الكتاب هو من أهم الكتب إن لم يكن أهمها التي تعرضت لقضية الديموقراطية في الفكر والممارسة الناصرية إبان تشييد المرتكزات الأساسية للمشروع النهضوي العربي الذي قاده جمال عبد الناصر خلال الفترة من 1952 إلى 1970 . وهو الكتاب الذي تضمن عرضاً واضحاً ومفصلاً للمنظور الناصري للديمقراطية .. وكيف أن هذا المنظور قد جاء مميزاً ومتمايزاً فيما قد تعلق بالسلطة والثروة والجماهير ، عن المنظور الليبرالي ، وعن المنظور الماركسي ، وعن منظور الإخوان المسلمين .. إن في فكر كل منهم ، أو في ممارسته .. وقد كانت تلك هي المدارس الفكرية وأوعية الحراك السياسي التي جاءت المدرسة الناصرية ووجدتها على الساحة في مصر والوطن العربي ، وكان أن كشفت الناصرية عن واكتشفت عجز تلك المدارس عن التعبير عن جماهير الشعب و الإنحياز لها .. فلم يكن أمامها إلا أن تبتدع طريقها الخاص لتحقيق ذلك الإنحياز الصريح والمعلن للأغلبية الساحقة الغائبة من الجماهير .. فكراً وممارسة . إن الكتاب يمثل كما يقول ناشره " صرخة الحق في وجه الباطل الذي يحاول البعض إلصاقه بثورة عبد الناصر من مواقع مختلفة ، وبدوافع مختلفة ، إنه كتاب للملتزمين بقضية هذه الأمة عن وعى وإيمان " .والكاتب .. هو واحد من أبرز مشاعل الإستنارة والتحريض في الفكر القومي العربي ، والذي تمنطق وعيه بأهمية أمته ، ودورها الحضاري والتاريخي ، وحقها في مستقبل هي خليقة به وتستحقه .. وأهمية أن يتعرف شبابها على معالم طريقهم إلى مستقبل أمتهم .. وإدراكه . وبعد أن تمنطق وعيه هذا ، أوقف عمره كله لينقله إلى شباب هذه الأمة وشيبها ، وليدعوهم إليه .. ويحرضهم عليه . بذلك يكون الكاتب هو الدكتور عصمت سيف الدولة .والمكتوب عنه .. هو جمال عبد الناصر حسين السيد عثمان ( وهذا هو إسمه بالكامل ) .. فيض من النبالة والبطولة والشرف وصدق الإنتماء ، هبط على هذه الأمة في لحظة هي الأخطر والأهم في كل تاريخها الحديث وحتى كتابة هذه السطور على الأقل . رجل ليس أصدق ما يقال في حقه ، من تلك العبارة التي نقشت على الجرانيت الذي جلب من أسوان ليغطى قبره " رجل عاش من أجل أمته واستشهد في سبيلها " .إنه الذي استحضر في وعيه ووجدانه وإبصاره وبصيرته ، مجد أمته وحقها في الحاضر وفي المستقبل ، وعقد العزم على أن يقود أبنائها الغائبين والمهمشين والمسحوقين لانتزاع حقهم المشروع في الحياة ، من الذين اعتدوا ونهبوا واستغلوا .. وتعالوا وخانوا .. ووافقته الجماهير وساندته وسندته ، في نضاله النبيل لانتزاع هذا الحق من مغتصبيه إن اختياراً أو جبراً . واختار أعداء الأمة الجبر .. وكان عبد الناصر وأبناء الأمة لها ، فدارت دورة نضال وكفاح مرير وعنيف .. بقدر ما كان نبيلاً وشريفاً .. و قدوة لكل الشعوب المغلوبة والمقهورة والساعية لانتزاع حقها في الحياة ، على طول الأرض وعرضها .( 2 )وفي أتون عملية النضال من أجل إرساء مرتكزات المشروع النهضوي العربي ، لم يتردد عبد الناصر في أن ينحت بالفكر والممارسة مفهومه الشامخ والصحيح للديمقراطية ، باعتبارها تلك المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا بد أن تنتج حرية الوطن ، وأن تنتج العدل الإجتماعى .. وأن تنتج وحدة الأرض والتاريخ والبشر والإمكانات العربية . وأن ذلك لن يتحقق إلا باستحواذ الأغلبية الغائبة والمسحوقة على السلطة والثروة .. لتصنع بهما قرارها الذي يحقق مصالحها في الحرية والاشتراكية والوحدة .وكان هذا المجال تحديداً مفهوم الديمقراطية هو مجال الاتفاق المطلق بين القائد الذي قاد مشروع النهضة ، وهو جمال عبد الناصر .. وبين المثقف الذي عاش في ثنايا هذا المشروع ، ورأى جموع الجماهير وكان معها وهي تشيده ، فتوحد مع أهدافه ومنجزاته ، وألهمه المشروع ما ألهمه ، فاجتهد في أن يصيغ له أسساً نظرية بعد أن كان قد أصبح واقعاً عملياً على الأرض .. وهو الدكتور عصمت سيف الدولة ، وغيره من المفكرين القوميين الكبار ، الذين ساروا في طابور الفكر القومي الطويل .( 3 ) هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟يحدد الدكتور عصمت سيف الدولة " تشريعاً " يتعين على كل من يريد " محاكمة " عبد الناصر الالتزام به ، كشرط حاكم ، لإقامة العدل والمنطق والموضوعية في " المحاكمة " ، باعتبار أن أي محاكمة بلا تشريع ، ليست إلا صراعاً في غابة ، يخرج عن أي ضابط أو مرجعية من أي نوع .. ويستطيع فيها الحاضر أن ينهش لحم الغائب ، ليس بقوة المنطق والوقائع ، ولكن فقط بضعف الغياب .. فيقول :" ... فدعونا نتفق من الآن على أمرين : الأول .. أن يحاول كل منا ، وبقدر ما يستطيع ، أن يحتفظ لنفسه بأحكامه على مشكلة الديمقراطية أو على عبد الناصر .. إلى أن ينتهي الحديث على الأقل ... فليس أسخف من القول ( لو كنت مكان عبد الناصر لفعلت كذا .. ) إلا القول ( لو كنت عبد الناصر لفعلت كذا .. ) فلا أحد غير عبد الناصر كان في مكانه . وعبد الناصر الذي مات لا يتكرر .الثاني .. إذا لم تكن الحيدة ممكنة فعلى كل واحد أن يحدد موقفه من حرية وطنه قبل أن يحدد موقفه من حريته الشخصية . وقبل أن يتشدق أي واحد منا بالكلمات الكبيرة عن الديمقراطية ، عليه أن يختار بين الاستقلال وبين التبعية . لقد اختار عبد الناصر قائد ثورة يوليو حرية الوطن واستقلاله منذ البداية . وقضى وهو في ميدان معارك التحرر العربي ، وسيكون على أي منصف مهما يكن اختياره ، أن يتتبع تاريخ الرجل مع مشكلة الديمقراطية في مصر ، إنطلاقاً من البداية التي اختارها الرئيس الراحل .. إلى النهاية .ثم يبدأ الدكتور عصمت عرض مساجلات المحاكمة ، فيقول في حسم : " ... أما الذين لا يرون علاقة بين معارك التحرر الوطني ومشكلة الديمقراطية فهم جاهلون . وأما الذين يرفعون أصواتهم فوق صوت المعركة ، هاتفين للديمقراطية ، فهم يريدون أن ينسحبوا من المعركة تحت غطاء الدعوة إلى الديمقراطية ، إنهم يريدون نفاقاً أن يقال عنهم ديمقراطيون ، بدلاً من انهزاميين . ولقد طالت يستطرد الدكتور معارك التحرر الوطني التي خاضتها ثورة 23 يوليو تحت قيادة عبد الناصر ، حتى كادت أن تستغرق كل حياتها ، وأثرت في مشكلة الديمقراطية وحلها ... وقد فرضت تلك المعارك حدوداً للحرية على الثورة وجمال عبد الناصر ... وقد واجه عبد الناصر مشكلة الديمقراطية داخل نطاق تلك الحدود ، لم يستطع ، ولم يرغب في أن يتخطاها ، بدون إنكار لأثرها على المشكلة وإمكانات حلها . فما هي يسأل الدكتور تلك الحدود ؟ " .وعلى الفور يجيب : " الإصرار على الوحدة الوطنية ، وعدم السماح بأي صراع اجتماعي حاد ، أو سياسي عنيف ، أو أية انقسامات في الجبهة الداخلية . وقد أثر هذا في موقفه من الأحزاب التي لم يسمح بتعددها أبداً ، بالرغم من أنه كان يتوقع نشوء الأحزاب وتعددها في مصر ، ولا يعترض عليه ...( 4 ) استمرار حالة الطوارئ ، بما يستدعيه ذلك من تركيز السلطة ... صعود القوات المسلحة إلى المركز الأول من مراكز القوى في الدولة ، على أساس أنها المسئول الأول عن سلامة الوطن ... تضخم أجهزة الأمن الداخلي ( أمن الدولة ) والخارجي ( المخابرات العامة ... خضوع الإعلام ووسائله ... لمقتضيات معارك التحرر .. وليس من بين وظائف الإعلام ، خلال الصراع من أجل التحرر الوطني ، أن يتطوع بوضع الحقائق الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو العسكرية ، تحت تصرف أجهزة الاستماع المعادية . بل من وظائفه أن يذيع وينشر ما يخدم معركته الوطنية " .ويدلل الدكتور سيف الدولة على صحة ذلك بأمثلة ذكر منها : " بلغ مجموع السفن الألمانية التي أعلن الحلفاء إغراقها في الحرب الأوربية الثانية ، أضعاف أضعاف ما ملكته ألمانيا من سفن في كل تاريخها منذ غزوات الفايكنج .. وخاضت مصر وسوريا حرباً إعلامية مدعومة فكرياً وسياسياً وإحصائياً ، استمرت عاماً ، ثم انتهت في لقاء في أقل من خمس دقائق ... " . تحمل الاقتصاد الوطني أعباء المعارك التحررية اقتطاعاً من بنية اقتصادية ضعيفة أصلاً ... ولقد أصبحت تكلفة المعارك أبهظ من أن تطيقها الدول المتقدمة اقتصادياً ... " .ورغم هذا الفهم الرفيع ، الذي يقدمه الدكتور في طول الكتاب وعرضه ، لوضع الديمقراطية في أوقات تعرض الأوطان للخطر ، فإنه يورد فقرة لا نوافقه عليها ، لأن معناها يصب في خانة الطقوس الديمقراطية الغربية الشكلية ، التي يصدرونها لنا ويلزمونا بها وهم غير مقتنعون بها ، ولا يلتزمونها . وهو شخصياً الدكتور من أشد الرافضين لتلك الطقوس ، بدليل قصة سفن ألمانيا في الحرب العالمية الثانية التي أشار إليها منذ لحظة . ونضيف نحن .. سفنها وطائراتها أيضاً ، حيث كان تشرشل الذي لا يوجد بريطانى في كل تاريخ بريطانيا ، من هو أكثر منه شهرة ولا أكبر منه مكانة .. كان أثناء نفس الحرب قابعاً في مخبئه تحت الأرض ، ليذيع على مواطنيه أخبار إسقاط الطائرات الألمانية المغيرة على لندن ، بأعداد بلغ مجموعها أكثر من الأعداد التي كانت تملكها كل دول الحلفاء وكل دول المحور، أي طرفي الحرب .. في الوقت الذي كادت لندن فيه أن تسوى بالأرض بفعل 246 غارة جوية كانت تتعرض لها من تلك الطائرات يومياً ! .. إنها الحرب التي غالباً لا تترك لك أن تختار ما تفعله ، بل إنها قد تفرض عليك الذي تفعله ، وفي مقدمة ذلك ، تضليل العدو من حيث كونه عدواً بكل الوسائل ، وأولها الوسائل غير المشروعة ( في غير زمن الحرب ) والتي هي ذاتها مشروعة في زمن الحرب ، إذ لن تكون لدينا ديمقراطية من أي نوع ، في حال هزيمتنا ، وفي المقابل انتصار العدو الذي رفضنا " تضليله " ففقدنا حماية الوطن ، فكأننا اخترنا الهزيمة !! .يقول الدكتور في تلك الفقرة التي نخالفه الرأي فيها والتي علقنا عليها قبل أن نورد نصها .. وهذا خطأ نعترف به : ( 5 )" ولما كانت معرفة الحقائق هي المادة الخام التي يكون منها المواطنون آرائهم ، ويحددون على ضوئها مواقفهم ، ويمارسون على أساسها حرياتهم ، أو ينكصون عن ممارستها ، فإن كل تزييف في الحقائق ولو كان لتضليل الأعداء وحماية الوطن ، ينعكس زيفاً على الديمقراطية وممارستها " .إن أمريكا والغرب الاستعماري كله وإسرائيل ، يزيفون الحقائق التي يقدمونها لمواطنيهم على مدار الساعة ، بدون خجل أو وجل ، بدعوى حماية " أمنهم القومي " .. وحين يعتدون علينا فإنهم أيضاً بدون خجل أو وجل يلهبون ظهورنا بسياط " الشفافية الديمقراطية " الغائبة عندنا ، والحاضرة عندهم شكلاً وغائبة موضوعاً !! .بعد هذه المداخلة .. فإننا نعلم تماماً لمعرفتنا به وقت أن كان بيننا أن روح المفكر الكبير سوف تقبل منا هذا الاعتراض " العارض " وسوف يقبله أيضاً منا كل الذين استناروا بإبداعاته الفكرية ، ونحن منهم .. ثم نستمر .وماذا بعد ؟ .. يواصل الدكتور عصمت بمناسبة حديثنا عن المحاكمة تفنيد دعاوى " الإدعاء " على عبد الناصر : " يقولون خاصة الماركسيون إن الثورة ( التي ظلوا لأكثر من عشر سنوات من بدايتها يصفونها بأنها انقلاب دبرته طليعة الطبقة البرجوازية لإنقاذ تلك الطبقة من المأزق الذي أصبحت فيه بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط فلسطين ) قد بدأت بدون نظرية ، وأن كل شيء كان خاضعاً " للتجربة والخطأ " .. وهذا " خطأ " .ويورد الدكتور رد عبد الناصر نفسه على هذا القول : " في يوم 21 مايو 1962 قدم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية ميثاق العمل الوطنى بقوله : " الميثاق عبارة عن مبادىء عامة وإطاراً للعمل أو للخطة ... نتج عن تجربة وممارسة عشر سنوات ... كانت فترة مشينا فيها بالتجربة والخطأ " .. وقال يوم 7 أبريل 1963 " ... لم يكن عندنا منهج ، لم يكن عندنا نظرية ، ولم يكن عندنا منظمة شعبية ، ولكن كان عندنا المبادىء الستة " . وقال يوم 25 نوفمبر 1961 " ... إيه هي أهداف النظرية ؟ أنا بأقول إني مكنش مطلوب منى أطلع في يوم 23 يوليو معايا كتاب مطبوع ، وأقول إن هذا الكتاب هو النظرية ، مستحيل . لو كنا قعدنا نعمل الكتاب ده قبل 23 يوليو ما كناش عملنا 23 يوليو ، لأن مكناش نقدر نعمل العمليتين في وقت واحد " .يعلق الدكتور عصمت على ذلك قائلاً : " وهكذا مع الاعتراف بغيبة النظرية ، طرح ( عبد الناصر ) المشكلة الفكرية طرحاً يتضمن الإشارة إلى سباق بين الفكر الذي لابد له من الوقت اللازم والكافي لنضجه وبلورته ، وهو وقت قد يستغرق حياة جيل أو أجيال .. وبين موقف مصر المتردي بسرعة متزايدة قبل 1952 ، مما كان يستوجب الإنقاذ بالممكن بدون انتظار لما يجب أن يكون . وكان الممكن هو ما عرف باسم المبادىء الستة للثورة ، ومن بينها إقامة حياة ديمقراطية سليمة " .( 6 )ويستطرد .. " بدأ عبد الناصر قائداً ينتهج التجربة والخطأ أسلوباً . ولم يكن مثقفاً يملك كل الوقت اللازم للاجتهاد الفكري المجرد ، ويملك بشكل خاص أن يحجب أفكاره أو يراجعها أو يغيرها ، قبل أن يطرحها على الناس أفعالاً تؤثر في حياتهم العينية . ذلك لأنه كان قائد ثورة مهمته الأولى أن يغير ويطور ، وينفذ ويصحح في الواقع الاجتماعي بما يحمله من أفكار " .ونقول نحن .. إن التلازم والترابط العضوي بين الفكر والعمل ، كان هو الأساس المحوري الذي قام عليه ذلك التراكم الحضاري الإنساني ، منذ بدء الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فلم تخل مسيرة الإنسان الحضارية عبر كل تاريخه من التجربة ولا من الخطأ ولا من التصحيح .. وحينما كان يلاحظ الإنسان ثباتاً للنتائج حينما يتكرر القياس ، فإنه كان يشرع في صياغة القواعد والثوابت والقوانين ، وبلورة النظريات . وحين كانت تتقدم المراحل التاريخية والحضارية بالإنسان ، كانت تظهر ( أو تفرض نفسها ) حاجته إلى تغيير المقاييس والقوانين والنظريات .. بل والبديهيات ، ولم يكن ذلك ليحدث بأى حال إلا على قاعدة " التجربة والخطأ والتصحيح " . والماركسيون أنفسهم هم الذين يقولون " إن الواقع هو الذي ينتج قوانينه " و هم الذين يقولون " أن التاريخ يعود دائماً إلى الواقع ليصحح نظرياته " .ويشير الدكتور عصمت إلى ذلك الجدل العلمي الذي يحدث دائماً بين الفكر وبين الواقع ، وكيف كان وعى عبد الناصر به ، واستعداده الشخصي للاستجابة له . فيقول : " ... قد كان بالضرورة أكثر قبولاً للتعلم من التجربة من أصحاب النظريات ، وفي حياته تجربة إنسانية خصيبة لامتزاج التقدم الفكري بالتقدم العملي . فقد أعطى التجربة أفكاره ، واسترد من التجربة أفكاراً أكثر نمواً ، فعاد وأعطاها للتجربة ، ثم استرد منها .. وهكذا في عملية نمو فكرى خصيبة ، ما تزال في حاجة إلى دراسات علمية مطولة . إذ لا شك في أن دراسة عبد الناصر المفكر شيء أكثر لزوماً وفائدة وصعوبة من دراسة أي مفكر آخر ، لم يتحمل بنفسه عبء وضع أفكاره موضع التنفيذ ، كما لا شك في أن دراسة عبد الناصر الثائر أكثر لزوماً وفائدة وصعوبة أيضاً من دراسة أي ثائر آخر ، كان قصارى جهده أن يغير ويطور وينفذ نظرية وضعت له والتزم بها قل أن يثور " .ويقولون يستمر الدكتور أنه كانت هناك أزمة بين الثورة وبين المثقفين : يوم 25 نوفمبر قال عبد الناصر مخاطباً المثقفين : " ... انتم اللي عليكم تعملوا النظرية ، المثقفين هم اللي يعملوا النظرية ، يوم ما لاقى كتاب طالع عن اقتصادنا وتجربتنا ، أو إيه اللي يجب يحصل فيها ، أشعر بأن هذا الكتاب هو جزء كبير من النظرية ... على هذا الوجه يستطرد الدكتور حدد عبد الناصر مسئولية البناء النظري للثورة وأسلوب هذا البناء . فمسئوليته تقع على عاتق المثقفين " ..لكن من هم المثقفين الذين كان يعنيهم عبد الناصر ؟ يجيب هو نفسه : " المفروض بالمثقف أنه المثقف إجتماعياً " ويعلق الدكتور عصمت .. " وهو ما يمكن فهمه على أنهم المثقفون الناشطون في الحقل السياسى أو العاملون بالقضايا العامة " . ويحدد الميثاق يستطرد الدكتور معالم العطاء الفكري الثوري الاجتماعي" الثورة العربية وهي تواجه هذا العالم لا بد لها من أن تواجهه بفكر جديد لا يحبس نفسه في نظريات مغلقة يقيد بها طاقته ، وإن كان في نفس الوقت لا ينعزل عن التجارب ( 7 )الغنية التي حصلت عليها الشعوب المناضلة بكفاحها ... إن التسليم بوجود قوانين طبيعية للعمل الاجتماعي ، ليس معناه القبول بالنظريات الجاهزة ، والاستغناء بها عن التجربة الوطنية " .تلك كانت رؤية عبد الناصر والثورة لدور المثقفين .. فماذا كانت رؤية المثقفين لعبد الناصر والثورة ؟ . يقول الدكتور عصمت : " نحن نعرف الآن أن الوجه السياسي لعملة الرأسمالية هي الديمقراطية الليبرالية التي كانت سائدة في مصر قبل الثورة . وحين حددت الثورة أحد أهدافها في " القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم " كانت تتقدم حتى دون أن تدرى إلى مواقع الصدام مع الليبراليين وأفكارهم الخاصة عن الديمقراطية ، أي مع مثقفي مرحلة ما قبل الثورة ( الذين تمثلوا في أنصار الديمقراطية الليبرالية وبعض فصائل التيار الماركسي ) ... إن المثقفين في مصر يستطرد الدكتور لم يقوموا بدورهم التاريخي في البناء النظري للثورة ، وهو الدور الذي لم ينكره عليهم عبد الناصر قط ، ولم يدعه لنفسه من دونهم قط ، فبقى بدون إنجاز لمدة طالت أكثر مما يجب " .ونقول نحن .. إن تلك كانت هي الأرضية التي دارت فوقها محاولة الالتفاف على الثورة ووأدها إبان ما عرف في التاريخ السياسي المصري ب " أزمة مارس 1954 " ، ومحاولة إرجاع صانعيها إلى ثكناتهم ، أو إلى غياهب السجون .. أو تعليق هؤلاء " المتمردون " عند اللزوم على أعواد المشانق .وكأن هذا الحديث .. جاء مدخلاً للحديث عن أزمة مارس 1954 : يقول الدكتور عصمت سيف الدولة عنها : " في ذلك الصراع ، اختار الليبراليون داخل مجلس قيادة الثورة ، ورمزهم محمد نجيب ( ونضيف إليه : خالد محي الدين وعبد المنعم عبد الرؤوف وعبد المنعم أمين ، كما يضيف الدكتور قوله أن محمد نجيب اليمنى قد رشح خالد محي الدين اليساري ، في أزمة مارس 1954 ، ليكون رئيساً للوزراء في مقابل إنهاء الثورة ) .. هؤلاء كان يساندهم رجال الأحزاب المنحلة وجماعات المثقفين ، اختاروا العودة إلى النظام البرلماني الليبرالي . وكانت حججهم المعلنة ، أن الثورة وقد نجحت في القضاء على " المفسدين للديمقراطية ( الملك والإقطاع ) ، فقد استنفذت غايتها .. وعليها أن تنهي ذاتها لتعود الحياة الديمقراطية الليبرالية إلى استئناف مسيرتها التي عوقها المفسدون .. وأن على مجلس قيادة الثورة وضباط القوات المسلحة أن يعودوا إلى ثكناتهم ... وأن يسلموا السلطة إلى حزب الأغلبية ( الوفد ) ... يضاف إلى ذلك يستطرد الدكتور النظرة المتعالية التي كان ينظر بها المثقفون وقادة الأحزاب السابقة إلى " شوية الضباط " صغار السن ، غير المعروفين من الشعب ، المجردين من الخبرة حتى ولو كانوا غير مجردين من الإخلاص " . ( نرى أنه ينبغي منح الانتباه الكافي لتعبير " النظرة المتعالية " الذي استخدمه الدكتور لوصف موقف المثقفين من الثورة منذ أربعاً وخمسون عاماً ، وتعبير " شوية الضباط " الذي كانوا يشيرون به إلى الثوار الذين زلزلوا واحداً من أكثر النظم الحاكمة في العالم يومها ، سطوة وترهلاً وفساداً وعمالة وتبعية .. ليس هذا هو المهم الآن .. وإنما الغريب الفج في هذا الصدد هو أنه ما زالت " نظرة التعالي " تلك و تعبير " شوية الضباط " ذلك ، يستكنان في نفوس عديد من المثقفين ، ( 8 )ومن ثم يتحكمان فيما يقولون ويكتبون وينشرون بدون خجل . وكأن على الثوار والغيورين على أوطانهم .. والشهداء ، ألا يكونوا كذلك إلا بعد حصولهم على درجة الدكتوراه ، وتقديم شهادة " حسن سير وسلوك " معتمدة من اثنين مثقفين !! ) .ويفسر الدكتور سيف الدولة .. لماذا انحاز الماركسيون إلى الليبراليين فيقول : " لأنهم لم يكونوا من القوة بحيث يفرضون مذهبهم التقليدى في ديكتاتورية البلوريتاريا ... فانحازوا إلى الليبراليين على أساس أن الليبرالية ستتيح لهم فرصة أكبر لتعميق التناقضات الطبقية ، وتعبئة الجماهير تحت قيادة الطبقة العاملة للاستيلاء في النهاية على السلطة ... وأن عودة الليبرالية بعودة الوفد كانا في تقدير الماركسيين مبرراً كافياً أو مساعداً لانحيازهم إلى إنهاء الثورة " .ويلخص الدكتور سيف الدولة ، مشهد الصراع في تلك الأزمة ويوصفه بقوله : " أياً ما كان الأمر فإن الصراع حول مشكلة الديمقراطية في مصر أصبح قائماً بين الليبراليين وبين الثوريين " .. ثم يسأل " فأي الفريقين كان ديمقراطياً ؟ " . ويجيب .. " ... الأولون انحازوا إلى أنفسهم ، إلى القلة الممتازة الحاضرة ، والآخرون انحازوا إلى الشعب ، إلى الأغلبية المسحوقة الغائبة ... وعلى المستوى الواقعى ، نعنى واقع مصر عند قيام الثورة ، فإن الأولين لم يكونوا ديمقراطيين بأي معنى ، وكان الثوار وحدهم هم الديمقراطيون . ذلك لأن القلة الممتازة التي انحاز اليها الليبراليون لم تكن تعانى من أية مشكلة ديمقراطية . فهي قادرة فكراً وعلماً وخبرة ومالاً على ممارسة حقوقها السياسية ... الذي كان يعانى مشكلة ديمقراطية حقيقية هو الشعب . أغلبية الشعب الراكد الغائب الضعيف ، المستضعف المحكوم بدون أي أمل في أن يشارك في الحكم " .ويستوقفنا هذا الفهم والتحليل الرفيع لمشكلة الديمقراطية ، ولقضية العدل الإجتماعى في مصر العربية ، وهذا التلخيص والتوصيف لذلك المشهد الفاصل في تاريخ الثورة في مصر ، حيث يبرز من ثناياه ذلك المفهوم اليقينى العقيدي للديمقراطية الذي ترسخ في وعى جمال عبد الناصر ، فالتزم به وأعلنه .. بل وقاتل دونه ، كل الحرية والديمقراطية للشعب ، ولا حرية ولا ديمقراطية لأعداء الشعب ، ولا ديمقراطية ولا حديث عنها ، قبل أن يتمكن المسحوقون والغائبون والمهمشون آماداً طويلةً ، من أن يكونوا مثل " القلة الممتازة " ، قادرون فكراً وعلماً وخبرة ومالاً على ممارسة حقوقهم السياسية .وفي هذا السياق .. لم يكن غريباً أن تصدر الثورة ولما تكمل شهرين من عمرها أول قانون للإصلاح الزراعي ، الذي قصم ظهر الإقطاع لصالح الفلاحين أقنان الأرض في مصر ، ولم يكن غريباً أيضاً ، كما يوضح الدكتور سيف الدولة أن يتلقى العمال من الثورة ولما تكمل عامها الأول القانون الذي يحرم فصلهم من العمل بدون مبرر ، ويوقف قرار الفصل التعسفي " على وجه الإستعجال " مع صرف الراتب ، حتى لو لم يقبل رب العمل إعادة العامل إلى عمله . وعدم جواز توقيع أكثر من عقوبة عن المخالفة الواحدة .. إضافة إلى القانون الذي يفرض حصر كل العمال العاطلين في مصر ، وإنشاء سجل لهم ، وتشغيلهم ، وإلزام أصحاب الأعمال بالإبلاغ عن طلبات العمل ، ومنع( 9 )الوساطة ، وكفالة الدولة لمصروفات نقل العامل وأسرته من محل إقامته إلى حيث يقدم له العمل .ليس هناك في رأينا غير هذا الحديث حديثاً عن الديمقراطية ومعناها .. وجدواها . وإذا وجد حديثاً غيره في مصر والأمة العربية والعالم الثالث بإجماله ، فإنه يكون فقط من قبيل " استهبال المثقفين " أوجهلهم .يقول الدكتور عصمت : " ثم نعجب ممن وضعوا أنفسهم في مقاعد التقدمية ... أو سودوا ما توهموا أنه تاريخها ، فقالوا إن الصراع كان يدور في القمة بين الديمقراطيين وبين أنصار الديكتاتورية ، وهذا صحيح ، ثم أخطأوا خطأً فاحشاً ، فقالوا إن دعاة استمرار الثورة هم الديكتاتوريون ، وأن دعاة العودة إلى الليبرالية وأحزابها ، كانوا هم الديموقراطيين . كأن الديمقراطية كلمة تقال وليست حرية مكتسبة ، كأن ثورة يوليو ما قامت إذ قامت ، إلا من أجل أن يستأنف حزب الوفد وأحزاب مدرسة " حزب الأمة " حكمها الشعب العربي في مصر ، بعد أكثر من سبعين عاماً من تحالفها ضد الخط الوطنى الثوري ، وبعد ثلاثين عاماً من ممارستها الفاشلة للديمقراطية الليبرالية في مصر " .لقد كان ذلك هو مفهوم عبد الناصر العقيدي للديمقراطية .. وكان ذلك أيضاً هو ما وافقه عليه الدكتور عصمت سيف الدولة .. ونحاول الآن أن نغوص أكثر مع الدكتور ، في الواقع والوقائع التي جرت بفعل الثورة على الأرض ، لندرك أعماق المفهوم الديمقراطي لدى عبد الناصر ، ومدى مصداقيته .. لنجيب عن السؤال : هل كان فعلاً ديكتاتوراً ؟ . يستمر حديثنا مع الدكتور .. أو حديثه إلينا .الإصلاح الزراعي :" كان الهدف الأول ، الأكثر وضوحاً ، لثورة يوليو هو تحرير الفلاحين ... وكان تحديد الملكية هو التحدي الظاهر الذي واجهت به الثورة الأحزاب فرفضته . ( يقول عبد الناصر يوم 26 يوليو 1955 " من أول يوم من أيام الثورة ، قلنا لهم ، إذا أردتم فعلاً أن تحققوا الحرية ... لهذا الشعب الطيب الذي خدعتموه تحت اسم الحرية .. فلتوافقوا ولتعلنوا معنا القضاء على الإقطاع ، ولتعلنوا تحديد الملكية " ) ... إن قانون الإصلاح الزراعي يؤكد الدكتور عصمت هو القانون الديمقراطي الأول في تاريخ مصر الحديث . ذلك لأنه يتضمن محاولة لحل مشكلة الديمقراطية بالنسبة لأغلبية الشعب من الفلاحين ... بالحد من قوة الإقطاعيين وكسر شوكتهم ، وتحطيم ما تراكم لهم من هيبة طاغية في الريف . وأيضاً بخلخلة القيود التي كبلت الفلاحين ، وتشجيعهم على التمرد والفكاك من التبعية ، وتدريبهم على الجرأة وتحدى استغلال الملاك والإقطاعيين لهم ... وكسر السيطرة الاجتماعية والنفسية والأخلاقية لهؤلاء عليهم ... بالإضافة إلى ذلك ، حاول القانون الزج بجموع الفلاحين زجاً إلى مواقف جماعية إيجابية يواجهون بها احتياجاتهم ، بدلاً من علاقات الإتكال والتواكل التي كانوا قد اعتادوا عليها سنين طويلة . فأنشأ الجمعيات التعاونية الزراعية ، واشترط أن تكون عضويتها لمن تقل ملكيتهم عن خمسة أفدنة " .( 10 )يستطرد الدكتور سيف الدولة : " لم يركز عبد الناصر قط على المبرر الاقتصادي للإصلاح الزراعي ، ولكنه برره دائماً تبريراً تحررياً ديموقراطياً ، وهو ما يعنى أن الإصلاح الزراعي كان مرتبطاً في وعيه بمشكلة الديموقراطية في مصر " .أيهما الديمقراطى .. الوفد أم عبد الناصر ؟؟يحدثنا الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه فيقول : " لم تخضع قيادة حزب الوفد منذ تأسيسه لرأى غالبية الأعضاء إلا في المسائل التي لا تهم القيادة ! ، وأعطى قائد الوفد سعد زغلول ومصطفي النحاس ، لنفسيهما " استبدادية " في مواجهة أعضاء الحزب ، تكررت حتى استقرت تقليداً في هذا الحزب العتيد ... ففي عام 1921 قرر سعد زغلول منفرداً فصل أغلبية أعضاء القيادة العليا للوفد ( عشرة من أربعة عشر ) . وفي عام 1932 كرر مصطفي النحاس الأمر ذاته ، فاتخذ قراراً منفرداً ( ! ) بفصل أغلبية القيادة ( ثمانية من أحد عشر ) . ولقد كان هذا التقليد الاستبدادي من بين أسباب الانشقاقات المتتابعة التي حدثت في الحزب ، وكان السبب الرئيسي في خروج العقاد وروز اليوسف وأحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي على الوفد أو عنه " .ونضيف في هذا السياق .. تلك كانت فكرة " الزعامة المقدسة " لدى حزب الوفد الليبرالي التي لا ترى إلا ذاتها وخضوع التابعين .. وهي ذاتها فكرة " المرشد " الذي يمتلك بصيرة ، وإلهاماً ، أكثر من كل الذين " يرشدهم " ، بل ويبايع منهم على الطاعة والتسليم الكامل بما يقول وما يفعل ، عند الإخوان المسلمين .. ثم هي نفس فكرة " الإمام " أو " ولاية الفقيه " عند الشيعة .. وهي كلها حالات في أحسن أحوالها لا تمت إلى الديمقراطية بأدنى صلة .. فهي في أحسن أحوالها أيضاً تصادر حق الآخرين ( الجماهير ) في المشاركة في المشكلة ، وفي تقديم الحل .. لأن الحل سوف يأتيهم من " معصوم " لن يخطىء ، حتى لو كان في مثل حالهم أو أقل !! . إن الذين صبوا جام غضبهم " الديمقراطى " على عبد الناصر " الديكتاتوري " في أزمة مارس 1954 وهم تحالف الوفد والإخوان المسلمين والماركسيين ، وبقايا الأحزاب المتهالكة ، بقيادة محمد نجيب وخالد محي الدين .. لم يكن بينهم على أي وجه من حيث الفكر والمنهج والسلوك ديمقراطي واحد ، فلقد كانوا جميعاً كما يقول الدكتور سيف الدولة ممن يسلمون أمورهم إلى قيادتهم تسليماً غير مشروط ، ثم ينكرونه على عبد الناصر ، الذي لم يطلبه منهم أصلاً .لقد كانت مطالب الليبراليين في ذلك الوقت كما يورد الدكتور تنتهي كخلاصة ، إلى أن يسلم عبد الناصر السلطة إلى " الزعيم " مصطفي النحاس ، أو إلى " الإمام " حسن الهضيبي ، أو إلى خالد محي الدين وحركة " حدتو " الشيوعية ، تحت عباءة محمد نجيب . لم يكن لأي من هؤلاء علاقة بقضية الديمقراطية في مصر ، رغم واقعها المهين الذي كان " واقعاً " على الأرض أمام عيونهم ، وليس في متاحف الديمقراطية الغربية وطقوسها المزيفة ، ولم يصل وعى أياً من هؤلاء بالمشكلة وأبعادها ، كما وصل وعى جمال عبد الناصر بها .. والمؤكد بالقطع أن كل منهم ، وبدون استثناء ، كان لديه حلم كبير بالسلطة وكرسي الحكم ، حتى وإن تحقق حلمه هذا( 11 )على جثة الديمقراطية التي عاش يتشدق بها .. بل وعلى جثث الذين يطلبونها والذين هم يستحقونها بالواقع والتاريخ .. ورغم ذلك فإنه وغيره لا يكلون ولا يملون من جلدنا وأولنا جمال عبد الناصر بسوطها متعدد الأطراف !! .والخامس من يونيو / حزيران 1967 :كنا قد اتفقنا من قبل .. نحن وجمال عبد الناصر والدكتور عصمت سيف الدولة ، والمنطق والتاريخ والواقع وعلى غير رغبة كل القوى المعادية للشعب العربي في مصر والأمة العربية كلها اتفقنا على أن قضية الديمقراطية لا تتجزأ ، وأنها ترتبط عضوياً بكليات النضال الوطنى والقومي وجزئياته ، إن في الداخل أو في الخارج .. أي سواء كان هذا النضال داخل الحدود الوطنية والقومية ، أو لحماية تلك الحدود ذاتها .. التي إذا انكسرت واستباحها الأعداء ، يتوقف الحديث " غربي المنشأ " عن الديمقراطية ، ويفرض نفسه الحديث عن تحرير الوطن .. والصياغة الجامعة لذلك هي " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة " .. معركة تحرير الوطن والأمة ، باعتبار أن نطاق العدوان كان أكبر من حدود قطر معين من أقطارها .يقول الدكتور سيف الدولة عن هذا اليوم : " ... يوم أن ظهر ما كانت القوى المعادية لأمتنا قد دبرته ، وخططت له ... وضربت ضربتها الصاعقة . ولقد اعترفوا من بعد أن هدفهم الأساسي كان إسقاط قائد معارك التحرر العربي ، عبد الناصر ونظامه ، وهزيمة أمته . ولقد نالوا منه ومن نظامه ومن أمته ما نالوا ، وهو جسيم ، ولكنهم لم يسقطوه ولا أسقطوا نظامه ولا هزموا أمته . فقد احتضنته وحمته الجماهير العربية الهادرة من المحيط إلى الخليج ، وأعادته إلى موقع القيادة ، ثقة منها في مقدرته . كان ذلك في يومى 9 و 10 يونيو / حزيران 1967 . وسيثبت التاريخ ، وقد أثبت فعلاً ، أن أعظم أيام عبد الناصر ، وأكثرها جلالاً هي الأيام التي تلت الهزيمة ، ففي يوم 5 يونيو 1967 لم يمت جمال عبد الناصر ، ولكنه استرد ملء حياته وحيويته . نالت الهزيمة من عبد الناصر الحاكم ، وأبرزت عبد الناصر الزعيم . أضعفت رجل الدولة " الحكيم " الذي يتعامل بالممكن ، وقد كان الممكن صفراً ، وقدمت القائد والثائر الذي يتحدى بما يجب أن يكون مبتدئاً من الصفر أيضاً . بكل مقاييس الحكمة والمرونة والعقول المفتوحة والواقعية ، كان على عبد الناصر أن يستسلم ، مفاوضة وصفحاً واعترافاً بالذين هزموه . ولكن بمقاييس القيادة والزعامة والثورة ، كان على عبد الناصر أن يلبى نداء جماهير أمته ، ويقودها على طريق : " لا صلح ، لا تفاوض ، لا اعتراف " ولقد اختار عبد الناصر الطريق الذي لا يختاره إلا الأبطال " .ثم يستمر الدكتور في دفاعه " مرافعته " .. محدداً دوافع العدوان وأسباب الهزيمة : ضرب المد الوحدوي الذي كان يقوده عبد الناصر ، وأن خطة عدوان 67 قد وضعت وبدء في التدريب عليها فور قيام الوحدة عام 1958 . وأن الانفصال عام 1961 لم يكن إلا جزءاً مبكر التطبيق لخطة عدوان 67 . ضرب وتدمير الطاقات الاقتصادية التي كانت بدأت لأول مرة تعطى ثمار التخطيط العلمي والتصنيع .( 12 ) بالمرة .. لقد دفعنا الأعداء إلى أن نعتقد بأن ما حدث كان نتيجة " عيوبا نحن ، عجزنا نحن ، تخلفنا نحن ، ما قلناه نحن ، ما فعلناه نحن .. لنكون " نحن " الذين جنينا على أنفسنا ، ويكون الأعداء أبرياء مما أصابنا . كأننا نحن الذين اغتصبنا الأرض وبدأنا العدوان وتجاوزنا الحدود ، كما يقول الدكتور .ونضيف نحن .. أنه إذا كان من بين الحكام العرب في تلك الفترة ، من استصدر قراراً رسمياً من مجلس وزرائه ، في شهر ديسمبر 1966 أي قبل العدوان بستة أشهر فقط بتقديم " التماس " إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لاتخاذ " الإجراءات اللازمة " لإخراج القوات المصرية من اليمن .. وأن من بين هؤلاء الحكام من جمع كبار ضباط جيشه صبيحة يوم 29 سبتمبر 1970 ، ليهنئهم " بوفاة جمال عبد الناصر " في اليوم السابق !! .. نقول إذا كان ذلك قد حدث ، وقد حدث أبشع منه الكثير .. فإنه كاف لتوضيح أبعاد المؤامرة ، وأطرافها ، وما حشد وأعد لتنفيذها ، بغض النظر عن أوجه القصور والخطأ لدينا ، وعدم إنكارنا للتأثيرات السلبية والمدمرة للقصور والخطأ .. وما حدث في الإغارة الأمريكية الاستعمارية الصهيونية على العراق عام 2003 ، وما حدث في جنوب السودان وسوف يحدث في غربه في دارفور ، وما قد يحدث لسوريا وإيران .. فإنه يفصح بجلاء عن العنصر الثابت الأعلى في الإستراتيجية الإمبريالية الاستعمارية الصهيونية العالمية ، وهو الإغارة والعدوان المباشر ، لمنع أي بروز لأي قوة أو قيادة إقليمية خارجة عن السيطرة ، في المنطقة الأهم بما لا يقارن في العالم كله .. وهي المنطقة العربية والدول الملامسة لها . عن موقع حزب الكرامة__________________نقلاً عن موقع منتديات الفكر القومي العربي حركة القوميين العربE-mail :[email protected]