مذكرات جاسوس فرنسي أيام الاستعمار العسكري الفرنسي "موجز دليل السياسة الإسلامية"
هذا الكتاب وثيقة هامة رفعها جاسوس خبير للسلطات الفرنسية أيام استعمارها للمغرب. طبعته الثالثة كانت سنة 1925. والكاتب الذي أعده لم يظهراسمه واكتفى بإسناده إلى "أفريقي". وأهمية الكتاب مردها إلى الخطة التفصيلية الدقيقة التي قدمها الكاتب ليتم التحكم في المغرب الإسلامي وإفراغه من تراثه الضخم، وذلك عن طريق سياسة إسلامية هي التي يقصدها الكاتب في العنوان الذي اختاره وهو"موجز دليل السياسة الإسلامية": في الحلقة الأولى استعرض المؤلف أوضاع العالم الإسلامي عشية الاستعمار الشامل، وركز على حالة كل من المغرب وأفغانستان وتركيا وبلاد فارس. وعند حديثه عن المغرب كان الرجل قد انتهى في الحلقة السابقة إلى أنه «بعد استسلامه لسلطتنا وخضوعه لضوابطنا أخذ يخرج بسرعة من فتوره وجموده، وربما غدا سوف يكون علينا إيقاف ازدهاره المقلق والذي قد ينقلب بسرعة ضدنا». ونتابع في هذه الحلقة تحليله لأوضاع العالم الإسلامي والمغرب الأقصى، ونشير في البداية إلى حقد دفين أظهره الكاتب بخصوص الدولة العلوية الحاكمة بسبب وقوفها الشجاع ضد الغزو المسيحي، وأمنيته في أن يكون المغرب مثل تركيا.
الإسلام لن يقبل التجديد ومعلوم أنه في كل مرة لمع الإسلام في العالم بتوهج ما، لم يكن ذلك أبدا إلا عندما ضخت فيه حضارة جارة احتك بها فضائلها الفعالة ورفعته بشكل ما فوق مستواه الحقيقي. ألم تكن فترات الرخاء والعيش الرغيد لمالك الأندلس في القرون الوسطى، وأسلوب الحياة الناعمة والميول إلى الاتجار والمضاربة مصحوبا بالتعاطي للأعمال وإدارتها لدى ساكنة فاس، ألم يكن كل ذلك نتيجة التأثير الوافر للعبقرية اليهودية التي بذرت هنالك، مزايا لم تكن لترى النور لولا عطاؤها؟ والإشعاع الوحيد الذي عرفه المغرب في عهد السعديين في بداية القرن السابع عشر، ألم يكن نتيجة لكون بلاد المغرب العربي كانت آنذاك في اتصال مباشر ودائم مع أوروبا؟ لقد كان المغرب منذ ثلاثة قرون أكثر انفتاحا على كل ما يأتي من أوروبا، مما هو عليه اليوم في بداية القرن العشرين، لقد كانت حقبة السلاطين السعديين لامعة بشكل لا مثيل له بسبب اتساع وفاعلية العلاقات المباشرة مع الأمم المسيحية: هذه الأمم كانت تزود السلاطين بالحرس الخاص المكون من المارقين والخونة، وبمكوني العساكرومدربيهم، بل وبالموظفين السامين، دون أن نعد المهندسين والمعماريين والفنانين. إن معركة الملوك الثلاثة الشهيرة في القصر الكبير التي شهدت مصرع ملك البرتغال دون سباستيان تسجل أوج القوة العسكرية المغربية في نهاية القرن السادس عشر. وفي المجال البحري فقد كان هناك قراصنة سلاويون مادامت هولاندا وأنجلترا تقبل بتزويدهم بالسفن وعتادها، وربما كذلك بالربابنة ووكلاء الشحن لتعليم الأطر وإدارة هؤلاء الذين تحثهم الرغبة في النهب وتدفعهم إلى سبل المغامرة. أما السلالة الحاكمة حاليا، والتي جاءت نتيجة رد فعل المتزمتين الصحراويين، قاصري النظر ومحدودي الذكاء والمتوحشين الذين قاموا ضد هذا التسرب المسيحي فمع أن هذا الانسلال والتسرب مفيد، فقد انتصبت بقوة وبشكل جذري ضد كل تأثير أجنبي على مصير المغرب. ولقد نتج عن ذلك هذا التراجع والانحطاط العميقين منذ فقط عشرين سنة. ولو أن المغرب قد تطور في الاتجاه الذي وضعه فيه الأمراء السعديون لكان قد أصبح بسرعة بمثابة تركيا الغرب الإسلامي. إن تركيا ومصر تسودان العالم الإسلامي بدون منارع بفضل سهولة تكفيهما مع العادات والطبائع الأروبية؛ والسبب ألا يجب البحث عنه في ذلك الامتزاج في الأجناس الذي بلغ أبعد مدى له في قلب المدن الكبرى لبلاد المشرق، عندما ضم حريم المصريين والتركيين خلال القرن التاسع عشر العديد من النساء من أصول مسيحية، مما وفر بالتالي مساهمة لا يمكن إهمالها بالدم الغربي الذي مد أبناء الشرق بعناصر ذكية ونبيهة. كل هذه الأدلة لا تكفي لإقناع أصدقاء الإسلام، الذين يردون عليها بكون الإسلام ليس ذلك الهيكل الجامد الذي يمكن استشفاف حقيقته من خلال نظرة سطحية فقط، إن الحضارة الإسلامية كانت منذ ثمانية أو تسعة قرون هي الأكثر ازدهارا في العالم. وكان "شرلمان" يعتبر فظا خشنا مقارنة مع هارون الرشيد. إلا أن الواقع يؤكد أن الإسلام عاش بعد ذلك حقبة طويلة جدا من التواري والاختفاء عن الساحة الحضارية، ومن الحياة الرتيبة الخاملة، مما يكذب احتمال إذا خرج من حالته القرون وسطية التي يعيشها الآن أن ينطلق نحو مرحلة جديدة، حيث مع محافظته على أصالته الخاصة يمكن أن يعيش وجودا متجددا لا حد لترقيه وتقدمه؟ فهذا احتمال غير وارد. فالإسلام كان يوجد بالأمس في القرن الخامس عشر في نفس مرتبة المسيحية وذلك مع بدايات عصر النهضة. "فهناك نفس سيطرة العقيدة على العقل، ونفس الإذعان الأعمى للتعاليم وللسلطة، ونفس الريبة ونفس العداء تجاه حرية التفكير وتجاه العلم". أليست وضعية المؤمنين القدامى هذه نفسها وضعية الكنيسة الكاثوليكية قبل الحركات الكبرى للنهضة؟ ومع ذلك فإن العقيدة الإسلامية الصافية ربما تكون أقل انغلاقا على التقدم وعلى التحولات الضرورية مما يظن؛ وذلك بمقتضى المبدإ التقليدي المعروف ب "الإجماع"، وهو توافق أغلبية المسلمين حول أي مقترح جديد تكون له قوة القانون. قال "?ولدزهير":»إن مبدأ الإجماع يتضمن في داخله الإمكانية بالنسبة للإسلام أن يتحرك بحرية وأن يتطور. فهو يوفر فرصة مناسبة لتصحيح طغيان الكلمة الميتة والسلطة الفردانية. ولقد تأكد بوضوح في الماضي على الأقل كعامل أساسي في قدرة الإسلام على التكيف». ففي الهند كانت هناك مدرسة بأكملها من المتحررين المسلمين، الذين كانوا يسمون بالمعتزلة الجدد، قد تمكنت من إنجاز عصرنة كاملة للإسلام. وقد كتب أحد كبار ممثلي هذه الفرقة "سي قدة بوخش" يقول: «لا شيء بعيدا عن تفكير الرسول، إلا أننا ننسق ونربط بعض القوانين القارة والجامدة ونبسطها للأتباع، إن القرآن كتاب من المفروض أن يكون دليلا للمؤمنين في طريقهم وليس حاجزا يعوقهم في طريقهم نحو التطور الاجتماعي، والروحي والتشريعي والثقافي». ويضيف قائلا: «إن الإسلام المعاصر في تراتبيته الكهنوتية وفي تعصبه الفظ وفي ممارساته المتسمة بالخرافية هو بدون شك سبة وعار بالنسبة لإسلام الرسول محمد». ويخلص مجاهرا بعقيدته الليبرالية على النحو التالي:»هل الإسلام معاد للتقدم؟ جوابي هو لا، فالإسلام لو جردناه من شريعته، فإنه دين بسيط كل البساطة، إن جوهره الأساس هو الاعتقاد بإله واحد والاعتقاد بأن محمدا رسوله، والباقي هو مجرد إضافات زائدة غير مجدية». إضافة إلى ذلك فإن الصلابة البدائية والفجة التي يتسم بها الإسلام والتي هي قد أحدثت أصلا من أجل ضمان الحماية له من تأثير الاتصال مع ديانات أخرى على صفائه، هذه الصلابة لم يعد لها مبرر الآن، فزمن الحروب والصراعات الدينية الكبرى يبدو أنه قد انتهى في العالم اليوم إلى زوال، فلم تعد هناك حروب صليبية. فالمسيحية اليوم متسامحة، وكذلك الإسلام الذي أنجز مؤخرا في تركيا علمنة جد جذرية. صحيح أن الإسلام هو في حقيقته أكثر من مجرد ديانه فهو في نفس الوقت عقيدة وشريعة إنه منهاج حياة، وهو في الأخير حضارة تكسب المسلمين في كل العالم القدرة على اتخاذ موقف موحد أمام المشاكل الإنسانية والإلهية، والتعامل معها تعاملا متشابها، وتكسبهم نفس الأسلوب في التخيل وفي التفكير التجريدي ونفس الإحساس، ولكن اليابان أيضا تمتلك حضارة أصيلة خاصة بها، إلا أن ذلك لم يمنع اليابانيين من التطور والنمو بشكل مدهش في ظرف نصف قرن، واليابان اليوم يعتبر مثالا رائعا في استيعاب نتاج حضارة أجنبية عنه في ظرف وجيز، وذلك مع الحفاظ على تراثه الثقافي والمعنوي الذي كان دائما هو قوته الكبرى تقريبا دون أن يمسه التغيير. ويخلص المسلمون المتفائلون إلى أنه لا شيء يقف ------------------------------------------------------------------------ حاجزا، أما أن يكون الإسلام مماثلا للمسيحية التي حافظت على ديانتها وانتقلت في نفس الوقت من القرون الوسطى إلى الأزمنة العصرية ومن الأزمنة العصرية إلى الثورة ثم إلى الزمن المعاصر، ويمكن لإسلام أن يتغير كلية في مجال الممارسات والتطبيقات اليومية دون أن يتغير شيء في أسسه الاعتقادية والفكرية. ثم إن دينا يضم 052 مليون من الأتباع ويستقطب كل سنة عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من المنتمين الجدد إليه، يمتلك إذن حيوية وقوة كبرى في الانتشار، مما يجعل أن عقيدته لا يمكن أن تتغير أو تتبدل، في حال عصرنة ممارسات وسلوكيات جموع المسلمين. ولكن بشرط عاجل، هو أن لا يتم إخضاع مراكزه التقليدية والبدائية إلى أية سيطرة أجنبية واضحة وإفقادها بذلك مصادر توهجها ولمعانها. إن نهضة الإسلام السياسي بمعنى انعتاقه وتحرره تبدو إذن ضرورة حيوية من أجل الحفاظ على الإسلام الديني واستمرارية انطلاقه. مثلها في ذلك كمثل اليابان في منتصف القرن التاسع عشر، فإن الدول الإسلامية وبالخصوص تركيا التي هي على رأسها، يجب عليها إما أن تتأقلم أو تنقرض. وهذا ما فهمه، خلال القرن الأخير كل من محمود الثاني في تركيا ومحمد علي في مصر الذين قلدا بشكل مرتبك المؤسسات الأوروبية، ثم بعدهما أوائل الشبان الأتراك الذين حاولوا تجريب إقامة برلمان بشكل عابر وسطحي، وكجميع محاولات الرواد فإن عملهم وبعد أن لوح ببريق فاتر قد فشل، وأعيدت المحاولة سنة 8691 من طرف الأجيال اللاحقة والتي أنجزت الثورة في بلاد فارس وفي تركيا ولكن العملية بكل أسف افتقرت كذلك لأسس متينة تقوم عليها: فالعقول والقلوب لم تكن بعد قد نضجت لتقدم دعما فعالا لمؤسسات أدخلت حديثا. فالأقليات التركية والفارسية التي كانت تقود هذا الجهد لم تكن مدعومة بضغط من حركة شعبية كبيرة. لقد كان الأمر يحتاج إلى ظهور حركة قومية تكون هي الأخرى منبثقة من مخلفات آلام الحرب ومن التطلعات غير المتخفية للأمم الأوروبية، تحل محل الدعوة إلى الوحدة الإسلامية السابقة حتى يمكن إنجاز النهضة الحالية للعمل السياسي في بلاد الإسلام.
كثير من الخير.. كثير من الشر لقد كانت الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، من خلال التسلسل الزمني هي أول حركة كبرى قامت كرد فعل على غزو القوات الأوروبية لدول الشرق التي كانت قد سقطت في نهاية القرن الثامن عشر في حالة عميقة من الفوضى والفراغ على مستوى الحكم، وهي الحالة التي كان المغرب منذ عشرين سنة فقط يعطي فكرة دقيقة عنها. إن الانتفاضة العابرة للحركة الوهابية، الوجيزة في المكان وفي الزمان، ولكن العميقة في النتائج بفضل طبيعة نهضتها الدينية وتجديد الفكر العام، والدعوة السنوسية وتكاثر الزوايا الدينية، وكذلك العمل الشخصي للخليفة عبد الحميد الثاني ووكيل دعايته العملاق جمال الدين، كل هذه الحركات سجلت، في أقل من نصف قرن أكبر مراحل الدعوة إلى الوحدة الإسلامية في الشرق الأوسط. إن الوحدة الإسلامية الواجب تعريفها، هي في المرتبة الأولى التأكيد المطروح كمبدإ والتوسع المرسوم كهدف للتضامن المعنوي الذي يربط كل المسلمين فيما بينهم؛ ثم هي بعد ذلك الاعتقاد يقينا بأن الإسلام يملك في ذاته قدرات روحية جد قوية لتضمن له التجدد المادي والمكانة المعتبرة. إنه في إمكان الإسلام أن يستلهم ويستفيد من جميع التحولات السياسية والتشريعية والاجتماعية، وكذلك من المناهج التي تفجر العنفوان والجدية المؤسسة للأمم الغربية، ولكن عليه أن يدمجها في مجتمعاته عن طريق أقلمة شخصية وليس عن طريق نقلها حرفيا، تسخيرها، ولكن بإخضاعها لأشكال نبوغه الخاص. وهذا ما يذهب إليه أحد المفكرين الشباب في مصر يحيى صديق، حين يقول في كتابه "صحوة الشعوب الإسلامية في القرن الرابع عشر الهجري" والذي صدر في القاهرة سنوات قليلة قبل الحرب العالمية الأولى: "تأملوا هذه القوى العظمى التي يدمر بعضها بعضا بالأسلحة الفتاكة، والتي تضع قواها موضع مقارنة فيما بينها بنظرة التحدي، مهددة بعضها بعضا، مبرمة تحالفات تنقصها على الدوام والتي تنذر بهذه الأمور الرهيبة التي تجعل العالم عاليه سافله، ملحقة به الخراب، والدم والنار، إن الأمر لله ولا يدوم إلا ملكه". هذا الكتاب رغم أنه كتب قبل الكارثة الأوروبية فإنه كان قد تنبأ بالحرب الأوروبية. ومعلوم أن كاتبه يحيى صديق مجاز في الحقوق من جامعة تولوز، وقد أصبح فيما بعد قاضيا في بلاده. يحيى صديق هذا يعتبر العالم الغربي منحطا عندما يضيف معلقا: «هل هذا يعني أن أوروبا رائدتنا وقائدتنا المتنورة قد بلغت أقصى حد من نموها؟ هل استنفذت كل قواها الحية في ظرف قرنين أو ثلاثة قرون من الإجهاد؟ وبتعبير آخر، هل أصابها الهرم، وأصبحت في طريقها قريبا إلى التخلي عن دورها الريادي في إقامة الحضارة الإنسانية لفائدة شعوب أخرى أقل انحطاطا منها وأقل إنهاكا في أعصابها؟ أي أكثر شبابا، وأكثر قوة، وأكثر طهرا وتقوى منها؟ في رأيي فإن أوروبا قد بلغت حاليا أوجها، وتوسعها الاستعماري المفرط هو مؤشر ليس على القوة ولكن على الضعف. فعلى الرغم من هالة العظمة والقوة والمجد فإن أوروبا اليوم أكثر تفرقا وتشرذما وأكثر هشاشة من أي موقت مضى، وهي تحاول دون جدوى إخفاء سقمها وآلامها وقلقها، إنها تسير نحو قدرها المحتوم، رغم أنفها". ويضيف هذا المفكر قائلا: "إن الاتصال بين أوروبا والشرق قد أتانا بالكثير من الخير والكثير من الشر: الكثير من الخير من وجهة نظر مادية وثقافية، والكثير من الشر من وجهة نظر أخلاقية وسياسية. فعلى الرغم من الإرهاق الذي أصابهم من جراء الصراعات الطويلة، ومن النرفزة التي أصابهم بها استفزاز حضارة متوهجة، فإن الشعوب الإسلامية لم تحس إلا ببعض العناء، ولكنها لم تصب في القلب، إنها لم تمت، إن هذه الشعوب المغلوبة بقوة المدافع لم تفقد شيئا من وحدتها، حتى تحت نير أنظمة القمع التي أخضعتهم لها أوروبا لأمد طويل... لقد قلت إن الاتصال بأوروبا كان منقذا لنا من الناحية المادية والثقافية، فما كان الأمراء المسلمون دعاة الإصلاح يريدون فرضه على رعاياهم بالقوة، قد تحقق اليوم مائة مرة، فخلال الخمسة وعشرين سنة الماضية كان تقدمنا في مجالات العلوم والآداب والفنون معتبرا لدرجة أننا يمكن اليوم أن نأمل أن نصبح في هذه المجالات متساوين مع أوروبا في أقل من نصف قرن..
على عتبة عهد جديد
إن عهدا جديدا يفتح أبوابه أمامنا مع قدوم القرن الرابع عشر للهجرة، ويجب أن يسجل هذا القرن السعيد انطلاق صحوتنا ومستقبلنا الباسم؛ فهناك روج جديد يحرك الشعوب الإسلامية من جميع الأعراق، فقد أصبح لدى جميع المسلمين الإحساس بضرورة العمل والتكوين. إننا جميعا نرغب في السفر، والقيام بالأعمال، وسبر الأغوار واقتحام المخاطر. لقد أصبحنا نشاهد لدى المسلمين في الشرق حركية مدهشة، ونشاطا لم يكن معروفا لديهم منذ خمس وعشرين سنة. فالآن أصبح يوجد بالفعل رأي عام حقيقي في بلاد الإسلام". ويختم المؤلف بقوله: "علينا بالصمود! وليكن جهد كل فرد منا من أجل الجميع، ولنأمل، لنأمل، لنأمل! إننا منطلقون نحو سبل التقدم، فلنغتنم ذلك! إن طغيان أوروبا نفسه هو الذي أدى إلى تحولنا! إن اتصالنا مع أوروبا هو نقسه الذي يدفع بنا نحو النمو والتطور ويستعجل الساعة الحتمية لصحوتنا. إن الأمر لا يعدو أن يكون فقط إعادة لدورة التاريخ. إن إرادة الله تتحقق رغم كل معارضة وكل مقاومة... ووصاية أوروبا على الآسيويين آخذة في التلاشي، وأبواب آسيا تغلق في وجه الأوروبيين! وإننا لنرى بكل تأكيد أمامنا ثورة لا مثيل لها في تاريخ العالم. إن عهدا جديدا يقترب". هذه الكلمات كتبت منذ أزيد من خمسة عشر سنة، ولم تزد الحالة التي نشير إليها إلا تأكيدا اليوم بعد الحرب العالمية الأولى ولم تزدد إلا انتشارا في دوائر أكثر فأكثر اتساعا. وقد ظهر ذلك جليا من خلال الحركة المصرية من أجل الاستقلال وكذلك مؤخرا في مؤتمر لوزان. فقد كتب أحد الصحفيين المعتمدين في هذا المؤتمر الدبلوماسي ما يلي: «إن الأتراك يعيشون وسط حلم بالمجد العسكري والسلطة المطلقة، إنهم يحتقرون الغرب وعاداته وقوانينه وطبائعه الاجتماعية. ويعتقدون في قدرتهم بفضل جيشهم المكون من 000002 رجل على المضي هذه المرة أبعد بكثير من أسوار فيينا. وقد قال أحدهم بالأمس لأحد الأوروبيين: "هل تجدني مختلفا جدا عن أي فرنسي أو إنجليزي عندما أتحدث إليك؟ ومع ذلك هل تظن أنني قد تلقيت تكوينا أو تربية أوروبية؟ إن كل ما أفعله وأقوم به قد تعلمته في بلدي ومجتمعي، وأنا أخضع لقوانين وتشريعات تركية، ولأخلاق تركية، وعليك مع ذلك أن تقر بأنني بذلك وكفؤ لك". وسواء أتعلق الأمر بأصغر موظف في البعثة أو رؤسائه. فهناك نفس تفاقم السعور بالذات، ونفس الكبرياء المحبطة ونفس التخوف من التعرض للمعاملة بالدونية ونفس الحذر من الغرب». إن الحركة الكبرى لنشر الإسلام وتوحيد المسلمين التي بدأها جمال الدين الأفغاني لازالت متواصلة، وتزداد حيوية. وقد ساعدتها الظروف بقوة. فالتوفر الهائل والرخيص لوسائل الاتصال، تلغراف، صحافة.. يسهل بشكل غريب هذا التغلغل في كل أطراف بلاد الإسلام. وإفريقيا الشمالية هي في هذا الصدد حقل ملاحظة ومتابعة جد مهم. وتنامي الظاهرة يتم هنا تحت أعيننا بشرعة كبيرة. فالكل يعرف القلاقل التي اندلعت في تونس مباشرة بعد الحرب، وكذلك الأحداث التي صبغت الحملة الانتخابية في سنة 9191 بالجزائر. ولقد كان الغرب قبل الحرب غير آبه بالمرة بما يجري في باقي العالم الإسلامي الذي لم يكن يتواصل معه أبدا إلا بمناسبة مواسم الحج إلى مكة. وكان ما يحدث في استامبول يقابل في المغرب ببرود، لقد كان المغرب القديم يعيش منعزلا في إمبراطوريته الواقعة في بلاد مغرب سالشمس ما بين الأطلس وبحر الظلمات. ولم تكن ضوضاء الخارج لتزعجه أو حتى لتثير فضوله. ولكن ها هو اليوم يخرج من استخفافه الأزلي تجاه الشرق المتوسطي ويبدي اهتمامه بالشؤون العثمانية، ويغتبط معنا للنصر الذي حققه مصطفى كمال أتاتورك؛ وها هم شباب فاس يجولون حول القرويين وهم يحملون تحت زرابي الصلاة التي يتأبطونها جرائد قادمة من تونس أو من القاهرة تركتها الرقابة تمر عمدا. وكذلك هنالك آخرون من الرجعيين الحزبيين القادمين أحيانا من قرى بعيدة جدا يدفعهم مقدموا الزوايا الدينية، أو غيرهم من المتدينين. أكثر حداقة بكثير من الدعوة إلى الوحدة الإسلامية فإن القومية العربية هي مع ذلك أكثر غزارة وخصوبة في نتائجها الإيجابية، وقد جاءت هذه الحركة لتمنح للشعوب الإسلامية توجهات أكثر وضوحا في تطلعاتها.
ظهور فكرة الوطن في مصر وفي الحجاز، ولكن على الخصوص في تركيا التي هي الآن على رأس النهضة الإسلامية الجارية الآن، فإن فكرة الوطن التي ظلت إلى ذلك الوقت ذائبة ومتخفية داخل المفهوم العام لأمة إسلامية كبرى ذات الحدود المطاطة أو على العكس المحصورة في حدود القبيلة أو العشيرة، فكرة الوطن هذه قد نشأت في قلب الجموع بعنفوان ظاهر. وهكذا فالإسلام التركي الذي كان مهددا قد انتهز الفرصة بشكل غريزي، القيمة التي هي بشكل ما قيمة محورية لفكرة الوطن للحفاظ على استقلاله. فهذه الفكرة وحدها قادرة على تجميع كل القوى المبعثرة، وعلى إدماجها في إطار نفس الغاية. وبتعبير أوضح تشكيل جبهة واحدة، ولربما يكون الشرق الأوسط قد استوعب ما رآه في الماضي من مصير مأساوي للشعب اليهودي الذي عاش في قمع دائم لأنه يدون وطن، وكان دائما حياة منغصة، لأنه كان دائما محكوما بالعيش عند الآخرين، ويبدو أن الحرب في كل العالم قد فاقت لدى حتى أصغر المجموعات العرقية الرغبة في إثبات الذات والاستقلال. يؤكد القوميون الأتراك الحاليون بأنه إذا كان إصلاحيو سنة 8091 كانوا منظرين إيديولوجيين، متحمسين لأفكار الحرية، والمساواة وتقدم نظري، فإننا نحن نمتح من الفكرة القومية إن رغبتنا هي أولا وقبل كل شيء في الانعتاق: يجب تحرير تركيا من الوصاية السياسية لأوروبا، يجب أولا أن نكون أسيادا في بلادنا. وعندما يوجه السؤال إلى الأتراك في هذا الشأن فإن الجواب لا يختلف بين تركي وآخر: "مهما يكن حجم بلادنا فإن المهم هو أن نكون سادة فيها، إن مسائل الحدود لها أهمية أقل عندنا ممن تلك التي تستهدف الضمانات المالية والاقتصادية التي تطلبونها منا والتي تلغي استقلالنا إننا مستعدون للاكتفاء بإقليم واحد إذا كنا متأكدين من التخلص فيه من كل استسلام». هذا الإجماع يؤكد إلى أي حد كانت الشروط التي أدت إلى القطيعة في مؤتمر لوزان الأول تشكل بالنسبة للأتراك نقطة جد حساسة، بل أدت تقريبا إلى الانفعال... "فيبدو وكأن الأتراك يقولون لنا: "لماذا تطالبوننا بضمانات لا تطالبون بها دولا أخرى، ألا يعني هذا اعتبار الشعب التركي عاجزا ودونيا؟". وبهذه الرغبة العنيفة في العيش الحر وفي تنظيم مصائرهم الوطنية بأنفسهم حتى يتمكنوا ممن مواصلة احتلال مكانتهم في العالم، وهي رغبة تترجمها في الغالب حساسيات مفرطة ولا تستند على أساس، تتجلى لدى الأتراك، تلك البذرة الراسخة والحبلى بالوعود المبشرة بنهضة سوف تقدو معها دون شكل كل بلاد الإسلام فيما بعد. إن تركيا تعيد إذن إنتاج التجربة التي خاضتها اليابان منذ سبعين سنة. ولكونها توجد اليوم بفضل نموها وبفضل قيمة نخبها في الصف الأول بالنسبة لبلاد الإسلام فإن تركيا تستطيع بفضل المثال الذي تقدمه وبفضل نظامها المثالي أن تنشئ في بلادها تحولات عميقة في ظروف وجودها، إن المصير العصري للإسلام من موكادور إلى طهران متعلق بالكامل على حظوظ نجاح هذه التجربة التركية.
شروط النهضة ولقد تم بالفعل إنجاز أو خطوة في هذه النهضة: وهي ذات بعد سياسي وعسكري. وهذا كثير كمؤشر ولكنه لازال قليلا كإنجاز عملي. إن الشرط الأساس لنهضة شعب قد تم إنجازه، إن الأساس قد أقيم بالفعل ويبقى تشييد الصرح. إن المشروع المبتدأ أو المتسرع لسنة 8091 قد ظنت أنه بإصلاحات متسرعة ومموهة يمكن تغيير الأمة. ولكن تلك الإصلاحات لم تستمر إلا على الورق. وهناك قولة "لأوكيست كونت" على كل الإصلاحيين تأملها، وهي المتعلقة بالخطإ الذي يرتكبه كل من "يفوض للقوانين مهمة إيجاد الحلول التي من الواجب تركها فقط للسلوكات والأخداق». إن الإصلاح لا يتم ولا تكون له قيمة إلا بقدر ما يتم تهييئ الأرضية الاجتماعية والأخلاقية بشكل كاف لجعل هذا الإصلاح مثمرا، أما إذا لم توجد الإصلاحات إلا في القول فقط بدون فعل فإن عمرها يكون قصيرا ووجودها عابرا. إن العمل الإرادي الذي أنجزته حكومة "أنكورا" التي حازت نجاحا كبيرا على الصعيد الخارجي، يجب اليوم أن تقرنه بالانكباب على العمل الكبير في الداخل، إن الأمر يتعلق ببناء أمة عصرية فقط، لا أقل ولا أكثر، ومن أجل ذلك لازال هناك كل شيء ينتظر إنجازه الفعلي في مجال الأشغال العمومية، والتشريعات والاقتصاد الاجتماعي، وهذا ليس عمل يوم، الحياة الدولية، ويجب إلى جانب تكييف الشعب التركي مع متطلبات الحياة الدولية، الحفاظ كذلك على تطلعات هذا الشعب وتطلعات الإسلام دون مساس، وهو ما يعني لهما معا (أي الشعب التركي وإسلامه) الهيكل العام والمنطلق، بل مبرر الوجود. إن المحاولة التركية التي يتركز عليها نطر بلاد الإسلام كلها بالمتابعة والترقب، تمنح بالنسبة لمستقبل العالم مركز اهتمام خاص، وسيكون من غير المفيد الاسترسال في توقعات سابقة لأوانها. ولكن يمكننا مع ذلك الإعلان من الآن أنه يستحيل تماما أن ترى دولة تركية قائمة بقوة تصبح وهي على أبواب أوروبا، نواة لروح تجميعية وتوحيدية للمسلمين يمتد مداها من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي. أفلا يكون النموذج الأمثل لهذه الوحدة الإسلامية متمثلا في إنشاء ولايات إسلامية متحدة متحررة من كل ارتباط مع مستعمريها السابقين؟ وقد يبدو مؤتمر الوحدة الإسلامية المنعقد في بداية سنة 1291 "بسيوا" كمؤشر حامل للمبادرة بالنسبة لهذه الحركة الوحدوية. إن تفكيرا سياسيا جذيرا بحمل هذا الإسم ، يجب عليه تتبع التطلعات والتيارات التي تخترق المجموعات الإسلامية على اختلافها، وفي فرنسا فإن اهتماما كهذا يفرض نفسه أكثر منه في أي بلد آخر. إن إمبراطوريتنا في شمال إفريقيا تشدنا إليها بالكثير من الروابط، إنها تمثل قاعدة قوتنا ونفوذنا في البحر الأبيض المتوسط لدرجة تجعل أن كل ما له علاقة بالحفاظ عليها وحمايتها يأخذ اليوم قيمة خاصة. لطالما سمعنا ترديد قولة: "أن يحكم يعني أن تتوقع ما سيحدث ، وأن تتوقع معناه أن تكون منتبها وحذرا". يجب الملاحظة من أجل الفهم والتصرف على أساس خبرة ومعرفة بالأمور فأمام الادعاءات التي تطلقها بعض الأقليات، والإيثارات التي يتعرضون لها وينشرونها سبدورهم، محرفة في أوساط الجماهير الجاهلة، ووسط الدعايات الموجهة لهم، يبقى وضوح الرؤية أمرا صعبا، فالنار الكامنة إذا ما اضطرمت فجأة يمكن أن تشعل جموعا مندفعة يختلط لديها الانعتاق الذي لا تستطيع أن تدرك معانيه ولا حدوده مع كراهية عمياء للأجانب أو عودة إلى الفوضى والتسيب الأمر الطبيعي جدا والمنسجم مع ميولاتهم وطباعهم. في هذا المجال الذي يتسم بالجدية، فإن إنصافا عاليا، لا يستبعد معه بعض الود وبعض العناية، من شأنه أن يجنبنا كل ما هو بعيد عن الأهداف المرسومة التي تتمثل في تبني وجهات نظر وحلول واقعية. وفي فقرات هذا الكتيب، فإن الأمر يتعلق أولا وقبل كل شيء بإيضاح يمكن كل قارئ يقرؤه بدون رأي مسبق، وأن يتفهم ترجمة ابراهيم الخشباني