ليس هناك من شك أن أخذ المسافة أضحت ضرورية لفهم التطورات التي يعرفها العالم العربي منذ اندلاع ثورة تونس ومصر، فلحد الساعة لا يزال التدافع قائما بين إرادة الثورة، وبين جيوب مقاومة التغيير، أو بعبارة أكثر تحديدا، لا يزال الصراع مفتوحا بين الثورة وما تبقى من مؤسسات النظام الذي تم إسقاط رموزه الرئيسة. ولحد الساعة، لا تزال العديد من الأسئلة تطرح بصدد قدرة الثورة على تحقيق عناوينها وتطلعاتها، وكذا دور القوى السياسية والشعبية في ترتيب مستقبل الوضع السياسي في المنطقة.ولعل من أهم الإشكالات التي لا لم يعمق النقاش حولها بشكل مستفيض الدلالات السياسية لهذه الثورات وموقع الإسلاميين منها ودورهم في صناعتها وترتيب الوضع السياسي بعدها، وقدرة مشاركتهم على التأثير على مستقبل المنطقة. ضمن هذا السياق، وربما استكمالا لأطروحات تبناها بعض الباحثين المتخصصين في دراسة الحركات الإسلامية- فشل الإسلاميين كما هو الأمر عند أوليفي روي- مفقد بدأت بعض التحليلات تنحاز لقراءة الثورات التي اندلعت في العالم العربي من زاوية كونها مؤشرا على ما أسموه «ما بعد الإسلاميين» في هذا المقال التحليلي، سنحاور أن نعرض لهذه الأطروحة كما أسسها بعض ورادها، ونرصد مفهومها، والمؤشرات التي استندت إليها، والعوائق والتحديات التي تواجه هذا المقترب التفسيري، وسنحاول أن نضع عليها جملة من الملاحظات النقدية بهدف تطوير النقاش وإحداث تراكم معرفي وعلمي يساعد في إعادة بلورة مقترب تفسيري يسهم بشكل أفضل في فهم موقع ودور الإسلاميين في الثورة وما بعدها. وسنعرض لهذا المقال لنموذجين لهذه الأطروحة يختلفان في مقدمات الأطروحة - الرصد والتشخيص - وفي المؤشرات وطريقة تأديتها للخلاصات، وأيضا في بعض النتائج، لكنهما معا يحملان نفس المقترب التفسيري الذي يتأسس على رؤية واحدة. النموذج الأول دأت أصول هذه الأطروحة تتشكل لدى عاصف بيات الباحث الإيراني الأصل ، والأستاذ الباحث في الجامعة بالولايات المتحدةالأمريكية، والمدير الأكاديمي للمعهد الدولي لدراسة الإسلام في العالم الحديث، والأستاذ السابق بجامعة ليدن في هولندا، في كتابه «جعل الإسلام ديمقراطياً: الحركات الاجتماعية وتحول ما بعد الإسلاميين « الذي صدر عن جامعة ستانفورد سنة 2007. ففي هذا الكتاب، حاول عاصف بيات أن يؤسس لهذه الأطروحة من خلال التأكيد على المقولات الآتية: 1- المقولة الأولى: في تفسير العجز الديمقراطي في الشرق الأوسط: حيث يرى عاصف بيات أن السؤال الذي كان يطرح دائما هو تناغم الإسلام مع الديمقراطية، ومدى وجود عوائق ديني تمنع تأسيس نموذج ديمقراطي في العالم العربي، وينتقد هذا السؤال ويرى أن الأنسب أن يطرح سؤال آخر يتوجه إلى المسلمين، وليس إلى الإسلام، وهو : كيف وتحت أية ظروف يمكن للمسلمين المتدينين أن يعتنقوا عقيدة ديمقراطية. ويلاحظ عاصف بيات في كتابه أن هناك أكثر من اتجاه في تفسير العقيدة الإسلامية وعلاقتها بالديمقراطية، وقد برزت أولى محاولات تمييزه بين أطروحة الإسلاميين أو على الأقل بعض مكوناتهم والحركات الاجتماعية ذات الخلفية الدينية، من خلال الإشارة إلى وجود توجهات إسلامية تحاول نشر معتقداتها الدينية بتعابير حصرية وتسلطية، ووجود حركات اجتماعية متدينة ترى أن عقيدتها الدينية تدعم قيم العدالة والحرية والتعددية والتمثيلية السياسية. 2- المقولة الثانية: في الحاجة إلى معرفة الحركات الاجتماعية: وضمن هذا السياق يرى عاصف بيات أن الحركات الإسلامية خضعت لدراسات كثيرة، لكن في المقابل لا يعرف الكثير عن ظاهرة الحركات الاجتماعية التي تقدم قراءة جديدة للإسلام تجعله منه دينا ديمقراطيا. 3- المقولة الثالثة: وهي الركن الأساسي في الأطروحة، إذ يرى عاصف بيات في كتابه أن هذه الحركات الاجتماعية تمثل ظاهرة ما بعد الإسلاميين، وأن ميزتها الأساسية كما رأينا في المقولة الثانية هي محاولة الدمج بين التدين والقيم الديمقراطية - المواطنة، الحرية، التمثيلية، التعددية...- وتبني رؤية جديدة مخالفة لرؤية الإسلاميين، تقوم على مبدأ الحقوق بدل الالتزامات، ومبدأ التعددية بدلا من الفردية والاستبداد تحت أي اسم كان، مبدأ التاريخية في مقابل العناصر الثابتة، مبدأ الرهان على المستقبل بدل الارتهان للماضي. 4- المقولة الرابعة: أن هذا الفهم الجديد الذي تحمله هذه الحركات الاجتماعية كفيل بجعلها ليس فقط طليعة ريادية للمجتمع وضاغطة على الدولة، وإنما أيضا بديلا متجاوزا للإسلاميين. وفي ضوء هذه المقولات الأربع المترابطة، حاول عاصف بيات أن يقدم قراءته للتجربة التاريخية للحركات التغييرية في كل من إيران نموذج الحركة الإصلاحية مع محمد خاتمي ضدا على النموذج الثيوقراطي الذي مثلته ثورة رجال الدين المحافظين- ومصر بروز الحركة من أجل التغيير كبديل لحركة الإخوان ذات النزوع المحافظ لمواجهة الاستبداد السياسي- ويرى عاصف بيات أن كلا من الحركة الإصلاحية في إيران وكذا الإخوان المسلمون لم ينجحوا في إدخال الديمقراطية إلى إيران كما لم ينجح الإخوان في مصر في فرض الإسلامية على الدولة، ووجهت الحركتان بعنف من قبل السلطة السياسية في البلدين. واستكمالا لفقرات هذه القراءة التاريخية، وضع عاصف بيات السؤال المركزي الذي جعله - في مرحلة لاحقة - محور مقتربه التفسيري في أطروحته ما بعد الإسلاميين، ويتعلق الأمر بسؤال: إلى أي حد يمكن للحركات الاجتماعية، دون اللجوء للثورات العنفية، أن تغيّر الوضع السياسي السائد في الشرق الأوسط، والذي يتميز من جهة بهيمنة الأنظمة الاستبدادية ومن جهة ثانية بهيمنة المعارضة الإسلامية الحصرية، ومن جهة ثالثة بهيمنة القوى الأجنبية على المنطقة؟ ما بعد الإسلاميين - في سنة 2008، كتب عاصف بيات مقالا حول مستقبل الحركات الإسلامية في العالم العربي كان عبارة عن ذيل على كتابه ، إذ اعتبر في هذا المقال بأن التجربة الإيرانية ستكون الثورة الإسلامية الأولى والأخيرة في زماننا الحاضر، وأن تنامي الحساسيات والحركات الديمقراطية في الشرق الأوسط يمكن أن يدفع إلى التفكير في مرحلة ما بعد الإسلاميين وتدشين خط جديد نحو تغيير ديمقراطي يمكن أن يلعب فيه الإسلام دورا رئيسيا. - وفي مقالته التي نشرها مؤخرا في مجلة شؤون خارجية عدد 26 أبريل 2001 ، كما في مقاله معضلة الثوراحات العربية (يقصد الثورات الإصلاحية)، استثمر عاصف بيات لحظة الحراك الديمقراطي في العالم العربي واندلاع الثورة في كل من تونس ومصر ليجعل من هذه الأحداث الإطار الداعم لمقولاته التي أسس لها في كتابه «جعل الإسلام ديمقراطيا» وفي ملأ كثير من الفراغات التي لم يستكملها، وفي تقديم تفسير أشمل لما يسميه ظاهرة ما بعد الإسلاميين. في توصيف الثورات العربية وتفسيرها: يسوق عاصف بيات التفسيرات المختلفة التي قاربت الثورات العربية، ويرى أنها لا تخرج عن: 1- تفسير يرى أنها ثورات ما بعد الحداثة اندلعت من غير قيادة ولا إيديولوجية محددة. 2- تفسير يرى أنها الموجة الجديدة للثورات الليبرالية والديمقراطية. 3- تفسير أكثر شيوعا يرى أنها ثورات شبابية قام الشباب بالدور الرئيسي فيها 4- تفسير رابع يرى أن هذه الثورات يمكن أن تكون ثورات للإسلاميين وأنها ستدفع المنطقة إلى أن تصبح مجالا للحكم الثيوقراطي على شاكلة إيران. 5- تفسير خامس، تتبناه القيادات الإيرانية المحافظة، ترى أن هذه الثورات هي مستوحاة من الثورة الإيرانية التي قامت في إيران سنة 1979. وفي مناقشته لهذه التفسيرات يرى عاصف بيات أن الفصائل الدينية وإن انخرطت في الاحتجاجات التي عرفتها البلدان العربية- حركة النهضة في تونس، الإخوان المسلمون في مصر وسوريا، والمعارضة الإسلامية في اليمن ..- لكن هذه الثورات - في اعتقاده- تجاوزت سياسات الإسلاميين التي تم سادت في المنطقة على لسنوات القليلة الماضية. - وفي مقاله الثاني، يعرض عاصف بيات لمفهوم الثورة ولتجاربها في العديد من البلدان، ويقارنها بنا حصل في تونس ومصر، ويخلص إلى أن الثورات العربية لا يمكن أن نصطلح عليها اسم ثورة ولا اسم إصلاح، وإنما هي ثورات ما بعد الإسلاميين تتميز بكونها تمزج من جهة بين الإصلاح والثورة وبين التدين والالتزام بالقيم الديمقراطية. في مفهوم ظاهرة ما بعد الإسلاميين في تحديده لمفهوم ما بعد الإسلاميين يرى عاصف بيات أن هذه الثورات لا تعني أنها ضد الإسلاميين أو أنها مرحلة علمانية، وإنما «ما بعد الإسلاميين»، هي حركة تتمسك بالدين لكنها تركز وتدافع عن حقوق المواطنة. إنها في بحسب عبارته «حركة تطمح إلى مجتمع تقي داخل دولة ديمقراطية». في التأصيل التاريخي للمفهوم أو في النماذج والسوابق التاريخية يعتبر عاصف بيات في تحليه أن مقاله ب»شؤون خارجية» أن هناك أمثلة سابقة لمثل هذه الثورات، ويورد في هذا السياق حركة الإصلاحيين في إيران في أواخر 1990، وحركات الخضر في العديد من البلدان، وحزب العدالة والرخاء في إندونيسيا، وحزب الوسط في مصر، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وحزب العدالة والتنمية في تركيا. ويرى أن كل حزب من هذه الأحزاب كان في الأصل حزبا أصوليا لكن مع الزمن قام بعملية نقد لمقولات الإسلاميين خاصة فيما يخص انتهاك القيم الديمقراطية واستعمال الدين كسلطة مقدسة في السياسة، وفي نهاية المطاف اختارت هذه الأحزاب العمل من داخل الدولة الديمقراطية. واعتبر عاصف بيات أن هذه الاحتجاجات التي انطلقت في شكل ثورات هي حصيلة الجهود الأولى التي تندرج ضمن مرحلة ما بعد الإسلاميين. ويلاحظ في رصده للخطاب الذي رافق هذه الثورات أن المفردات الدينية كانت غائبة على الرغم من أن معظم المشاركين في هذه الثورات في الشرق الأوسط يعتبرون من المتدينين. ويقدم في هذا الصدد مثال تونس، التي كان الهدف المركزي للمحتجين فيها هو تأسيس حكومة ديمقراطية- راشد الغنوشي مؤسس الحزب الإسلامي الرئيسي في تونس - حركة النهضة - رفض في تصريح رسمي أسلوب دولة الخميني وأعلن أنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية في المستقبل- ثم يقدم مثال مصر التي طالبت الثورة بالتغيير والحرية والعدالة الاجتماعية، وكانت - حسب الباحث -أكثر علمانية. ويسجل عاصف بيات في المثال المصري أن أغلب المجموعات الدينية - جمعية أنصار السنة المحمدية، والحركة السلفية التي تتحكم في 500 مسجد وتشرف على عدد من المدارس والجمعيات، الأزهر المؤسسة الإسلامية الرئيسة، والكنيسة القبطية، لم تساند في البداية الثورة، بما في في قيادة الإخوان المسلمون في مصر، لم تنضم إلا عن مضض بعد أن تم دفعها من قبل أعضائها من الشباب للانضمام إلى الثورة. ويرى في المثال الليبي أن حركات التمرد في ليبيا والحكومة المؤقتة، المجلس الوطني ليس مكونا من الإسلاميين ولا من أعضاء القاعدة، ولكن من خليط من العلمانيين والمتدينين، حيث يضم دكاترة ومحامين وأساتذة ومستقيلين من النظام الليبي وناشطين يعملون من أجل إنهاء حكم نظام القذافي، وأن وجود الإسلاميين قليل بسبب القمع الذي مارسه عليهم. نفس الأمر، يضيف الباحث، حصل في اليمن وسوريا، حيث المحتجون يطالبون بالديمقراطية، وليس هناك أي دليل على وجود رئيسي للإسلاميين في هذه الانتفاضات. وفي البحرين، يرى عاصف أن الاحتجاجات اتخذت شكلا طائفيا بحكم أن النظام سني وحركة المعارضة تمثل الشيعة، لكن التيار الغالب في المعارضة لا زال يحمل بشكل واسع المطالب العلمانية. مثل حكومة منتخبة، وحرية الصحافة، والحق في تأسيس الجمعيات والمنظمات، وإنهاء التمييز الديني. ويخلص الباحث إلى هذه الثورات المدنية العلمانية تمثل من جهة قطيعة مع السياسات العربية في منتصف الثمانيات وفي التسعينيات، وقطيعة مع فكرة إقامة الدولة الإسلامية التي ظلت تستهلكها الحركات الإسلامية في خطابها، وتمهد الطريق لها عبر طرحها لفكرة بناء مجتمع إسلامي يتبنى الإيديولوجية الإسلامية، ويتم من خلاله معالجة الاهتمامات العلمانية. في تفسير نشوء ظاهرة ما بعد الإسلاميين يرى الباحث أن الدول العربية الاستبدادية ألقت من غير قصد بذور زوالها، ففي فترة الثمانينيات والتسعينيات، ومع تنامي الساكنة الحضرية، تنامت أيضا المطالب من أجل الحقوق، وبشكل خاص من أجل تحسين الأجور وضمان فرص الشغل والسكن اللائق... وبطبيعة الحال، فإن اقتصاديات هذه الدول لم تواكب هذه المتطلبات المتنامية. وخلال الثمانينيات، هزت أحداث الشغب المدن الكبرى في الدول العربية. وبدلا من الاستجابة لهذه المطالب الشعبية، فإن الدول العربية تابعت السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، وهذا ما دفع قطاعا واسعا من الجمعيات الدينية والمنظمات غير الحكومية للاضطلاع بالمساعدة الاجتماعية، ولم تستطع هذه الترتيبات أن تخفف من درجة الفقر والفوارق الاجتماعية في مجتمعات دول الشرق الأوسط. في الواقع- يتابع الباحث - لقد ساهمت هذه السياسة الاقتصادية الجديدة في مزيد من فقر الطبقات الفقيرة وفي تهاوي الطبقة الوسطى وتهميش دورها وتزايد الهوة بين الفقراء والأغنياء. وفي العقدين الأخيرين، يلاحظ الباحث أنه توسع فقر الطبقات الوسطى مما دفع إلى حصول تناقض داخلها، فهي تحظى بتعليم جيد، وتتمتع بالاتصال مع بقية العالم، وتستخدم النماذج الرقمية في عملية التواصل، وتتطلع إلى أسلوب حياة الطبقة الوسطى، إلا أنها أجبرت على العيش في الفقر مع احتمالات قليلة لتحسين شروط عيشها. ونفس الشيء حصل بالنسبة إلى الطبقات الفقيرة، إذ وجد الكل نفسه في خضم النضال من أجل تحسين ظروف العيش، بما في ذلك العديد من النساء المسلمات اللواتي كن يناضلن من أجل تأكيد حضورهن في المجال العام، والالتحاق بالمؤسسات التعليمية، وتحقيق العدالة والمساواة في المحاكم. وكذلك الشباب نسوا الهويات الجماعية وصاروا يحالون تأكيد استقلاليتهم وتحقيق التغيير السياسي عبر انخراطهم في المجتمع المدني والعمل التطوعي. ويرى الباحث أنه رغم كل هذه الجهود التي لم يكن عمرها طويلا، إلا أن الشباب لم يمثلوا تهديدا للأنظمة إلا في منتصف سنة 2010 وذلك حين سهلت المواقع الاجتماعية تحركهم الجماعي ضد النظم الاستبدادية الراسخة. ويعتبر الباحث في قراءته أن التحدي الأكبر في فترة التسعينيات كان بالنسبة إلى الأنظمة السياسية في العالم العربي هو معارضة الإسلاميين الذين كانوا مساندين من قبل الطبقة الوسطى الفقيرة. لكن - يضيف الباحث- بدأ الإسلاميون يفقدون جاذبيتهم إلى حد كبير، كما فقد النموذج الإيراني للثورة بريقه. وإضافة إلى العوامل المفسرة التي ذكرها الباحث، فإنه يرى أن سمعة الأنظمة القمعية، وكرهها النساء، ومواقفها الإقصائية، وعدم الوفاء بالوعود التي قطعتها مع الجماهير ، كان أيضا عاملا محددا إذ كان سببا في حصول تذمر الجماهير بل وحتى القوى المساندة للنظام. واستكمالا لحلقات تحليه، يرى الباحث أن عنف تنظيم القاعدة تسبب في رد عنيف للمسلمين العاديين الذين رأوا في ممارساتها خروجا حقيقيا عن الروح الحقيقية للإسلام، وصار عدد كبير من المتدينين في العالم العربي يعتقد عدم احترام الإسلاميين للتسامح والتعددية وحقوق الإنسان كما صاروا يرفضون استغلال الإسلام كأداة للوصول إلى السلطة والحصول على امتيازات. وفي نفس الوقت، يضيف الباحث مستندا آخر يدعم به أطروحته، فإن الطبقة السياسية أدركت أن هويتها القومية المناهضة للامبريالية والمساندة للفلسطينيين ستتعثر طالما أنها مرتبطة بالحطابات الديماغوجية للأنظمة الاستبدادية وأن الخطوة التالية التي تنتظرها هي التركيز على المفتاح الداخلي في القضية: الديمقراطية. تحديات في طريق حركة ما بعد الإسلاميين: بعد أن يحفر في البدايات الأولى لنشأة حركة ما بعد الإسلاميين خاصة في مصر، يطرح تحديا كبيرا على هذه الحركة يتعلق بمدى قدرتها على المحافظة على رؤيتها بعد أن يخف حماس الثورات الحالية لاسيما وأنه هناك إمكانية لإعادة بعث الأصولية من جديد ويعتبر أن التحدي السلفي يبقى قائما لاسيما وأنهم يستطيعون أن يحشدوا بعض الدعم من خلال التركيز على المسائل الدينية والأخلاقية. وللإجابة على هذا التحدي، يرى عاصف بيات أن الديمقراطيين سواء كانوا متدينين أو علمانيين لهم مهمة ثقيلة تنتظرهم، تتمثل في التأصيل للقيم الديمقراطية من خلال الكتب لاستقطاب الناس العاديين ومنع السلفيين من حشد الدعم الجماهيري ضد التجربة الديمقراطية الناشئة. أطروحة بيات تعاني من أعطاب حقيقية تعاني أطروحة عاصف بيات « ما بعد الإسلاميين» من أعطاب حقيقية تتعلق بالصياغة أولا، وبتحديد المفهوم ثانيا، وبالتأصيل ثالثا، وبارتباك المؤشرات رابعا، وباستبعاد غير مفهوم لبعض عناصر السياق رابعا، وبنظرة انتقائية للفاعلين، ثم أخيرا بتغييب كامل لدراسة التفاعلات الحاصلة بين الفاعلين ودورها في عملية الفهم والتفسير - نشأة الثورات وتفسيرها- وكذا عملية التركيب - بناء ألأطروحة التفسيرية. الملاحظة النقدية الأولى: أعطاب في الصياغة: في كل كتاباته، لاسيما في كتابه «جعل الإسلام ديمقراطيا» سنة 2007، ومقالاته التي توالت بعد هذا الكتاب في التأسيس لأطروحته وإسنادها بالمؤشرات الكافية، كان الباحث يخلط بين وظيفة الرصد والتحليل، وبين إعلان النوايا والرغبات، فقد كان كثيرا ما يشعر القارئ بأنه لا يرصد الوضع كما هو، ولا يضع المؤشرات الكافية التي تسند اختياره الاستشرافي، بقدر ما يعبر عن رغبته في أن يؤول إليه الوضع، أي أنه كان يصوغ أطروحته بطريقة أشبه ما يكون فيها يدعو إلى تجاوز الإسلاميين والتأسيس لحركة بديلة عنهم. فكثير من عباراته، كانت تصاغ بطريقة نضالية وليست بحثية، ومن ذلك حديثه في خاتمة مقاله بشؤون خارجية عن مهمة الديمقراطيين :» إذا كان بإمكان السلفيين أن يحشدوا الدعم الجماهيري حولهم ويؤصلوا لمعتقداتهم من داخل الكتب، فإن الديمقراطيين مدعوين للقيام بنفس الجهد للتأصيل للقيم الديمقراطية واستقطاب مزيد من الناس حولهم». الملاحظة الملاحظة النقدية الثانية: أعطاب في تحديد المفهوم: يتمثل هذا العطب في مفهوم ما بعد الإسلاميين، وهل يتعلق الأمر بحركة بديل عن الإسلاميين تتجاوز منطقهم الفكري والسياسي، أم يتعلق الأمر بتحولات داخل الإسلاميين، أم بحركة شعبية يعتبر الإسلاميون جزءا فيها لكنه غير مؤثر عليها، أم يتحدد المفهوم بصيغة فكرية مضمونها افتراض وجود حركة تمزج بين الإسلام والديمقراطية تتسع لمجموع المكونات التي تتبنى هذه الصيغة. إن المتابعة الدقيقة لأدبيات هذا الباحث، تكشف وجود ارتباك كبير يمكن أن نبرز بعض معالمه كما يأتي: - فمن جهة، يعتبر بعض مكونات الإسلاميين في المغرب وتركيا وإندونيسيا ومصر البوادر الأولى لما بعد الإسلاميين، ومن جهة ثانية، يعتبر أن ميزة ظاهرة ما بعد الإسلاميين هي أنها حركة تجاوزت الإسلاميين وقطعت مع منطقهم العقائدي الذي يمارسون السياسة في ضوئه. إن التحولات أو بالأحرى المراجعات التي دشنتها مكونات عديدة من الحركات الإسلامية لا تجعلها بالضرورة خارجة عن الإسلاميين، وإنما هي تعبير عن تطور فكري يحصل في كل الحركات دون أن يخرجها عن هويتها العقائدية والسياسية، ومن ثمة، فإن إدماج هؤلاء الإسلاميين ضمن حركة ما بعد الإسلاميين يحدث خلال في المفاهيم لا يمكن تفهمه. - فمن جهة، يرى يرى أن الثورات العربية تؤشر لبروز حركة ديمقراطية تتجاوز الإسلاميين مع أن الإسلاميين شاركوا في هذه الثورات وكانوا عنصرا أساسيا في صناعتها لاسيما في مصر، ومن جهة أخرى، يرفع تحديا أساسيا يتمثل في عودة الإسلاميين بقوة. فكيف يمكن أن تتشكل حركة تاريخية لها جذور في التاريخ حسب الباحث، تتمتع بأعلى مستويات المصداقية الجماهيرية، وفوق ذلك لا تشكل تحديا للمعتقد الديني ما دامت تمزج بين الإسلام والديمقراطية، كيف يمكن لهذه الحركة بهذه المواصفات - تبعا لمنطق الكاتب - أن تواجه تحدي عدم القدرة على المحافظة على رؤيتها وتحدي عودة الإسلاميين من جديد، مع تأكيده أكثر من مناسبة على استنفاذ أطروحة الإسلاميين الفكرية والسياسية لأغراضها. - فالكاتب يعتبر أن السؤال الراهن ليس هو بحث علاقة الإسلام بالديمقراطية، وإنما هو تحديد مدى قدرة المتدينين على تبني القيم الديمقراطية والقيام بدور تاريخي من أجل تجاوز العجز الديمقراطي يف الشرق الأوسط، ثم في نفس الوقت يدعو الحركة الديمقراطية أن تقوم بمهمة التأصيل للقيم الديمقراطية من داخل الأدبيات الشرعية الإسلامية لمواجهة التحدي السلفي، ثم يركب تناقضا آخر حينما يعتبر أن المتبنين لبعض المفاهيم الديمقراطية - كالمواطنة والتعددية والتمثيلية وغيرها - علمانيين. إن هذا الخلط المفاهيمي يبرز بشكل كبير حين يتعلق الأمر بإسلاميين وبجماهير شبابية مشاركة في صناعة الثورة يتبنون القيم الديمقراطية لكنهم يعلنون أنهم ليسوا علمانيين. إن هذا الخلط يستدعي من الباحث إعادة بناء المفاهيم بشكل أكثر يرفع الالتباسات، لاسيما وهناك قراءات عديدة تستوعب القيم المفاهيم الديمقراطية دون أن تضطر إلى الانطلاق من الأرضية العلمانية. إن هذا الخلل المفهومي يقود إلى خلافات مفصلية قد تصل إلى حد التنافر في الخلاصات بين من يعتقد أن الثورات العربية هي ثورات إسلامية ديمقراطية، وبين من يعتبر أنها ثورات علمانية ديمقراطية، في حين أن الرصد الموضوعي لتطورات الحدث يبرز ألا جديد في الخطاب الفكري والسياسي للحركات التي قادت الثورات، إذ أنها حملت نفس العناوين التي كانت القوى السياسية - لاسيما منها الإسلامية - تحملها، وأن الجديد يوجد في مكان آخر غير الخطاب، سنكشف عنه في ملاحظة نقدية لاحقة. - الملاحظة النقدية الثالثة: وتتعلق بالتأصيل: وقد أشرنا إلى بعض عناصرها، فقد مثل الباحث لبدايات ومؤشرات بروز حركة ما بعد الإسلاميين بحركات إسلامية تندرج في العادة ضمن خانة الإسلاميين، في حين أن مقصد المقالة أو الكتاب من الناحية البحثية هو كشف مسار تشكل الحركة التي ستتجاوز الإسلاميين. ثم إنه باستثناء حالة مصر، التي أشار فيها ضمنا إلى حركة كفاية- وهي على أية حال تضم من بين مكوناتها إسلاميين - لم يستطع أن يسوق مثالا خارج إطار الحركات التي تنتمي إلى الحركة الإسلامية، وتقدم رؤيتها السياسية من نفس قاعدتها المرجعية الإسلامية. - الملاحظة الرابعة: وتتعلق بارتباك المؤشرات ويظهر ذلك بشكل بارز في تفسير محددات تشكل حركة ما بعد الإسلاميين وتفسير مشاركة الإسلاميين في الثورة، إذ لا يفهم السبب الذي دعا الباحث إلى التقليل من حجم ودور الإسلاميين في صناعة هذه الثورات، مع أن المعطيات تؤكد دورهم المفصلي خاصة في مصر إلى درجة صدور مواقف دولية، وكتابات تحذر من استيلاء الإسلاميين على السلطة بسبب تموقعهم ضمن المكونات القائدة للثورة، كما لا يفهم أيضا ادعاؤه غياب الخطاب الديني في هذه الثورات، مع أن المفردات والخطابات الدينية - خطب الجمعة -، بل واللحظات الدينية التعبدية - صلاة الجمعة -كانت حاسمة، بل إن الاختيار الرمزي ليوم الجمعة يستدعي التوقف كثيرا على الدلالات ومراجعة الأحكام التي يرجى من خلالها فقط التأكيد على فكرة مستقرة في الذهن - فكرة علمانية الثورة - لا تتمتع بأي تحقق في الواقع. ولعل ما يزيد هذه المؤشرات ارتباكا، هو ما يتعلق بالمؤشر الفكري الذي كان حاسما في هذه الأطروحة - أي قضية المزج بين الإسلام والديمقراطية - فهذا الأمر ليس فيه أي جدة، ولا يمكن بحال نسبة انبثاقه إلى الثورات العربية، وإنما هو ثمرة لجهود فكرية وممارسات سياسية طويلة - انطلقت لأكثر من ثلاثة عقود - وأدت فيها الحركات الإسلامية والقيادات الفكرية والسياسية المرتبطة بها دورا محوريا في بلورتها. - الملاحظة الخامسة: وتتعلق بالانتقاء والاستبعاد، فمما كان ملاحظا في هذا التحليل عدم الإشارة إلى الدور الأمريكي والدور الأوربي في دعم الأنظمة وفي عرقلة أو على الأقل إبطاء تجربة الاندماج السياسي للإسلاميين لاسيما في مصر التي يحرص الباحث على جعل الإخوان المسلمين فيها نموذجا للانغلاق العقدي والسياسي. إن التحليل الذي يستبعد المعامل الخارجي في فهم خطاب الإسلاميين وسلوكهم السياسي أو في فهم الثورات أيضا، لا يمكن أن يقدم جديدا، ولا يمكن أن يكون مقنعا، فلا يفهم سلوك الباحث وهو يغفل دور المعامل الخارجي في تحجيم دور الإسلاميين وإعادة ترتيب الوضع السياسي في المنطقة، ولا يفهم ايضا سلوكه في استبعاد التفاعلات القائمة بين المكونات الثلاثة البارزة في المجال السياسي : المعامل الخارجي دوليا أو إقليميا- النظم السياسية - الحركات الإسلامية، والتي كان لها بدون شك دور في تفسير سلوك الإسلاميين قبل الثورة - تريث- وأثناءها - أشكال المشاركة والتأطير، وبعدها - صياغة الموقف بشأن حجم المشاركة ودورها. إن هذه الأسلئة لا تحدد بمقاربة المعامل الفكري - مزج الإسلام بالديمقراطية- وإنما تحدد بمقاربة نسقية تدرس مدخلات الفاعلين ومخرجاتهم ضمن السياق السياسي بالشكل الذي تسهم في تقديم رؤية موضوعية. لقد كان واضحا في مقاربة عاصف بيات، غياب المعامل الخارجي في التفسير، واستبعاد التفاعلات التي حصلت والتي كانت حاسمة في تفسير سلوك الفاعلين السياسيين، كما كان واضحا حضور اعتبارات ومواقف فكرية أو نفسية لم يتردد الباحث في إعلانها في أكثر من مناسبة. إن هذه الملاحظات النقدية، تطرح أسئلة عميقة على أطروحة ما بعد الإسلاميين، وتؤكد بأنها أطروحة لم تستطع أن تؤسس مفرداتها ومقولاتها بشكل مقنع، كما أنها لم تقم على نتائجها مؤشرات قادرة على الصمود أمام الاعتراضات العلمية، وفوق ذلك لا تتيح قدرتها التفسيرية الاستشراف بعيدا، أن أول وأكبر تحدي وضعتها أمامها هو نقيضها عودة الإسلاميين- وهذا عطب مفصلي يستدعي من الأطروحة أن تقوم بجهود استثنائية من أجل إعادة بنائها وتركيبها.