تشييع جنازة الراحل محمد الخلفي إلى مثواه الأخير بمقبرة الشهداء بالبيضاء    "التقدم والاشتراكية" يحذر الحكومة من "الغلاء الفاحش" وتزايد البطالة    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جامعة الفروسية تحتفي بأبرز فرسان وخيول سنة 2024    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مبارك عليكم رحيل مبارك
نشر في هسبريس يوم 16 - 02 - 2011

أخيرا نجح الفطام السياسي وتقرر أن يتنحّى حسني مبارك عن السلطة متدحرجا شقيا باكيا. تقرر ذلك ولم يكن قرارا منه. لأن ثمة من اعتقد خطأ أن كل ما جرى خلال 18 يوم من صمود الشعب في ميدان التحرير إن هو إلاّ صمود حسني مبارك في التمسك بالسلطة وإصرار منه على البقاء. قد يكون شيء من ذلك صحيحا. فلحظة سقوط الطاغية مؤلمة للغاية. ولهذا السبب لو خلّي مبارك لنفسه طرفة عين، لأجرى حمّام دم في مصر لقمع ثورة الشباب. كان مبارك موظّفا عند واشنطن وتل أبيب ولم يكن يعتمد على شرعية وطنية حقيقية. لقد جاء إلى السلطة في مصر بقرار أمريكي وعليه أن يغادر بقرار أمريكي أيضا حتى لا ينقلب السحر على الساحر ويصبح بقاؤه في السلطة مصدر إضرار لواشنطن. وما حرب الحمير والبغال والجمال التي خاضتها بلطجيته ضد المتظاهرين سوى محاولة لم تكلّل بالنجاح. غير أن ذلك ليس كل ما حدث خلال هذه الفترة من عبثية تمطيط الوقت في الوقت بدل الضائع. ما الذي يمكن أن يسجله مبارك في مبارة خسر فيها بمعدل عشرة مقابل الصفر، ما الذي ستفيده خمس دقائق إضافية إذن؟! السياسة لا تقرأ دائما من خلال مزاج الديكتاتور الذي خرّف طويلا حتى غادر مرغما دون أن يعتذر لشعبه عن ماذا كان فعل. لقد تحدّد مصير مبارك منذ 25 يناير. وما تبقى هي تعليمات من واشنطن نفّذها مبارك بالحرف عبر قيادة القوة المسلحة. لم يخالف مبارك قرار الراعي الأمريكي منذ 30 سنة وحتى الربع ساعة الأخير؛ إنه الوفاء. الجائزة المتبقية لمبارك والتي نفذ فيها تعليمات واشنطن حتى آخر قطرة من صموده الممسرح كما جاء في تعليقه هو ونائبه ضد التدخل الأمريكي ، هي أن يتنحى بسلام دون ملاحقة قضائية دولية. سيدرك مبارك الذي جمع ثروة تقدر بالسبعين مليار دولار على حساب الموت البطيء لشعب ذنبه الوحيد أنه أكبر من أن تحكمه الديكتاتورية ويرهن لمعاهدات الذل والهوان، يريد أن لا يسمع بعد اليوم ملاحقات قضائية في سائر بلاد الدنيا. فأما إسرائيل فلقد اعترفت له بهذا الوفاء ودافعت عنه إن لم نقل هي من هندس رحيله بسلام.

إنجازات مبارك التي لا تنسى

لمبارك إنجازات سيذكرها التاريخ بكثير من الاشمئزاز؛ لهذا الضابط الذي حكم مصر بقانون الطوارئ لأكثر من 30 عاما وكان يدبر لهم مزيدا من تاريخ القمع لو أنه نجح في التوريث. استطاع مبارك الذي لم يفتح ورشا حقيقيا للإصلاح ولا فسحة للانفراج السياسي ، أن ينجز مهزلة اقتصادية تجلت في رهن الاقتصاد المصري لسياسة المساعدات الأمريكية ، وكذا نجاحه في تكوين ثروة شخصية تقدر ب 70 مليار دولار من بلد يعيش معظمه تحت عتبة الفقر. التنمية السياسية والاقتصادية في مصر بلغت الحضيض: شعب تحول من أول دولة عربية عرفت النهضة والتحديث إلى دولة للدروشة والمسكنة والمجاعة. وشعب تحول من أقدم دولة عربية عرفت الدستور والتعددية والديمقراطية والتحرر إلى أكبر بلد عربي يعيش تحت طائلة قانون الطوارئ. وشعب تحول من دولة رائدة إقليميا ودوليا إلى ناطور على البوابة الشمالية للكيان الإسرائيلي. فقر وهدر للكرامة وكبت حقوقي ، تلك هي حصيلة ثلاثين عاما من البلطجة السياسية لمبارك في مصر. من كان يصدق وزير الخارجية المهترئ أبو الغيط حينما سخر ممن تحدث عن إمكان أن تشهد القاهرة أحداثا شبيهة بتلك التي حدثت في تونس. قال إن مصر ليست هي تونس؛ مع أن المشترك بين الدولتين هو سيادة قانون الطوارئ. نعم، يمكننا القول أن مصر لم تكن هي تونس نظرا لاعتبارات كثيرة، منها أن تونس استطاعت أن تحقق معدل تنمية متقدم بالمقارنة مع مصر التي أدخلت أبناءها أحياء إلى سكنى القبور. كانت مشكلة تونس هي التنمية السياسية، بينما أضاف مبارك مشكلة أخرى تتعلق بالتنمية الاقتصادية. التنمية عند مبارك أن يستقبل المعونات الأمريكية مقابل قرار مصر السيادي. فلقد قبل مبارك بالمعونات لمصر بمقابل تجويع أهالي غزّة والثمن حراسة هزيمة العرب. باتت مصر تحت خط الفقر سياسيا واقتصاديا وأمنيا. ويعد الإجهاز على مكتسبات مصر وإمكاناتها أهم ميزة لسياسة مبارك المخلوع اليوم والمقبور قريبا. لقد كانت في مصر تقاليد ديمقراطية ودستورية قديمة أجهز عليها مبارك الذي أفسد السياسة الداخلية كما أفسد كل مكتسبات التحرر الوطني المصري الذي جعل من مصر ذات مرة كيانا إقليميا ودوليا يحسب له حساب . نذكر دور مصر في باندونغ وحركة عدم الانحياز ودورها في أفريقيا والشرق الأوسط ولا ننسى أنها انتصرت في آخر حروبها ضدّ إسرائيل. كانت ولازالت مصر بلدا كبير تشكل الثورة فيه زلزالا كبيرا في المنطقة. على الرغم من أن مبارك الذي جعل من نفسه ناطورا في الإقامة الصهيونية لم يكن يضع في خياله أن للطغيان حدودا ونهاية. هكذا كانت أكبر جريمة ارتكبها مبارك حينما قبل ببناء الصور الفولاذي لإحكام الطوق على غزة في عز الحصار الصهيوني . لهذا السبب كان لا بد لمبارك أن يسقط لأنه لم يعد قادرا على تأدية دور وطني مشرف، وبات وضعه مدعاة لكراهية الشعوب العربية. ذلك لأن المقاومة في لبنان وفلسطين كسرت طوق الهزيمة وكشفت عن كذبة أن العرب لا يستطيعون اتخاذ أي مبادرات أو الارتفاع قليل عن سقف الهزيمة والاستسلام. تستحق مصر نظرا لتاريخها العميق أن تعود إلى وضعها الطبيعي؛ أن تقود العرب مرة أخرى وبكيفية مختلفة خارج أسوار الهزيمة التي فرضها علينا السادات ومبارك قبل أن تفرضها علينا إسرائيل. لم تقم مصر بأدوار إقليمية مشرفة، بل كانت كل تدخلاتها خدمة وعمالة للسياسة الأمريكية والإسرائيلية. تدخلت مصر في فلسطين لتجبر الفلسطينيين على الانتحار البطيء داخل غزة ولتذيق الفلسطينيين ما لم تذقهم إياه إسرائيل في ذروة عدوانها على عزة. ثم بنت الصور العظيم ليبقى معلمة تاريخية إلى جانب الأهرام، تأكيدا على أن تاريخ فرعون واحد منذ الفراعنة حتى عصر مبارك. كما تدخل أبو الغيط في الشأن اللبناني ليحرض على الفتنة بوقاحة. من قال إن هذا السياسي الحافي من الوعي الاستراتيجي والسياسي سيمضي إلى مزبلة التاريخ فيما المقاومة الفلسطينية واللبنانية ستظل على قيد الحياة شامخة وسيتبوّل جيل العرب القادم على قبور هذه الجيف السياسية. من قال إن من حاكمهم النظام المصري المقبور على خلفية مساعدة فلسطينيي غزة سيطلق سراحهم شباب ثورة لم تكن في الحسبان ، على الرغم من أنف مبارك وأبو الغيط وعمر سليمان وإسرائيل؟! لا أحد توقع كل هذا ، لكنه في مملكة الله الكبرى يقع حتما وسيقع دائما.

ثورة نظيفة وجديدة

لم تكن ثقافة حسني مبارك فرونكوفونية مثل بنعلي ليوجه خطابه للشعب بعبارة شارل دوغول: فهمتكم. فلقد فضل الرئيس العجوز أن يواجه الشعب بعبارة : أنا واعي بمطالبكم. لكن مبارك يملك وقاحة لم يملكها بنعلي، حتى بدا أنه لم يفهم مثلما فهم بنعلي. فالشعب المصري حينما ثار على حارس الهزيمة العربية كان يقصد مبارك لا الحكومة. ولن نسمع بعد اليوم شيئا في الاعلام العربي الذي انقسم على نفسه بين داعم للبلطجية وبين داعم للثورة ، عن خواف تصدير الثورة الإيرانية . فهذه لم تعد تقنع أحدا حتى حينما حاول النظام المصري أن يتمسك بها في تناغم مع إسرائيل عشية خطاب مرشد الثورة الإسلامية في إيران أو خطاب السيد حسن نصر الله. كانت الثورة المصرية قد أخذت كامل ملامحها المصرية قبل أن يتقدم الاثنين بخطاب لنصرتها مما فوت الفرصة على الدعاية. لم يعد مقنعا بعد اليوم الحديث عن تصدير الثورة لتبشيع ثورة العرب ، بعد أن باتت الثورات شأنا عربيا يشكل تهديدا أخطر من خلال النموذج والمحاكاة والقرب والمشترك . سوف تدرك الكثير من الأنظمة العربية مثل السعودية أن الإطاحة بإيران سيجعلها فريدة في المنطقة مما يسهل على واشنطن إرغامها على كل شيء. كثيرون تحدثوا عن السقف الذي يمكن أن يمثله دور الشبكة العنكبوتية على صعيد التعبئة. لكنهم لم يمنحوها أهمية على مستوى تعميق الفعل الكفاحي. بينما أكدت ثورة تونس ومصر على أن هذه الرؤية لم تعد ناجعة إن لم نقل إنها باتت حكما خاطئا. لقد أنجز الشعب المصري ثورة نظيفة ومثقفة ألقمت حجرا للدعاية الإسرائيلية التي اهتمت بمبارك أكثر مما همها الشعب المصري. ما الذي ضخم في مبارك كل هذا الإحساس بأن رحيله من غير مطرود سيدخل مصر في دوامة الفوضى ، بينما 18 يوما من محاولته استدراج المتظاهرين للعنف لم تنجح؟! لم تجد هراوة مبارك آذانا صاغية ، بعد أن اختار الشعب مقاومة العنف باللاّعنف. لقد وجهت للشعب إهانات كثيرة من إسرائيل ومبارك حتى لحظة الرحيل. فمبارك تحدث عن أن الانتقال السلمي للسلطة هو سبب إصراره على البقاء. غير أن الأمر كان يتعلق بسبب آخر هو ربح الوقت الكافي ومحاولة تلمس أي أمل للإبقاء على معاهدة السلام. فالإستراتيجيا الأمريكية أصبحت واعية بما يمكن أن ينجم عن تكثيف الضغط على الثورة المصرية. فلو استمر مبارك لأصبح من الصعوبة محاورة الشعب المصري. إن تنحي مبارك في نهاية المطاف أصبح ضرورة أمريكية وإلا فهو الطوفان. هذا هو مقتضى نظرية الألعاب. فواشنطن تدرك أن الشعب المصري لن يعود إلى المربع الأول بعد اليوم. وعليه، فإن هذا الوضع هو أقل خسارة من أي وضع محتمل فيما لو استمر مبارك في لعبة قلب الحقائق. لم يكن البيان رقم 2 سوى بيان ممهد للبيان رقم ثلاثة الذي جاء في اليوم التالي. لخص البيان رقم 2 كل ما جاء في خطاب مبارك وعمر سليمان. أظهر أن الجيش لا يزال غير قادر على المجازفة. وحسنا فعل لأن أي موقف منه كان قابلا للاستغلال. لقد بدت ثورة شعب مائة بالمائة. عمل مبارك كل ما في وسعه لثني الثورة عن تحقيق أهدافها. ملوحا تارة بالقمع وتارة بالتعديلات. وكان من أغرب لحظات تخريف مبارك ومجموعته أنهم تحدثوا عن عزمهم إعطاء أوامر للتحقيق في من قمع المتظاهرين كما تحدثوا عن ثورة الشعب المصري كما لو أن كانت الثورة ثورتهم هم.

ثورة وفكاهة

لم يكن ميدان التحرير ميدانا لتراجيديا الثورة. من يدرك طبيعة هذا الشعب لن يغيب عنه أن ليالي ميدان التحرير كانت ليالي صاخبة بأجمل أشكال التّندر السياسي. في ثنايا النكتة المصرية تقف على منتهى المعنى والمراد الجدي للخطاب. هذا شعب أتقن فنون القول والحكاية حتى أن الكتابة لديه تمارس بعقل شفهي. وتستطيع التقنية السوسيولوجية الوقوف عند منتهى المعنى الثوري في ما يعيشه ميدان فسيح مثل ميدان التحرير ويكون جمهوره مصريا. حتما تشكل النكتة المصرية كيمياء فعّالاّ لإنعاش الثورة. نكتة الثوار تقول لمبارك ارحل ألا زلت لم تفهم ، سنساعدك على الفهم ونقول لك : ارحل معناها في قاموس الطلاب : امش. كثيرون طالبوا الرئيس أن يرحل لأنهم يريدون أن يلتحقوا بزوجاتهم وآخرون ليحلقوا رؤوسهم وآخرون طالبوه بالرحيل لأنهم يريدون دخول الحمام. أما نكتة النظام فهي تقرأ بين السطور؛ هيا أيها الشعب ، ألا تفهم ، ارحل فمبارك متشبث بمصر ويريد أن يموت فيها لا في عواصم دول أجنبية. وحينما تكرم عمر سليمان على الشعب ، قال له: الآن عودوا إلى دياركم، أي عودوا إلى مصر التي نفاكم منها مبارك. في الخطاب الأخير لمبارك وعمر سيلمان سعى كلاهما لخطة جديدة. فبعد التلويح بالقمع والانفراج ، حاولوا سرقة ثورة الشعب المصري. من كان غائبا عن الأحداث وسمع لأول مرة خطابهما ، قد يظن مباشرة أن مبارك وعمر سليمان هما من يقودان الثورة في ميدان التحرير. وعد مبارك بمعاقبة من أراد أن يواجه ثورة شبابنا بالعنف . بل حيّى ثورة هذا الشعب التي تناديه بالرحيل كما لو كانت تمجده. ومع ذلك قال بأن معظم الشعب المصري يعرف من هو مبارك وإن كان بعض من بني وطنه أساؤوا له. بالتأكيد هو يقرأ ويسمع ويشاهد التلفزيون ، لكنه يظن أنه قادر على تغيير القناعات ضده لأن حال الديكتاتورية أنها اعتادت على أن تخالف الحقائق بوقاحة. خطاب مبارك وعمر سليمان يدخل في سياق النكتة السياسية. لكنها هي أسوأ نكتة سوداء صدرت عن مصريين. الكل في مصر يحسن النكتة حتى الديكتاتور ، لكن هذه المرة كنا أمام نكتة سوداء وهي آخر وأبشع نكتة مصرية صدرت حتى اليوم. لا يتمتع الديكتاتور بروح رياضية. ولو مارس هؤلاء بعض أنواع الرياضات لخففوا قليلا من ديكتاتوريتهم. وهنا طبعا لا تفيد بعض الحركات السويدية التي كان يقوم بها مبارك أو بنعلي ، فذلك القدر من الحركة قد يزيد الديكتاتور طغيانا.

ما نخشاه على ثورة المصريين

إذا كان هذا منتهى ما تمتدح به ثورة الشعب المصري ، فإن ثمة محاذير هي الأهم اليوم من كل حديث ؛ لأننا رغم كل ما قلناه في حق هذه الثورة ، نعتبرها ثورة غير مكتملة. ولا شك أن ما حدث حتى الآن في مصر سيكون له تأثير على مستقبل مصر ومستقبل العرب حتى لو نجحت بعض الأطراف في الالتفاف على الثورة المصرية. لكن هناك ما يؤكد أن الذي رحل هو إسم مبارك مع تعديلات موعودة للدستور وتشكيل حكومة منتخبة وغيرها من المشكلات الصغيرة المزمنة في الحياة السياسية المصرية. ما كان يحدث في مصر هو لعبة بمدلولها العلمي والاستراتيجي. في كل خطاب صدر عن حسني مبارك أو نائبه عمر سليمان أو أي بيان صادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية ، لا يوجد شيء إسمه عدم الفهم أو الاعتباطية. كانت الأمور مبنية على قياس حرارة الثورة أولا بأول. بيان يسند بيان وقد جاء قرار التنحية في الوقت المناسب حيث بعدها أصبح الأمر يدعو إلى شكل من الاحتمال والمجازفة. لا زالت واشنطن تتحكم باللعبة، إن لم نقل هي اللاعب الحقيقي ضد ثورة الشعب المصري. فلقد خرج من الحلبة مبارك وتل أبيب التي لا يمكنها أن تتحكم بالقرار المصري إلا بدعم أمريكي. اتصل الكيان الإسرائيلي بطنطاوي للحصول على ما يطمئن إسرائيل وواشنطن بأن لا شيء يمس باتفاقات مصر الإقليمية والدولية. وتحدثت أوساط رسمية من إسرائيل عن عزم إسرائيل إعادة فتح سفارتها في القاهرة. بينما أحمد شفيق يجس النبض بأن موقعا مهما قد يكون لعمر سليمان رجل إسرائيل في القاهرة في الحكومة المقبلة. أما واشنطن فقد اعتبرت موقف الجيش مؤشرا على أنه مطمئن للتحول بمصر إلى الديمقراطية. وكان ذلك كافيا للتساؤل حول دور قيادة المؤسسة العسكرية في هذه اللعبة ، لا سيما وأن تعبير واشنطن عن رضاها عن المؤسسة كافي لإثارة العديد من نقاط الاستفهام. فواشنطن لا يهمها أن ينفرط عقد الدولة المصرية إن كانت عازمة أن يستقر وضعها المقبل على قرار السيادي. فالفوضى الخلاقة هي ابتكار أمريكي بامتياز. وربما لو ترجحت وجهة نظر تل أبيب لواصلت معارك الجمل والحمير والبلطجية مشوارها إلى حدود الحرب الأهلية. لكن يهم واشنطن أن تطمئن لاستمرار التزام مصر بمعاهدة السلام مع إسرائيل ، وبأن قيادة الجيش هي ضامن لذلك. ومع أن موقف الفنان الكوميدي المصري عادل إمام لم يكن مشرّفا لا في أحداث غزّة ولا في ثورة شباب الغضب المصري إلاّ أنه يساعدنا على فهم أن ثورة المصريين لم تجسدها مسرحية "الزعيم" فحسب بل يجسدها أيضا فيلم "السفارة في العمارة". فهل يتطلب الأمر ثورة جديدة على قيادة الجيش لتحرير القرار السيادي لمصر؟! وحتى اليوم لا يزال الضباط الموالون لمبارك هم من يتحكم بالقرار السياسي في مصر. وهم المؤمّنون على الانتقال السلمي للسلطة. وبات الأمر كما لو كانت المشكلة تتعلق بشخص مبارك لا بنظام أرساه مبارك.

حذار من الالتفاف الأكبر على الثورة

الالتفاف الأكبر على الثورة بدأ اليوم. وقيادة الجيش اليوم هي من يقود عملية الالتفاف بمؤازرة مع واشنطن وتل أبيب. لا توجد ثورة في الدنيا تمتلك إسرائيل فيها الجرأة للاتصال مع من شاءت من القيادات الانتقالية اليوم في مصر حول قضايا تتعلق بالسياسة الداخلية أو الخارجية لدولة يفترض أنها تعيش على إيقاع ثورة. حرصي على فهم الأمور بعيدا عن شطط الانفعال ، يدفعني إلى أن أتحدث على هامش الانتصار الكبير لشباب الغضب المصري. لن أغمطهم حقهم معاد الله، فلقد وفقوا إلى ما لم يكن في الحسبان. وإذ نشاركهم فرحتهم وجب أن نصارحهم ليشدوا العزم أكثر ويرفعوا من إيقاع اليقظة إلى أبعد مدى. فالمطلوب اليوم من هذا الشباب المنتفض في ساحات المدن المصرية وشوارعها أن يحمي ثورته ويتمّها وإلا فستكون أكبر سرقة للثورة عرفها التاريخ. وجب أن لا نفرح الفرحة الكبرى ، لأن ما حدث في مصر حتى الآن لا يمثل ثورة كاملة. ورحيل مبارك بهذه الكيفية مع وجود بقايا نظامه لا يطمئن أحدا. والاتصالات الأمريكية والإسرائيلية مع بعض المسئولين المصريين اليوم لا تطمئن. ثمة أشياء ستطبخ على نار هادئة في مصر لفك فسيل الغضب الشعبي. ما حدث ليس ثورة بالمعنى العلمي للعبارة. ذلك لأنها حركة احتجاجية سرعان ما تضخمت ليرتفع معها سقف المطالب إلى منتهاه. لكن ما يبدو من تردد في المطالب والرفع من سقف المطالب بحسب ما تظهره الوقائع يؤكد على أن الثورة فرضت نفسها على الأمة المصرية من دون حتى أن يتخيلها أحد. ولا زالت المطالب ترفع حتى الآن كما لا زالت التظاهرات عقب تنحي الرئيس تأخذ طابعا احتجاجيا يتعلق بطلب تنفيذ انتقال السلطة كما الرفع من الأجور كما تفاصيل أخرى. في علم الثورة ، لا حاجة إلى الاحتجاج حين قيام الثورة التي تعني تغييرا جذريا للنظام. وفي مصر لا زلنا نطالب بالكثير من المطالب قبل أن يبرح مبارك البوابة مغادرا السلطة. بل كانت قيادة الجيش التي تتولى الإشراف على عملية انتقال السلطة قد طمأنت واشنطن وتل أبيب بأنها ستلتزم بكل المعاهدات الدولية والإقليمية. ما حدث في مصر ليس ثورة بل ثورة احتجاجية؛ بتعبير آخر إنها ليست حركة احتجاجية خالصة وليست ثورة خالصة، بل إنها أعلى درجات الاحتجاج وأدنى درجات الثورة. مع الثورة لا يبقى موضوع للاحتجاج. وكما ذكرنا، فإنّ الديكتاتورية ساهمت في تحول الاحتجاج إلى ثورة لأن الدولة التي تمنع الاحتجاج، لا يمكن أن يحدث فيها الاحتجاج دون أن يتحول إلى ثورة. إنه الهروب الجماعي إلى الأمام. لم تعد لمبارك سلطة على الجيش . لكن واشنطن واصلت اتصالاتها بقيادته. وهنا تكمن الطبخة النهائية. لقد ضغط الجيش على مبارك للتنحي عن السلطة. وكانت تلك رغبة واشنطن قبل أن يستفحل الوضع ويزداد غضب المصريين إلى حد تمزيق معاهدة السلام أو حدوث انشقاق في صفوف الجيش المصري. صحيح أن مصر بعد الثورة لن تكون هي مصر قبل الثورة. لكن الدور الإقليمي والدولي لمصر رهين بمدى قدرتها على إتمام ثورتها لتصبح ثورة تحرر وطني أيضا يحرر القرار المصري من أي وصاية دولية أو إقليمية. ستكون معاهدة كامب ديفيد هي الاختبار الأول لحكومة مصر المنتخبة. فيما يكون الاختبار الأعظم لثورة الغضب المصري في مدى قدرة الشعب المصري أن يستكمل ثورته على بقايا النظام لا سيما تلك التي لا زالت تتحكم في المؤسسة العسكرية نفسها. لأن ما حدث في ميدان التحرير هو ثورة شعب وليس انقلابا عسكريا.

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.