرز بأن هناك واقعا سياسيا للعالم العربي. 9 إنه جيل تعددي وهو أكثر نزوعا نحو الفردية. 10 هل جيل أكثر تربية وتعليما من الجيل السابق و يتمتع في الغالب بسهولة في الوصول إلى وسائل الاتصال الحديثة التي تسمح لهم بالتواصل عبر شبكة الانترنت من فرد إلى فرد دون المرور عبر وساطة الأحزاب 11 إنه جيل يعرف بأن الأنظمة الإسلامية أصبحت ديكتاتورية، فهو ليس مفتونا بإيران ولا بالمملكة العربية السعودية ولا بالمملكة العربية السعودية. ويرى روي أن الذين تظاهروا في مصر هم بالتحديد من يتظاهر ضد أحمد نجاد في إيران خ ولأسباب تتعلق بالدعاية الإعلامية فإن نظام طهران يتظاهر بدعم التظاهرات في مصر، لكنه في حقيقة الأمر مجرد تصفية حساب مع مبارك خ . 12 إنه جيل مؤمن لكنه يبعد المعتقد عن المطالب السياسية. وبهذا التحديد يرى روي أن هذه الحركات هي حركات علمانية لأنها تفصل الدين عن السياسة، وتجعل من الممارسة الدينية مسألة فردية. 13 إنه جيل يتظاهر أولا وقبل كل شيء من أجل الكرامة'' والقيم التي يدعو إليها هي قيم عالمية. الإسلاميون لم يتواروا ولكنهم تغيروا قبل بداية جوابه عن موقع الإسلاميين في هذه الحركات، يوضح روي مفهومه للإسلاميين، ويعتبر أنهم هم الذين يرون في الإسلام إيديولوجية سياسية تستطيع أن تحل كل مشاكل المجتمع. ويفصل في مواقف مكونات الإسلاميين، فبالنسبة إليه، فإن الراديكاليين تركوا الساحة من أجل الجهاد الدولي في الصحراء مع تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، في باكستان ... ويرى أن هؤلاء ليس لهم قاعدة شعبية أو سياسية، ويعتبر أن الجهاد العام الذي يدعون إليه مفصول كليا عن الحركات الاجتماعية والنضالات الوطنية، وأن القاعدة، وإن كانت تقدم نفسها على أساس أنها جبهة الدفاع الأمامية ضد الغزو الغربي للأمة الإسلامية للأمة الإسلامية جميعها ضد الغزو الغربي، لكنها ظلت منغلقة في منطقها ولم تعرف كيف تنشغل بقضية تكوين بنية سياسية داخل المجتمع المسلم، وثمن ثمة، فإنها رغم دعايتها الإعلامية ضد الغرب ورغم استهدافها لمصالحه، فقد ظل تأثيرها تأثيرها على المجتمعات الحقيقية معدوما. وقبل أن يعرض لبقية مكونات الحركات الإسلامية الأخرى يحاول روي في أطروحته أن يرد التفسير الذي يربط الثورات الحالية بتأثير الموجة الراديكالية على الأجيال الصاعدة وعملية الأسلمة التي خضعت لها خلال الثلاثين سنة الماضية، ويعتبر هذا مجرد خداع بصر، ويتساءل روي: إذا كانت المجتمعات العربية تظهر أكثر إسلامية اليوم بالمقارنة مع ما كانت عليه في السنوات الثلاثين أو الأربعين الماضية، فكيف نفسر غياب الشعارات الإسلامية في التظاهرات الحالية؟ وبخصوص الحركة الإسلامية يرى روي أنها في الوقت الذي سيست الإسلام أضحت مواجهة بحركات وتوجهات أخرى تركز إعادة الأسلمة ثقافيا واجتماعيا . تلك التوجهات، أو ما يسمى بالتدين الجديد، فتح خ حسب روي - ''سوقا دينيا'' لا يملك فيه أحد حق الاحتكار، ووجهت التدين نحو الوجهة الفردية ، لكن مع ذلك ظلت تحمل رسالة تغييرية. والخلاصة التي ينتهي إليها روي أن الإسلاميين فقدوا احتكار الحديث باسم الدين في المجال العام بالمقارنة مع ما كان عليه الأمر في الثمانينيات. ولقد زاد في الأمر، تشجيع الحكام المستبدين لإسلام محافظ ظاهر ولكنه أقل تسيسا، ومحكوم بهاجس الرقابة على القيم حتى صار ارتداء الحجاب أمرا مألوفا، وصارت الأسلمة شيئا مألوفا ومتحررا من التسيس، ويعلق روي على هذا الوضع الذي صار إليه التدين بمقولته:'' حينما يصبح الكل دينيا، لا شيء يصير دينيا'' أي أن الذي كان ينظر إليه في الغرب على أنه موجة خضراء من الأسلمة، لا يناسب في نهاية المطاف سوى الأمور التي أصبحت مألوفة. فالكل أصبح إسلاميا، من الوجبات السريعة إلى الموضات النسائية. لكن أشكال التقوى صارت فردية: البحث عن بناء الذات، البحث عن الداعية الذي يتحدث عن تحقيق الذات كما هو الأمر بالنسبة إلى الداعية المصري عمرو خالد، ولم يعد هناك أي اهتمام بحلم إقامة الدولة الإسلامية. أما السلفيون، فحسب روي، فصاروا يركزون على الدفاع عن الرموز والقيم الدينية، لكن بدون برنامج سياسي، فهم حسب روي غائبون تماما عن الاحتجاج، ويؤشر روي على ذلك بعدم رؤية نساء يرتدين النقاب في الاحتجاجات في الوقت الذي يوجد فيه العديد من النساء ضمن المتظاهرين، بما في ذلك مصر. أما المكونات الصوفية التي كان يظن أنها في حالة تقاعد، فيرى روي أنها برزت من جديد،بل خرج في بعض مظاهره حتى عن الإطار الإسلامي ويؤشر على ذلك بموجة المتحولين إلى المسيحية في الجزائر وفي إيران. أما بالنسبة للمكونات الدينية الخاضعة للدولة، فيريروي أنه من الخطأ الاعتقاد بأن الحكام المستبدين يدافعون عن العلمانية ضد التعصب الديني، فهذه الأنظمة حسب روي لم تقم بعملية علمنة المجتمع، بالعكس، باستثناء تونس، وأنها كانت تتبنى نوعا من الأسلمة غير الأصولية للمجتمع، هذا النوع الذي يتم فيه الحديث عن تطبيق الشريعة دون طرح سؤال طبيعة الدولة. وفي هذا الصدد يعتبر روي أن العلماء والمؤسسات الدينية الرسمية كانوا ينشرون تدينا محافظا باردا. فلم يكن لرجال الدين التقليديين، في الأزهر، رأي في المسألة السياسية، ولا في الرهانات الكبرى للمجتمع. ولم يكن لهم ما يقدمونه للأجيال الجديدة التي تبحث عن نماذج جديدة يعيشون فيها بإيمانهم في عالم أكثر انفتاحا. وبشكل عام، فإن الخلاصة التي انتهى روي في هذا الصدد أن المحافظين الدينيين لم يكونوا أبدا بجانب الاحتجاجات الشعبية. مفتاح التغيير بعد الملاحظات التي سجلها روي عن مختلف مكونات الحركة الإسلامية أو الدينية بشكل عام، يسجل روي ملاحظاته على الإسلاميين كما يلي: 1 إن رياح التغيير الذي حملته الثورات مس أيضا الحركات السياسية الإسلامية المتجسدة في الإخوان المسلمين واتباعهم مثل حركة النهضة في تونس. 2 إن الإخوان المسلمون تغيروا. أولا، بسبب تجربة الفشل سواء مع نجاح الثورة الإسلامية، أو مع القمع الذي مورس ضدهم. 3 إن الجيل الجديد المناضل داخل الإخوان استفاد من التجربة، وأيضا استفاد منها بعض القياديين القدامي مثل الغنوشي في تونس. لقد فهموا أن الوصول إلى السلطة بعد الثورة يقود إلى الحرب الأهلية أو الديكتاتورية مما دفعهم إلى التقارب مع بقية القوى السياسية في معركتهم ضد القمع. 4 إنهم أدركوا التأثير القليل للإيديولوجية في هذه المجتمعات، واستفادوا في هذا الاتجاه من النموذج التركي الذي استطاع أن يوفق بين الديمقراطية والنصر الانتخابي والتنمية الاقتصادية والاستقلال الوطني وتعزيز القيم، إن لم تكن إسلامية، فعلى الأقل القيم الأصيلة. 5 إن الإخوان المسلمون لا يحملون أي نموذج آخر اقتصادي واجتماعي. لقد أصبحوا محافظين فيما يتعلق بالقيم والأخلاق، وليبراليين فيما يتعلق بالاقتصاد. لكنهم اليوم، حسب روي، أثبتوا أنهم كانوا مؤيدين لقانون مبارك الذي جاء ضد قانون الإصلاح الرزاعي والذي يقوم على إعطاء المالكين للأرض حق رفع سومة الإيجار. 6 إن الإسلاميين لم يكونوا أبدا حاضرين في الحراك الاجتماعي الذي اندلع في دلتا النيل، في الوقت الذي لمحنا فيه عودة ''اليسار'' أو النقابية العمالية. لكن ترميم الموقف بالنسبة للإسلاميين كان أيضا في موضوع الديمقراطية: بسبب عدم القدرة على اللعب ببطاقة الثورة الإسلامية، فإن هذا يقودهم إلى التصالح والتحالف مع القوى السياسية الأخرى. مستقبل الإسلاميين يرى روي أن السؤال اليوم، ليس هو معرفة هل الحكام الديكتاتوريون يعتبرون أفضل حصن ضد الإسلاميين أم لا؟ ففي وجهة نظره، فإن الإسلاميين أصبحوا فاعلين في اللعبة الديمقراطية. وسيكونون وازنين بمعنى إنهم سيشككون رقابة قوية فيما يخص الأخلاق والآداب، ولكن ليس اعتمادا على نظام قمعي كما هو الشأن في إيران، أو على الشرطة الدينية كما هو الشأن في السعودية، إنهم - حسب روي - سوف يضطرون إلى طلب الديمقراطية التي لن تتوقف عند حدود انتخاب برلمان حر. حلاصة الموقف عند أوليفي أنه سيكون على الإسلاميين إما أن يعرفوا أنفسهم ضمن التيار السلفي التقليدي المحافظ، وسيفقدون ضمن هذا السيناوريو القدرة على التفكير إسلاميا ضمن الحداثة، أو أنهم سيعمدون إلى بذل جهود من أجل إعادة مراجعة مفاهيمهم بخصوص العلاقة بين الدين والسياسة. وروي يتوقع أنه يمكن للإخوان المسلمون أن يكونوا المفتاح للتغيير في جيل الثورة إذا لم تبحث عن التموقع السياسي، وذلك البقاء في منطق الاحتجاج في الثورة وليس بالإعلان عن نموذج جديد للحكم. ملاحظات نقدية العطب الأكبر في هذه الأطروحة يمس المقاربة والمنهج يمكن أن نضع عدة ملاحظات نقدية على هذه ألأطروحة، لكن قبل أن نفصل في هذه الانتقادات، لا بد أن نشير إلى أن العطب الأكبر في هذه الأطروحة يمس المقاربة والمنهج. فالزاوية التي ينظر إليها أوليفي روي للحركة الإسلامية تجعله لا يبصر إلا الجوانب التي تتيحها، والمقاربة السياسية التي يتبناها تجعله لا ينظر في الحركة الإسلامية إلا ممارستها السياسية والأهداف التي حققتها بالقياس إلى الهدف الأكبر الذي هو الوصول إلى السلطة. لقد كان هذا هو العطب الأكبر في أطروحته فشل الإسلاميين، واليوم يعيد إنتاج نفس العطب، لكن هذه المرة ليس من زاوية إخفاق الإسلاميين، ولكن من زاوية تجاوزهم من قبل حركات الجيل الجديد الذي أشعل الثورة. ولعل من مظاهر أزمة هذه المقاربة أنها لا تنظر إلى حصيلة أداء الإسلاميين على مستويات أخرى غير المستوى السياسي، بل حتى من زاوية المقاربة السياسية، لا يعطي أهمية للتحولات الفكرية التي حصلت داخل الحركات الإسلامية، قبل اندلاع الثورة، والتي جعلتها تراجع فكرة إقامة الدولة الإسلامية، ولا يعطي أهمية للعوامل المعيقة للتقدم السياسي للإسلاميين. عمليا، يمكن أن نتحدث عن أربع ملاحظات نقدية جوهرية: الملاحظة الأولى: في ضرورة تحكيم السياق السياسي: إن القراءة التي قدمها أوليفي روي حول موقع الإسلاميين في الثورات التي عرفتها كل من مصر، أغفلت عدة عوامل محددة، منها السياق السياسي المحلي، والذي كان محكوما بنظامين قمعيين تراوح تعاملهما مع الحركة الإسلامية بين المقاربة الاستئصالية نموذج تونس وبين مقاربة المحاصرة والتحجيم نموذج مصر ومنها أيضا السياق الدولي الحاكم، والذي لا يمكن أن نغفل دوره في تحديد طبيعة تعامل النظام السياسي مع الإسلاميين. ولعل نموذج انتخابات 2006 في مصر واضحة في هذا الاتجاه، إذ كان الموقف الأمريكي داعما لسياسة النظام المصري في إضعاف حضور الإسلاميين في المواقع السياسية، في حين كان الموقف الفرنسي يدعم بقوة سياسة بن علي التي أبادت الإسلاميين. ضمن هذه الشروط التي دامت أكثر من عقدين، ينبغي أن نقرأ مواقف الإسلاميين من الثورات، كما ينبغي أن نقرأ مواقفهم السياسية الأخرى قبل الثورات، وفي هل هذه الشروط ينبغي أن نفهم تغير موقف الإسلاميين من الحراك الديمقراطي الشعبي، خاصة في مصر التي تريث فيه الإخوان المسلمون عن المشاركة في الثورة إلى أن اتخذوا القرار الحاسم بالنزول القوي لدعمها وإسنادها، أما في حالة تونس، فإن مساندة الثورة من قبل حركة النهضة كان من أول يوم، بل إن مواقف حركة النهضة قبل اندلاع الثورات كانت تساند أية انتفاضة شعبية تطيح بالاستبداد السياسي لنظام بن علي. هذا بالنسبة إلى تونس ومصر، فإذا وسعنا رقعة النقاش، ومضينا إلى بلدان أخرى، مثل اليمن، فإن الحركة الإسلامية ممثلة في التجمع اليمني للإصلاح، مثلها مثل سائر مكونات النخبة السياسية، أسندت الثورة وشاركت فيها بقوة لما لم يستجب النظام السياسي للمطالب التي رفعها اللقاء المشترك في المهلة المحددة له. نفس الأمر يمكن أن يقال عن ليبيا، ولعل الصورة تكون أكثر وضوحا في حالة سوريا التي سارع فيها الإخوان المسلمون إلى دعم الثورة وإسنادها. إن ملاحظة أوليفي روي حول منشأ الانتفاضات الشعبية، والمكونات التي قادتها وغياب الإسلاميين عن بداية الحراك لا يفسر بالضرورة بإخفاق الإسلاميين وبروز ما يسمى بما بعد الإسلاميين، وإنما يجد تفسيره من باب أولى في تناقضات الوضع الدولي والإقليمي والحساسية التي يشكلها الإسلاميين بالنسبة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوربي وبالنسبة إلى الأنظمة على حد سواء. ولنا أن نلاحظ حجم الاتهامات التي كانت تكال لهذه الثورات من قبل الأنظمة السياسية من أجل استدراج الغرب للوقوق إلى جانبها ضدا على هذا الحراك الديمقراطي، ولعل أكبر ''تهمة'' كانت توجه لهذه الثورات: العلاقة مع الإسلاميين، والسلفيين وتنظيم القاعدة. إن هذا الموقف وحجه، يكفي لتفسير الأسباب التي جعلت الإسلاميين ينتهجون مسلكا سياسيا معتدلا يقرأ اللحظة السياسية ضمن شروطها القائمة، ويفهم تناقضات الوضع الدولي والإقليمي. ولعل مثال الجزائر الذي في العادة ما يدرجه أوليفي روي دون أن يحقق في جميع أبعاده، يعطي صورة واضحة ليس فقط عن حجم حساسية الغرب من موضوع ووصول الإسلاميين إلى السلطة، ولكن عن حجم التدخل الذي يمكن أن يتدخل به الغرب لإبطال أي حراك مجتمعي يقوده الإسلاميون. الملاحظة الثانية: عند توصيفه لخصائص الجيل الجديد الذي يقود الثورات في العالم العربي، ركز أوليفي روي على أنه لا يحمل حلم إقامة الدولة الإسلامية، وأنه يبعد المعتقد عن الحقل السياسي، ويشعر أنه أفضل في حقل سياسي علماني، وأنه جيل لا يدعو إلى الإسلام، ولا يهتم بالإيديولوجية. هذه الملاحظات التي سجلها روي بقصد التمييز بين الجيل الجديد والإسلاميين، تعكس استقرار نظرة الباحث لأدبيات الحركة الإسلامية كما لو كان يتحدث عن الحركة الإسلامية في السبعينيات أو الثمانينيات، فهي عنده لا تزال تحمل حلم إقامة الدولة الإسلامية، في حين أن واقع الحركات الإسلامية اليوم هو شيء آخر، فحركة النهضة في تونس، منذ التسعينيات، أنتجت خطابا جديدا مختلفا تماما عن خطاب المودودي والخطاب القطبي الذي يومئ له أوليفي روي، غالبية الحركات الإسلامية، بما في ذلك حركة الإخوان المسلمين، لم تعد تطرح فكرة إقامة الدولة الإسلامية سواء في مصر أو سوريا أو الأردن، بقدر ما صار تطرح مفهوم الدولة المدنية والدولة العصرية. وقد آلت هذه الحركات جميعها إلى تأسيس خطابها السياسي بنفس المفردات المتداولة في المجال السياسي مما أسماه أوليفي روي الحقل السياسي العلماني . حسب منطق أوليفي روي، ستصير الحركات الإسلامية نفسها تشعر أنها أفضل داخل حقل علماني، باعتبار تطلعها نحو بناء تعددية سياسية حقيقية لا تشعر فيها بالإقصاء والاستثناء، واعتماد ديمقراطية حقيقية بانتخابات حرة تفرز التمثيلية السياسية الحقيقية في المجتمع، وبتداول سلمي على السلطة يسمح للإسلاميين ، كما لآخرين أن يكون لهم حظهم في التدبير وإدارة شؤون الحكم. مشكلة طرح أوليفي روي، أنه لا يستحضر المعادلة الاجتماعية التي تشتغل فيها هذه الحركات، ولم يتتبع الصيغة الفكرية التي انتهت إليها بعد مسار من المراجعات الفكرية، تلك الصيغة التي مزجت بين الإسلام كمرجعية للاستمداد، وبين الأمة كسيادة. الصيغة التي اشتغل عليها مفكرو الإسلام منذ أزيد من عقدين من الزمن، أنشأت جيلا لا يرى خصومة بين الإسلام والديمقراطية من غير أن يضطر إلى أن يكون علمانيا. ومن ثمة، فالمطالب التي كان الشباب يطالبون بها، لم تكن شيئا آخر سوى النظرة الجديدة للإسلام في صيغته المقصدية التي تجعل الحرية والكرامة والاستقلال مقاصد عالية وحاكمة في الإسلام. فما يراه أوليفي روي شعارات علمانية، أو حقل علماني، هي عند الإسلاميين، وعند الجيل الجديد المفجر للثورات عناوين إسلامية بارزة ضمن الرؤية المقصدية للإسلام. ولذلك فلا عجب أن تكون المفردات والسلوكات الدينية حاضرة بكثافة في هذه الثورات. ولعل حضور يوم الجمعة كيوم رمزي في كل الثورات يعطي لهذه الإشارات التحليلية بعدها العميق، ويجعل خلاصات أوليفي روي بهذا الصدد فاقدة لعنصر الوعي بالمعادلة الاجتماعية، وبالصيغة التي انتهت إليها قراءة الإسلام في المرحلة الراهنة. الملاحظة الثالثة: وهي المحورية في هذا النقاش، لأن بالبحث تعمد في مقاله إبعاد المعامل الخارجي معتبرا استبعاد الجيل الجديد لمنطق المؤامرة مساعدا له للمضي في هذا المسار التحليلي مع أن الواقع هو غير ذلك تماما. إن الملاحظة التي سجلها روي بخصوص عدم اتهام الثورات العربية للدول الغربية ولإسرائيل لا يعني أنها غيرت وجهة نظرها بخصوص مسؤولية هذه الدول في إجهاض الحلم العربي، فهذه الحقيقة لم تعد جزءا من خطاب نظرية المؤامرة، ولكنها حقيقة بحثية أكدتها الدراسات والتقارير والكتابات، فمعيقات الإصلاح في العالم العربي لا تستبعد المعامل الخارجي، بل تجعل دعم الدول الغربية لأنظمة الاستبداد من أهم العوائق الكبرى، وهذا أمر أقر به أوليفي روي بالنسبة إلى فرنسا في حالة تونس مثلا. بيد أن الجديد في توجهات الثورات العربية، ليس استبعادها لهذا المعامل، ولكن الجديد هو محاولة إنتاج وضع ثوري يعي دور الغرب في إعاقة التحول الديمقراطي، ويسعى إلى تحييده من خلال منعه من استعمال الورقة الإسلامية والسلفية، والتركيز على السياق الداخلي. إن التوجه إلى السياق الداخلي لا يعني أن هذا الجيل قد طبع مع الغرب وأزال كل الإشكالات المتعلقة بمشاكل التنمية والاستقلال والتحرر التي يقف الغرب عائقا دون تحقيقها في العالم العربي بدليل انخراطه الكامل في تثمين التوجه نحو الانتفاضة الثالثة تنديده المطلق بالهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة والتي أفضت إلى قتل أزيد من 16 شهيدا. القضية هي أقرب المنطق الذي آل إليه الإسلاميون بعد الانقلاب على الديمقراطية في الجزائر، المنطق الذي أصبح يحكم تناقضات الوضع الدولي، ويضع في الاعتبار المزاج الدولي الذي لا تزال الورقة الإسلامية تشكل بالنسبة إليه مصدر إزعاج. ولهذا حرص الحراك الشعبي أن يظهر في صورته الشعبية من غير تمظهر بلون سياسي معين، وقد التزم بهذا حتى الإسلاميون أنفسهم الذين دخلوا على الثورة المصرية بكل قوة وكانوا موجهين لها في المحطات الأخيرة دون أن يفرضوا اسمهم أو يعطوا لهذه الثورة لباسا معينا. لقد كان الوعي بهذه المسألة وعيا مشتركا، إلى الدرجة التي أفشل فيها الإسلاميون وكل مكونات الحراك الشعبي رهانات النظام الحاكم في مصر في تصوير التغول الإخواني على الثورة. وهو ما شاهدناه في الحالة التونسية من خلال تتبع تصريحات الشيخ راشد الغنوشي الذي كان عي شروط المرحلة ويعرف تناقضات الوضع الدولي، ويحدد السقوف الممكنة التي تحيد الغرب وتبعده عن ساحة التدخل باسم تغول الإسلاميين. الملاحظة الرابعة: وتتعلق بالعطب الكبير في المقاربة السياسية التي اعتمدها روي، والتي تعكس اختزالا مخلا في النظرة إلى مشروع الإسلاميين إذ يحصره في البعد السياسي ويلغي الأبعاد الأخرى القيمية والتربوية والاجتماعية وسائر المناشط التي يقوم عليها الإسلاميون في نظريتهم للعمل الإسلامي. مشكلة هذه المقاربة، مثل مشكلة أصحاب أطروحة ما بعد المشاركة السياسية للإسلاميين، إذ تتحد النظرة في تقييم أداء الإسلاميين وحصيلتهم من زاوية الكسب السياسية مع أن المعطى الأساسية المحدد في العلاقة التي تحكم الغرب بالأنظمة السياسية الحاكمة في العامل العربي. ويبدو عطب هذه ألأطروحة معيبا أكثر حينما تبعد العامل الخارجي بعيدا، وتقيم حصيلة أداء الإسلامي سواء في المشاركة السياسية أو في الوصول إلى السلطة كما هي زاوية نظر روي، من غير النظر إلى الأبعاد الأخرى المرتبطة بالجوانب الرسالية في مشروع الإسلاميين: تطور رصيد القيم في المجتمع، الحضور التربوي والاجتماعي والجمعوي، صناعة الأفكار والمواقف والقدرة على تعميمها في التداول الشعبي، صناعة الحدث السياسي أو على الأقل التأثير فيه، تطور حجم حضور الإسلاميين في الساحة، بل حتى معيار رصد تطور مشاركة الإسلاميين انتخابيا... كل هذه المعطيات يتم استبعادها في مقالربة روي، ليظل المعيار الوحيد الحاكم عنده هو فشل الإسلاميين في الوصول إلى السلطة في تغييب كامل للاعتبارات الدولية ولتناقضات الوضع الدولي.