بين يدي الكتاب هذا المؤلف الصغير هو كتاب صدق، إنه يعطي نظرة موجزة عن عشر سنوات من التجربة في أرض المسلمين عشتها في قلب كبريات المدن العربية للمغرب الكبير أو في القرى الأمازيغية الوعرة. قيمته الوحيدة تكمن في جهده المبذول من أجل الوضوح حتى يكون مطابقا للحقيقة والواقع. فالإسلام معروف عندنا بقدر غير كاف، ونحن لا نبذل جهدا كافيا حتى نكون به أقل جهلا. لقد مرت تقريبا أربع وثمانون سنة منذ أن كتب "ألكيس دو توكفيل" ضمن تقرير رائع قدمه لغرفة النواب باسم لجنة شؤون الجزائر هذه السطور: "إلى اليوم فإن قضية إفريقيا لم تحظ في اهتمام البرلمان وخصوصا في اهتمام مجالس الحكومة، بالعناية التي تفرضها أهميتها. إننا نعتقد أنه من الممكن التأكيد، بدون أن يكون لأحد الحق في الاعتراض، بأن السيطرة بكل سهولة ويسر على الجزائر، واستعمارها الذي تم بسرعة (ويمكن اليوم أن نقول هذا عن كل شمال إفريقيا) (الكتاب كتب في بداية القرن العشرين) هذان العاملان هما بكل تأكيد أكبر مصلحتين لفرنسا حاليا في العالم. إنهما مصلحتان كبيرتان بذاتهما وكذلك من خلال العلاقة المباشرة التي لهما مع المصالح الأخرى: تفوقنا الحالي داخل أوروبا، نظامنا الحالي، حياة جزء من مواطنينا، كبرياؤنا الوطني، كلها أمور مرتهنة هنا بشكل رائع جدا. إننا لم نر لحد الساعة أن السلطات العليا للدولة قد انكبت على دراسة هذه المسألة المهمة جدا باهتمام ومثابرة ولا رأينا من يتابع مسؤولا عنها مباشرة وصراحة أمام البلاد. ولا أحد يبدو عليه إيلاء هذه القضية في إطار سياسة الشؤون الإفريقية، الاهتمام الشديد والمتبصر والمستمر الذي توليه عادة كل حكومة للمصالح الأساسية لبلادها. لا شيء ينبئ إلى الآن عن فكر فريد وقوي، عن خطة مرسومة ومتبعة. إن الإرادة المستنيرة والنشيطة التي تقود على الدوام، وتجبر في بعض الأحيان السلطات الجانبية على العمل، لم تتواجد هنا". إن الزمن الذي تلى ذلك أكد بقوة ملاحظات "ألكيس دوتوكفيل" الصائبة تلك. ونرجو أن تساهم الفقرات الإيضاحية التي سنقرأها في هذا الكتاب بجزء ولو قليل في تشكيل عقلية قادرة على التمكين لإقرار سياسة إسلامية واقعية في العاصمة. سياسة تقوم على نتائج التجارب العملية وتمارس باستمرارية فهي وحدها من شأنها أن تمكن بلدنا من الحفاظ وسط عالم مضطرب على مرتبته كقوة عظمى في إفريقيا وفي البحر الأبيض المتوسط.
الإسلام ونحن إن الاضطراب العام الذي عم الأفكار بسبب حرب دمرت العديد من العقائد والعادات السياسية عن طريق التحول عنها وتغييرها بأسوأ منها في الغالب، ونشرت بعض الميولات والاتجاهات الكامنة أو التي هي في طور الاختمار . هذا الاضطراب الفكري كانت له حساسية؛ خاصة في بلاد الإسلام التي كان العديد منها حتى قبل 1914 في هيجان يتجه نحو تطورات متناقضة وغامضة. لقد اتسمت التحولات التي شهدها العالم الإسلامي بالسرعة لدرجة أن الناظر إليها يحسب أنه منذ عشر سنوات وهو يشاهد تغيرات تمر أمام عينيه تترى، بأحداثها المتقلبة وكأنه يشاهد فيلما سياسيا غاية في البساطة. وحتى نضع الأفكار في وضع أكثر ثباتا، لنتذكر باختصار أهم حلقات هذا المشهد.
ما بعد الرجل المريض لقد عاشت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في مجال السياسة الإسلامية على وصفة "الرجل المريض". فمنذ ما لا يزيد عن خمسة عشر سنة فقط كانت هناك: أربع مجموعات إسلامية لا تزال موجودة على الساحة وتعطي للعالم صورة الدول المستقلة. وكانت تلك هي المغرب، تركيا، وبلاد فارس وأفغانستان. ولقد كانت روسيا وبلاد البلقان تتربص بالثلاثة الأخيرة وهي تلاحظ أولي أعراض نهاية تتمنى أن تكون قريبة. وفي سنة 1911 تم إلحاق ليبيا بإيطاليا، وبعد ذلك بثلاث سنوات مزقت معاهدة "أندرينوبل" تركيا بشكل بليغ وفي سنة 1912بدأت الحماية الفرنسية في المغرب. ثم مباشرة بعد ذلك كانت الحرب العالمية الأولى. وبقدر ما كانت الحرب مستمرة كانت المعاهدات والاتفاقات تصدر مكرسة التقطيع والتفتيت المنهجي للإمبراطورية التركية (الخلافة العثمانية) الشيء الذي كرسته نهائيا معاهدة "سيفر" الهشة وتمت علانية المصادقة على حماية مصر المعلنة مع بداية الحرب ثم مباشرة بعد الحرب تم التوقيع على اتفاقية فرساي والاتفاق الانجليزي الفارسي ليوم 9 غشت 1919 التي تمنح لانجلترا حق مراقبة تنظيم الجيش الإيراني والمالية الإيرانية. وهو ما اعتبر حماية مقنعة وكانت أفغانستان التي كانت وزارة الخارجية البريطانية تعتمد فيها على مواقف الأمير حبيب الله الموالي لانجلترا تبدو محكوما عليها بنفس مصير إيران في مستقبل قريب. السقوط النهائي لقوة الإسلام السياسية كان يبدو أمرا محتوما إذاً، ولكن كان هذا على الورق فقط، وقد بدأت المفاجآت تطلع على الفور. تحت تأثير المصيبة والأفكار الويسونية، وكذلك بفضل تسرب بلشفي دؤوب وحاذق، استغل أخطاء الحلفاء بذكاء، انبثقت في أرض الإسلام حركات منتفضة واسعة الانتشار أمكن تتبعها في مسيرتها من الشرق إلى الغرب كمثل هزة أرضية تنتشر ببطء شديد. كان في البدء وداخل الأناضول الممزقة انبثاق شعور قومي تركي، يتسم بالقوة والجلد، وقد زادته المحن صلابة، قال "رينان" >في العادة لا تحس أمة بذاتها إحساسا كاملا إلا تحت ضغط قوة الأجنبي< لقد حصل هذا بالنسبة لبروسيا سنة 1813 ولتركيا سنة 1919، حيث وفي الوقت الذي كانت فيه إستامبول تعيش مشلولة دون حراك تحت وطأة مدافع الحلفاء المصوبة نحوها قاومت أن?ورا مقاومة باسلة وانتصرت. والنتيجة كانت انتعاشة رائعة للقومية العثمانية، يمكن أخذ فكرة عنها من أحداث لوزان وكذلك تحول وتشبيب فريد لإمبراطورية عبد الحميد ليس أقل مؤشر عليه ذلك الإجراء الثوري السياسي الداخلي الذي أدى إلى إلغاء الخلافة. وفي بلاد الفرس أدت الانتفاضة ضد الإمبريالية الانجليزية، التي استغلها البولشفيون واجتاحوا البلاد إلى انسحاب القوات البريطانية. وهكذا وفي سنة 1921، سنتان فقط بعد الاتفاقية التي كانت تسمح للإنجليز بأمل كبير في السيطرة التامة على إيران اضطر اللورد كورزون في مجلس اللوردات إلى الاعتراف بالفشل التام للسياسة الإنجليزية هناك. وفي أفغانستان أعلن الأمير أمين الله الذي خلف والده المغتال الحرب على انجلترا وتسبب بذلك في مخاوف كبيرة للحكومة البريطانية في الهند، فكان أن تم التوقيع في كابول على سلام يؤكد استقلال أفغانستان، ويحرر الأمير من القيد القديم الذي كان مفروضا عليه بأن لا يربط أية علاقات دبلوماسية مع أية دولة أخرى غير الهند الإنجليزية (1) أما مصر، وبعد جهود مضنية فقد تمكنت من زعزعة القوة الوصية عليها. وفي ليبيا وبفضل حكومة "الإقطاعيين الكبار" الذين وضعت فيهم إيطاليا ثقة بدون حذر، في نفس الوقت الذي كانت فيه تصدر دستورا غير قابل للتطبيق تحركها بسذاجة ليبرالية للواجهة فقد انتهى الاحتلال الفعلي إلى أن تقلص ليكتفي فقد بمدينة طرابلس وضواحيها. أما بالنسبة لتونس فإن النشر الذي تلاه ضجيج كبير للوثيقة المعادية لفرنسا "تونس الشهيدة" وكذلك ما حدث في مارس من تجوال لوفد تونسي من الشباب الثائر مدعوما من "شيوخ معممين" ساخطين، وتحركات القصر، كلها عوامل كانت مؤشرا على اضطرابات قوية تدفعها الرغبة في الاستقلال. وصلت إلى أوجها زمنا قليلا قبل سفر السيد "ميلراند" وقد كان من الواجب التصرف ضدها على الفور ودون انتظار. وفي الجزائر فإن التطبيق الذي لم يكن في محله لقانون 1919 والمتعلق بالانتخاب قد سمح لمثيري القلاقل بأن يشيعوا حالة من الفوضى وعدم الاستقرار.
الهدوء المغربي وأخيرا في المغرب فإنه إذا ظلت المنطقة الفرنسية من المملكة هادئة فإن ثورة الريف ضد الإسبان والإعلان ولو بالاسم عن جمهورية ريفية قد أشارا في نفس الوقت إلى تأقلم متعجل بعض الشيء لدى البرابر الفظاظ مع النمط السياسي وكذلك إلى رغبة منفردة في التخلص والاستقلال عن نيراستعماري ثقيل بقدر ما هو أرعن. هل هذه الحركات المختلفة والتي كلها تقريبا متلازمة يمكن اعتبارها ثمرة عابرة للاضطراب والتشوش الذي زرعته الحرب في الأذهان؟ أليست في الأخير مجرد تعبير عن تلك الانتفاضات القصيرة العمر وصحوات العزيمة التي طالما أظهرها الإسلام عبر تاريخه ليعود بعدها إلى السقوط أكثر في سباته المعتاد؟ أم أن الأمر يتعلق بالفعل تحت تأثير الصدمة المزدوجة للمحنة المفروضة وللمثل الذي يقدمه الغرب بنهضة حقيقية، مشابهة لتلك التي أخرجت في الغرب العصور الحديثة من رحم القرون الوسطى وأفرزت مسارا هائلا لا يمكن التنبؤ الآن ولا حساب تطوره في المستقبل ولا تداعياته اللامتناهية بالنسبة لمستقبل العالم. هنالك رأي ظل سائدا لمدة طويلة ويبدو أنه نتج عن وقائع وهو الرأي الذي ينحو إلى إظهار أن الإسلام يمثل سلطة للجمود وللركود، معادية للحضارة الغربية التي ترفضها بشكل غريزي، ولكن الواقع أنه على عكس المظاهر وعلى رغم بعض الإيحاءات التي تخدع الجاهلين غير المتمرسين بممارساته وبرجاله وأموره، فالإسلام غير قابل للتغيير وهو عاجز في جوهره عن ممارسة تطور طبيعي مفيد ونافع، إنه يمثل كتلة ستبقى إلى الأبد عاجزة عن أن تتساوى في طاقتها وفي روحها مع الأممالغربية. وخير مصير يمكن أن يحدث للدول الإسلامية هو أن توضع سواء برضاها أو رغما عنها تحت وصاية سلطات أجنبية توفر لهم إدارتها الصارمة نعمة النظام الذي هم عاجزون عن إقامته بأنفسهم. كان "رينان" قد نادى بهذه الأطروحة التي كانت تبدو أنه يؤكدها ويدعمها تقريبا جميع رجال الميدان ورجال الفكر الذين عاشوا في أرض الإسلام. ومنذ حوالي عشرين سنة كان معمرون وإداريون وضباط من الجزائروتونس، من أولئك الذين أمضوا حياتهم حتى شاخوا في الجندية كانوا متفقين على ذلك. ولقد عبر اللورد "كرومر" بشكل لافت عن وجهة النظر هذه عندما قال: "لا يمكن إصلاح الإسلام، لأن الإسلام إذا أصلح لن يعود هو الإسلام، ولكن سيكون شيئا آخر". ويبدو أن الأمثلة تترى لتعزيز هذه الحقيقة. فالتاريخ يروي لنا عن الحالة المزرية لإفريقيا الشمالية خلال فترة الفراغ في السلطة التي دامت طويلا ما بين حكم الإمبراطورية البيزنطية والهيمنة الفرنسية، عندما ترك السكان الأصليون والعرب لأنفسهم فلم يكونوا يقومون إلا بالنهب وتخريب البلاد، في خضم فوضى عارمة. إن الملاحظة الأساسية عن دول المشرق سابقا تظهر تميزا حزينا لدى هذه الدول، يتمثل في ازدراء فكر التخطيط للمدى البعيد وغياب أي مثل عليا للفضائل المتمدنة، الرشوة والابتزاز المقبولين كأمر عاد بل المعتبرتين كمؤسسات قائمة، الخمول الكبير والمتجذر الذي لا تخترقه إلا أزمات عنيفة نادرة لا تكتسي أهمية كبيرة. في أي حالة من العجحز والتعفن الداخلي وجدنا المغرب، الذي هو الآن بعد استسلامه لسلطتنا وخضوعه لضوابطنا أخذ يخرج بسرعة من فتوره وجموده، وربما غدا سوف يكون علينا إيقاف ازدهاره المقلق والذي قد ينقلب بسرعة ضدنا. ترجمة: ابراهيم الخشباني