بوريطة في زيارة عمل إلى باريس لحشد الدعم لقضية الصحراء في مجلس الأمن    منظمة مهنيي الصحة التجمعيين تثمّن قرار وزارة الصحة والحماية الاجتماعية بإحداث مراكز الدكتوراه في علوم التمريض وتقنيات الصحة    حياد الجزائر .. أكذوبة القرن في نزاع الصحراء المغربية    بنسعيد: مشاكل الشباب المغربي موروثة.. ومناظرة معرض الكتاب فرصة    جيتكس 2025: الحضور الأمريكي القوي يجسد التزام الولايات المتحدة بدعم التحول الرقمي في المغرب (القائمة بالأعمال)    في لقاء جمع إدريس لشكر، الكاتب الأول للحزب، بالفريق الاشتراكي: ملتمس الرقابة خطوة قابلة للتحقيق    ميناء المهدية.. انخفاض الكميات المفرغة من منتجات الصيد الساحلي والتقليدي ب 28 بالمائة في مارس    ممرض شاب يشرف على توليد امرأة نواحي تنغير بتنسيق مع «قابلات» باعتماد الاتصال عن بعد    بنسعيد: سنحتفي هذا العام بمغاربة العالم في معرض الكتاب الدولي بالرباط بمشاركة 51 دولة    خبير ينبه لأضرار التوقيت الصيفي على صحة المغاربة    فرق ضوسي يفوز بتنائية على اتحاد البجيجيين في المباراة الإفتتاحية    مجلس النواب يدين بقوة العدوان الإسرائيلي ويجدد دعمه للقضية الفلسطينية    فرنسا والمغرب يشكلان مجموعة عمل مشتركة لتسهيل إجراءات ترحيل المهاجرين غير النظاميين    قيوح يتباحث بالدوحة مع نظيره القطري حول سبل تعزيز التعاون في مجال النقل الجوي    اختراق جدار وسرقة ذهب.. سقوط "عصابة الحلي" في قبضة الأمن    وزير الداخلية الفرنسي يعلن تقوية الشراكة مع المغرب ضد الهجرة غير النظامية    "أشبال الأطلس" يحلمون بلقب إفريقي.. مواجهة حاسمة أمام الفيلة في نصف النهائي    أخبار الساحة    جريمة ب.شعة بطنجة.. رجل يجهز على زوجته بطع.نات ق..ات/لة أمام أطفاله    "جاية" للإخوة بلمير تتصدر قائمة الأغاني الأكثر مشاهدة بالمغرب    أسعار الذهب تتراجع بعد انحسار التوترات التجارية    مستخدمو "شركة النقل" يحتجون بالبيضاء    الشركة "إير أوسيون" ترد بتفاصيل دقيقة على حادث انزلاق طائرة في فاس    وفاة أستاذة أرفود تسائل منظومة القيم بمؤسسات التربية والتكوين    السغروشني تلتقي بحاملي المشاريع المنتقاة في إطار مبادرة "موروكو 200"    توقيف الفنان جزائري رضا الطلياني وعرضه أمام القضاء المغربي    تسريبات CNSS تفضح التهربات والأجور الهزيلة لعمال شركات كبرى في طنجة    بوعرفة تتصدر مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب    وكالة بيت مال القدس تدعم حضور شركات فلسطينية ناشئة في "جيتكس 2025"    ماريو فارغاس يوسا.. الكاتب الذي خاض غمار السياسة وخاصم كاسترو ورحل بسلام    محاميد الغزلان.. إسدال الستار على الدورة ال 20 لمهرجان الرحل    "تم بتر إحدى رجليه"..رشيد الوالي يكشف عن الوضع الحرج للفنان محسن جمال    مديرية الضرائب تطلق خدمة إلكترونية جديدة لطلبات الإبراء من الغرامات والزيادات    الفارس عبد السلام بناني يفوز بالجائزة الكبرى في مباراة القفز على الحواجز بتطوان    الأدب العالمي في حداد .. ماريو فارجاس يوسا يرحل عن 89 عامًا    لطيفة رأفت تطمئن جمهورها بعد أزمة صحية    في ظرف ثلاثة أيام.. حقينة سدود كير-زيز-غريس تنتعش    جبهة دعم فلسطين تواصل الاحتجاج ضد التطبيع وتدعو لمسيرتين شعبيتين ضد رسو "سفن الإبادة" بالمغرب    هذا موعد كلاسيكو الليغا بين البارصا والريال    نجل أنشيلوتي يكشف سبب تصرف مبابي ويستنكر ما حدث مع أسينسيو    إنذار صحي جديد في مليلية بعد تسجيل ثاني حالة لداء السعار لدى الكلاب    طقس الإثنين.. أمطار ورياح قوية بعدد من المناطق المغربية    لي تشانغلين، سفير الصين في المغرب: لنكافح الترويع الاقتصادي، وندافع معًا عن النظام الاقتصادي العالمي    بسبب فقدانه للمصداقية.. جيش الاحتلال الصهيوني يتعرض لأزمة تجنيد غير مسبوقة    محاولة اختطاف معارض جزائري على الأراضي الفرنسية.. الجزائر تتورط في إرهاب دولة    ردا على اعتقال موظف قنصلي.. الجزائر تطرد 12 دبلوماسيا فرنسيا    جايسون إف. إسحاقسون: إدارة ترامب حريصة على حسم ملف الصحراء لصالح المغرب تخليدًا لعلاقات تاريخية متجذرة    بالصور.. مؤسسة جورج أكاديمي بسيدي بوزيد تنظم سباقا على الطريق بمشاركة التلاميذ والآباء والأمهات والأساتذة..    الكعبي وأوناحي يتألقان في اليونان    طبيب: السل يقتل 9 أشخاص يوميا بالمغرب والحسيمة من المناطق الأكثر تضررا    من خيوط الذاكرة إلى دفاتر اليونسكو .. القفطان المغربي يعيد نسج هويته العالمية    دراسة: الجينات تلعب دورا مهما في استمتاع الإنسان بالموسيقى    التكنولوجيا تفيد في تجنب اختبار الأدوية على الحيوانات    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الليبراليّة العربيّة.. أو تسويغ الاستعمار..


07/02/2010
مرَّت الليبراليّة العربيّة بأطوار مختلفة في تاريخها القصير, نسبيّاً. الحكاية بدأت في القرن العشرين مع أن بوادر جنينيّة ليبراليّة تسرّبت إلى الثقافة العربيّة في منتصف القرن التاسع عشر خصوصاً مع دعوات التبشير البروتستانتي, ونموّ الاعتراض على الحكم العثماني. كتابات بطرس البستاني أو فارس الشدياق تدخل جوازاً في إطار الفكر الليبرالي -على نواقصها- وقد تخطت في بعضه حدود الليبراليّة الغربيّة التي تساكنت مع الاستعباد والاستعمار (ثم مع الصهيونيّة).
نشأة الليبرالية العربية وعلاقتها بالغرب
الليبرالية العربية ومرحلة الغيبوبة
الليبراليون العرب واللحاق بالجواد الفائز
مصير الليبرالية العربية
نشأة الليبرالية العربية
حكاية الليبراليّة الغربيّة تختلف في جذورها وفي توجهاتها ومنطلقاتها الاجتماعية-الاقتصادية عن حكاية الليبراليّة الغربيّة. الليبراليّة الغربيّة تشكّلت نتيجة صعود طبقة بورجوازيّة صاعدة أرادت أن تكسب بعض الحقوق والنفوذ والربح على حساب سلطات مطلقة كان الملك يتحكّم بها. والليبراليّة الغربيّة كانت في طورها الكلاسيكي (قبل القرن العشرين) تعني شيئاً آخر يختلف عن الطور المعاصر لليبراليّة الغربية. الليبراليّة الكلاسيكيّة كانت تعني ما نسمّيه اليوم ب "الليبرتاريّة", أي أيديولوجية الفرديّة المُطلقة التي تحاول تقييد (أو نفي) سلطة ودور الدولة في الحيّز الاقتصادي وفي الحيّز الخاص (أو الأخلاقي) على حدٍّ سواء. كانت الليبراليّة الكلاسيكيّة تعمد إلى تحرير الفرد من سلطة وتدخّل الدولة من أجل تحقيق الحريّة (بمعناها الرأسمالي). وهذا ما عناه المفكر البريطاني, أيزايا برلين, في تمييزه بين "الحريّة السلبيّة" وبين "الحريّة الإيجابيّة". الأولى تتحقّق عبر الحدّ من تدخّل الدولة في شأن الفرد, فيما الثانيّة لا تتحقّق من دون تدخّل الدولة للمساهمة في مساعدة الفرد على تحقيق ذاته. الحريّة السلبيّة تعطي الفرد حريّة اقتصادية, لكنها في ظل النظام الرأسمالي لم تعن أكثر من حريّة رأس المال في التحرّك والتراكم والكنز
لكن أزمة الرأسماليّة, خصوصاً بعد انهيار 1929, أعادت النظر في الفكر الليبرالي. لم يجر ذلك من أجل الفرد, وإنما من أجل حماية الرأسماليّة برمّتها من خطر الثورة الاشتراكية التي كانت تطلّ برؤوسها في أكثر من بلد أوروبي. تغيّر معنى الليبراليّة, وأصبحت تلك الأيديولوجية التي تطالب بتقليص دور الدولة في الحيّز الخاص (أو في تقليص دور الدولة كحارس ديني-أخلاقي, على عكس الفكر المحافظ) فيما تطالب بتنشيط دور الدولة في الحيّز الاقتصادي للحدّ من وحشيّة الرأسماليّة ولإحداث نوع من تقليص الهوة بين الطبقات (عبر إجراءات ضريبيّة وبرامج اقتصادية ووضع ضوابط على الاحتكار الرأسمالي) لخلق طبقة متوسّطة وهي الحارس الأمين لاستقرار الدولة كما كتب أرسطو في كتابه "السياسة". ودولة الرعاية الاجتماعية هي التكريس العملي لفكر الليبراليّة الغربيّة الحديثة.
لكن سيرة الليبراليّة العربيّة تختلف بصورة جذريّة عن الليبراليّة الغربيّة. كان الظهور الجنيني لليبراليّة العربيّة (البروتستانتيّة أو الشدياقيّة) يعنى بتقليص سلطة الكنيسة, أو الكهنوت فعليّاً, من دون أن يقترن ذلك ببرنامج سياسي أو اجتماعي واضح. صحيح أن البستاني والشدياق دعيا إلى إعطاء حقوق مُغيّبة للمرأة, لكن ذلك لم يكن ضمن برنامج إصلاح شامل (كما أن بعض كتابات الشدياق لم تكن نسويّة أبداً). كما أن الشدياق خدم أكثر من سلطان, وكتب مدائح لهما, ممّا أضعف من انسجامه الفكري والسياسي. لكن الظهور الحقيقي لليبراليّة العربيّة حدث في القرن العشرين. ويتحدّث شكيب أرسلان في سيرته الذاتيّة عن محنة اتهامه بالدفاع عن الإمبراطوريّة العثمانيّة حتى آخر أيّامها. كانت لهجته دفاعيّة لما لحقه من تهم من قبل دعاة القوميّة العربيّة المبكّرين, أو دعاة الثورة العربيّة. ويقول إنه كان في البداية منجذباً لدعوات الوحدة العربيّة قبل أن يكتشف ارتباط مشروعهم بمشروع الاستعمار الأوروبي. وقد أثبتت الوثائق التي نُشرت في الغرب صحة اتهام أرسلان في هذا الصدد. فارتباط نجيب عازوري مؤلف كتاب "يقظة الأمة العربيّة" بالاستعمار الأوروبي, مثلاً, هو حقيقة مُثبتة. وقد سطع نجم الفكر الليبرالي في كنف الاستعمار الغربي.
تبلور الفكر الليبرالي العربي في طوره الجدّي الأول في مصر في العهد الملكي. وهو كان متحالفاً في آن مع الملكيّة الرجعيّة ومع الاستعمار الغربي. وهذا الارتباط لم يكن صدفة لأن نزعة النخبويّة (العنصريّة والطبقيّة والإثنيّة) شكلت منطلقاً لفكر طه حسين وعلي عبد الرازق وغيرهم من مفكّري تلك الحقبة. وليس من الصدفة أيضاً أن الاثنين نهلا من فكر الاستشراق الغربي فيما كتباه, وفيما اشتهرا بكتابته (علي عبد الرازق تأثر-لنقل كثيراً جدّاً- بكتاب المستشرق توماس أرنولد عن الخلافة، كما أن طه حسين في كتابه عن الشعر الجاهلي تأثر بمقالة للمستشرق ديفيد مغرليوث. والفكر الليبرالي ارتبط بالاستعمار الغربي لأنه كان يرى أن العامّة (ويبرز هذا أيضاً حتى في كتابات عبد الرحمن الكواكبي الذي حاول أن يبتعد عن أسلوب التعميم الإستشراقي) غارقة في الجهل والتخلّف وأن النخبة المُرتبطة بالغرب (والمُستعينة بجيوشه وحكوماته وأحزابه) هي الوحيدة القادرة على النهوض بالمجتمع العربي لتحقيق "تحضير" للعربي على خطى الرجل الأبيض. وكمنت النزعة العنصريّة في هذا الفكر من خلال محاولات لبنانيّة ومصريّة حثيثة للزعم بأن "المصري" أو "الفينيقي" هو أوروبي تائه في الصحراء من دون إرادته, وأن خلاصه يكمن في الرجوع إلى الغرب عاطفيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً.
وقد استعمل حسين عبارات "العقل المصري" من دون أي رادع أكاديمي أو أخلاقي, على خطى كتاب المستشرق الإسرائيلي رافييل باتاي عن "العقل العربي" الذي صدر في 1973, والذي يُعتبر عنصريّاً بمقياس علم الاجتماع الغربي. وقد شكّل كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" دستور الليبراليّة العربيّة الحقيقي, ونرى أن دعاة الليبراليّة العربيّة يرجعون إليه بمناسبة وبغير مناسبة.
وكانت الليبراليّة العربيّة (في طورها الأول) صريحة للغاية في أهدافها ونواياها. فهي كانت راضية عن الاستعمار, لا بل إنها طالبت بالمزيد منه. فيقول طه حسين: "نريد أن نتّصل بأوروبا اتصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم حتى نصبح جزءا منها لفظاً ومعنىً وحقيقةً وشكلاً". لا لبس في كلامه هذا أبدا. لكن ارتباط الليبراليّة العربيّة بحقبة الاستعمار ومصالحه قضى على إمكانيّة استحواذها على تأييد الجماهير، وكلمة جماهير كانت رائجة آنذاك. وقد يكون ارتباط الليبراليّة العربيّة بالاستعمار الغربي بمثابة تلك الوصمة في قبول تقسيم فلسطين والتي عانت منها الشيوعيّة العربيّة لعقود طويلة.
أما في مرحلة الاستقلال, فلم تكن الليبراليّة العربيّة في موقع منافسة أحزاب وحركات وثورات وأنظمة ترفع شعارات التحرّر الوطني والوحدة العربيّة وتحرير فلسطين. اندثرت الليبراليّة العربيّة وما عادت ذات صلة بما يجري من أحداث وحروب. ولم يكن ارتباط الأيديولوجية بالاستعمار الحاضن لإسرائيل هو السبب الوحيد: فتناقضات الفكر الليبرالي في نسقه العربي أوقعه في ورطة.
فالدعوة إلى ديمقراطيّة لفظيّة تناقضت مع الحلف مع الأنظمة الرجعيّة (أو المناقضة لليبراليّة على أقل تقدير), كما أن الفكر الحرّ اصطدم بالصمت عن ارتكاب خروقات فاضحة في القوانين والدساتير من قبل أنظمة الاستعمار. أما عن مسألة فلسطين الكبرى, فلم يكن للفكر الليبرالي من موقف ما نحوها باستثناء لغو عن استحالة الحرب من دون ديمقراطيّة وكأن الشعوب تتوقّف عن دحر الاستعمار بانتظار إنشاء المدينة الفاضلة.
الليبرالية العربية ومرحلة الغيبوبة
لم تجد الحركة الليبراليّة العربيّة من مُنقذ في حقبة الحرب الباردة. حاولت الولايات المتحدة رعاية مجلاّت وكتب ودور نشر وشخصيّات وأحزاب, كما أنها استعانت بخطاب دعم الحريّة والديمقراطيّة عندما وجدت ضرورة لدعم أنظمة عربيّة حليفة.
لكن المزاوجة بين خطاب الحريّة وبين سياسة خارجيّة تعتمد على أكثر الأنظمة العربيّة تخلفاً ورجعيّةً قضى على سياق الديمقراطيّة في الدعاية الأميركيّة. كان إعلام الرجعيّة العربيّة يتحدّث عن الحريّة في محاولة لحشر البعث والناصريّة مع أن الحريّة كانت غائبة في كلا المعسكريْن العربيّيْن المُتنازعيْن. كان قدري قلعجي (الشيوعي السابق) يكتب عن الحريّة في نفس الكتاب الذي يحشر فيه مديحاً وتبجيلاً بسلالات نفطيّة. لم تجد تلك الدعوات قاعدة شعبيّة. دخلت الليبراليّة العربيّة في غيبوبة لم تخرج منها إلا في التسعينات.
الليبراليون العرب واللحاق بالجواد الفائز
يمكن تأريخ حرب العراق الأولى كطور ثان في سيرة الليبراليّة العربيّة. انتهت الحرب الباردة بانتصار محكم للإمبراطوريّة الأميركيّة. سقط الاتحاد السوفيتي وسقطت معه أحزاب يساريّة عربيّة كانت مثقلة (طوعيّاً) بالارتهان للاتحاد السوفيتي. تسابق يساريّون وقوميّون للحاق بالجواد الفائز في الحرب الباردة, وانتشر خطاب الديمقراطيّة وخطاب المجتمع المدني (أو الحراك السياسي, مؤخراً) من دون أي مضمون فكري أو قاعدة شعبيّة. وكالعادة, لا يستورد العالم العربي من الغرب إلا السلع الفاقدة الصلاحيّة, أو يستورد سلعاً مُشوّهة, أو يستورد سلعاً ويشوّهها. لا تستطيع أن تتبيّن الملامح الليبراليّة الغربيّة في الفكر الليبرالي العربي المُعاصر.
لكن الطور الثاني من الليبراليّة العربيّة وقع في نفس أخطاء وتناقضات الطور الأول. كان النموذج الأول جزء من المنظومة السياسيّة للملكيّة المصريّة, أو لغيرها من الأنظمة المتحالفة مع الاستعمار الغربي, فيما نرى اليوم أن النموذج الثاني متحالف ليس فقط مع المشاريع والحروب الأميركيّة في المنطقة, وإنما مع أقسى الأنظمة العربيّة, ومع أكثرها عداءً لليبراليّة، أي مع وكلاء الولايات المتحدة في العالم العربي. لكن بعض الأنظمة العربيّة المُتحالفة مع الولايات المتحدة والغارقة في عائدات النفط وجدت ضرورة لاحتضان أيتام الليبراليّة العربيّة في الإعلام النفطي بعد غزو صدّام للكويت. أرادت الولايات المتحدة الترويج للحرب باسم الديمقراطيّة (وكان ذلك قبل مجيء عصر جورج دبليو) لتسويغ إسقاط وإضعاف نظام صدّام. طبعاً, المفارقة في الترويج للديمقراطيّة في إعلام دول غير ديمقراطيّة ليس بذي بال لأن الإعلام العربي خاضع -مع استثناءات قليلة- لسطوة دولة واحدة. والتوافق بين الليبراليّة العربيّة والأنظمة العربيّة التسلّطيّة قام على أسس مختلفة:
1) أتاح الإعلام العربي مجالات لتوظيف عدد كبير من إعلاميّي العالم العربي خصوصاً بعد توقّف التمويل الإعلامي المضاد (من قبل العراق وليبيا) بعد 1990.
2) يتوافق الطرفان على العداء للحركات الإسلاميّة لكن لأسباب مختلفة. فالأنظمة المعنيّة هي نفسها التي دعمت الحركات الإسلاميّة في حقبة الحرب العربيّة الباردة لإزعاج النظام المصري الناصري, لكنّها عادت وعادتها -أو عادَت بعضَها- بأوامر من الولايات المتحدة خصوصاً بعد 11 سبتمبر/ أيلول. والليبراليّة العربيّة تعادي الحركات الإسلاميّة لأسباب طبقيّة ولأن الليبراليّين العرب يستجيرون من شعبيّة الحركات الإسلاميّة في كنف الأنظمة التسلّطيّة.
3) يتوافق الطرفان على التسليم بحق الولايات المتحدة في السيطرة والهيمنة على كل العالم العربي. ليبرالي عربي (حازم صاغيّة) دعا في خطاب له أمام اللوبي الصهيوني في واشنطن في حمأة حروب بوش في المنطقة كل العرب إلى "تشرّب" عقيدة دبليو بوش في الديمقراطيّة. سارعت الليبرالية العربيّة لتبنّي حروب بوش وغزواته لأملها بالقضاء على أعدائها هي في المنطقة.
4) توافق الطرفان على ضرورة الصلح مع إسرائيل بشروط إسرائيل, وعلى ضرورة القضاء على شعارات تحرير فلسطين ورفض التطبيع مع إسرائيل, وعلى نبذ فكرة المقاومة من أساسها.
5) يمكن القول إن الليبراليّة العربيّة هي السلاح الإعلامي للأنظمة العربيّة اللاليبراليّة, والتي لا تمانع في استخدام الليبراليّة وشعاراته ضد أعدائها في المنطقة (ضد حماس وحزب الله) على ألا يُستخدم هذا السلاح لفضح غياب الديمقراطيّة في تلك الأنظمة نفسها.
لكن 11 سبتمبر/ أيلول وما تلاها من حروب بوش هي التي أطلقت العنان أمام الخطاب الليبرالي العربي في وسائل الإعلام العربيّة. كما أن الولايات المتحدة استخدمت نفس الخطاب في أجهزتها الدعائيّة الموجهة للعالم العربي (من إذاعة سوا لتلفزيون الحرّة إلى ما صدر من مطبوعات بالعربيّة عن أجهزة الدعاية الأميركيّة), ووظّفت عددا من الإعلاميّين الليبراليّين العرب. لكن التناقض لم يُحل: كيف يستقيم الخطاب الليبرالي الذي يستعين بالقنابل والصواريخ الأميركيّة الهاطلة فوق رؤوس الآمنين في العراق وفلسطين وأفغانستان مع وعود الحريّة والديمقراطيّة؟ وكيف يستقيم الخطاب الداعي إلى الحريّة في الوقت الذي كانت حملات "الحريّة" الحربيّة التي أطلقها بوش تُنصّب مجرمي حرب وكهنة وآيات الله ومطلوبين من العدالة وكلّ من لا علاقة له بالديمقراطيّة في مواقع السلطة؟
مصير الليبرالية العربية
من المُبكِّر جدّاً الحكم على مصير الليبراليّة العربيّة. عصر الأيدلوجية العربيّة, أو عصر البحث عن الأيدلوجية الأفضل, ولّى إلى حدّ ما. في فترة ما بعد 1948, انشغل الشباب العربي بالسعي وراء الأيدلوجية التي تعد أسرع تحقيق لأهداف شغلت العقول وألهبت القلوب, مثل تحرير فلسطين والعدل الاجتماعي والوحدة العربيّة وقلب الأنظمة التي تورّطت في حرب فلسطين إلى جانب العدوّ, أو تلك التي تخاذلت. كان ذاك عصر البعث واليسار والقوميّة العربيّة. الأيدلوجيّات الإسلاميّة لم تكن في الراصد الشعبي. كان توجهّها السياسي المُحافظ مُنفّراً كما أن معارضتها المُبكِّرة لعبد الناصر أفقدها الكثير من الشعبيّة. أما الليبراليّة العربيّة فقد أقصت نفسها من السباق بسبب معارضتها لاستقلال, أو مهادنتها للاستعمار, أو تجاهلها الكلّي لقضيّة فلسطين. من يذكر أن طه حسين أو توفيق الحكيم أو نجيب محفوظ شغل نفسه بهمّ تحرير فلسطين؟ الثلاثة صمتوا في الموضوع إلا أن مبادرة أنور السادات بالسلام غير المشروط مع الكيان الصهيوني أثارت حماسة كل الليبراليّين العرب, حتى من كان نائماً منهم.
لكن أعباء جمّة تثقل كواهل الليبراليّين العرب وستشكّل صعوبة بالغة في محاولة الولايات المتحدة والأنظمة العربيّة المُتعاونة معها فرض الأجندة الليبراليّة (والتي, للمفارقة, لا علاقة لها بأهداف الليبراليّة النظريّة) على الرأي العام العربي. المشكلة الأساسيّة في تاريخ الليبراليّة العربيّة تكمن في نفور الجماهير العربيّة منها ومن دعاتها وخطابهم وارتباطاتهم السياسيّة. لهذا, فإن فرص الليبراليّة العربيّة للوصول إلى السلطة لم تتغيّر على مرّ العقود: فهي كانت ولا تزال معدومة. لهذا, فإن الليبراليّة العربيّة تحمل في طيّاتها احتقارا شديداً لأهواء الرأي العام العربي, خصوصاً في توجّهاته الإسلاميّة, ولا تمانع في معارضة الانتخابات الحرّة خوفاً من وصول أعدائها إلى السلطة, أو حرصاً على ديمومة الأنظمة العربيّة التي ترعى الليبراليّة العربيّة في السياسة والإعلام والدعاية والدبلوماسية. أي أن الليبراليّة العربيّة هي أشدّ عداء للديمقراطيّة من أعدائها الذين يتمتّعون بتأييد شعبي.
أما وصول بعض دعاة الليبراليّة إلى مواقع نيابيّة أو وزاريّة فكان بالواسطة, ولخدمة أهداف لا علاقة لها بالليبراليّة أبداً. فدعاة الليبراليّة العربيّة مطواعون في تأييدهم لقمع (وتعذيب) الإسلاميّين—ويتوافق موقفهم هذا مع موقف الإدارة الأميركيّة--, كما أنهم فعّالون تلفزيونيّاً في الإطناب في مديح السلام مع إسرائيل وفي ضرورة وقف كلّ أشكال المقاومة ضد إسرائيل, بالرغم من الهوّة التي تفصل بين مواقفهم وبين مواقف الرأي العام وفقا لكلّ الاستطلاعات المنشورة. وإذا كانت الليبراليّة النظريّة تناصر حريّة الفرد, فإن الليبراليّة العربيّة تناصر حريّة الفرد فقط إذا كان أميراً أو شيخاً نفطيّاً, أو داعياً للتطبيع مع إسرائيل.
وقد وجدت الأنظمة العربيّة فائدة جمّة من الناحية الدعائيّة في الاستعانة في وسائل إعلامها بالليبراليّين العرب (الآتين في أكثرهم من خلفيّات يساريّة أو قوميّة) لتضلّعهم بأصول سك الشعارات وتلخيص البرامج السياسيّة للأنظمة, وخوض حروبها الكلاميّة. لهذا, فإن حازم صاغيّة, عميد الليبراليّين العرب, لا يجد غضاضة من التنديد بنظام عبد الناصر تحت شعار الليبراليّة مع أن 1) النظام المذكور لم يعد قائماً منذ أكثر من أربعين سنة, 2) هناك أنظمة قمعيّة قائمة لا يكتب ضدها كلمة واحدة. فمعركة الليبراليّة العربيّة في حقيقتها هي معركة دعائيّة تهدف إلى الترويج لسياسات وممارسات الأنظمة العربيّة الموالية لأميركا, كما أن المعركة تدخل—صدفة—في باب دعم حروب أميركا, واعتناق المنطلقات النظريّة لإدارة بوش, أو من يخلفه في سدّة الرئاسة. وقد تناسبت إدارة بوش مع طموحات الليبراليّين العرب لأنها عمدت إلى محاربة أعدائهم, كما أنها رأت في العراق كيف نصّبت الولايات المتحدة حلفاء لها من دون أن تكترث لشعبيّتهم أو مصداقيّتهم.
الليبراليّة العربيّة في أزمة: ربطت مصيرها بمصير حروب بوش. لكنها حروب متعثّرة كيفما التفتّ؟ فما الحلّ؟ كيف تخرج من هذا المأزق؟ هل تستطيع البقاء بسبب دعم بعض الأنظمة العربيّة, أي أنه سيكون مصيرها مرتبطا بسيَر غير ليبراليّة. وهنا المفارقة الكبرى!
_______________
بروفسور العلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا-ستانسلاس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.