الحديث عن أمين معلوف، اختيار ثقافي قبل أن يكون اختيارا شخصيا معنيا بالفرد عينه. ولعل تراكم الكتابات الإبداعية خلال هذه العقود وما رافقها من تراكم على صعيد الوعي الثقافي والحضاري المتجلي في الحوارات الأدبية والفكرية التي أجراها الكاتب أمين معلوف، لعل كل هذا يشجعنا و يدفعنا إل الانكباب على هذا الاختيار الثقافي في الاشتغال على مشروع فعلي حاضر في كتابات الروائي العالمي بامتياز ألا و هو أمين معلوف. هذا اللبناني الذي اجترحته الهويات و تمزقات الصراعات المحلية قبل العربية أو الدولية. والذي سافرت فروع شجرته الأرزية إلى القارات الثلاث، سيمسك بقبضته على الصاري ويعدل شراعه لكي يواجه رياح التغيرات ونسائم المرافئ المختلفة، يرسو بهذا فيتذوق مطبخه و يرتدي لباسه و يشم عطره و يخلُد في تاريخه، ثم يهاجره حالما و حاملا معه في جعبته متن الحكي، هذه التي تتحول إلى عدسة مكبرة للرؤية والرؤيا يجس بها الآفاق الجديدة و خطوات البشرية السرمدية وقوعا وحضورا بين ازمنة متعددة تصبح ثلاثية الأبعاد بين الماضي و الحاضر والمستقبل، في كتاباته الروائية عموما. يأخذ استراحته على شاطئ المتوسط حيث تكون إحدى قراه هي ملجأه الأخير في الاعتكاف على التحرير النهائي لبعض أعماله و يفتح حوارا مع البحر يكون هديره هو مرجع الصدى الذي يخط به السطور حتى إذا أعياه الحبر راقص الكلمات بالرقن فوق الآلة الكاتبة أو بالهمس على لوحة مفاتيح حاسوبه بين بدائل شتى... يكون العقل متحكما في لعبة أراجوز، و يكون الحكواتي هذه المرة في مركبه و بحره و غرقه الذي يخرج منه إلى برٍّ يستقبله داخله غلاف رواية أو دراسة أو حوار يقدمه طبقا شهيا في كل ميناء جديد يرسو به. لماذا هذه الرحلة عبر المتوسط؟ لن نحرم إجابة إذا علمنا أن هذا الملاح التاريخي قد طرق جل الشواطئ والمرافئ وكل العواصف العاطفية و السياسية التي طواها التاريخ استلذاذا بإخفائها عن الناظر لأفق غروب رومانسي يلبسه فستانا لاحتفالية ذات مساء جميل بعطر و حبر و قرع و رقص و احتفاء... إن أمين معلوف ذاكرة للبحر الأبيض المتوسط رغم أنه يظل في استئذان القارة العجوز حين إرادته تزيين فستانها أو تجميل تجاعيدها أو كشف جسدها العاري من الحقيقة في بعض الأحيان. و لا ننسى كشفه لعري تاريخ الشرق ليظهر لؤلؤه من فضلات مدّ بحره التاريخي كذلك... فلغة الكتابة قانون أعلى و عين من سماء المجتمعات البشرية التي تراقب و تسجل و تحتوي الأفكار. سيكون قيدُ الكتابة حاضرا داخل سجن اللغة الوحيدة رغم الشعور بالحرية بالعوم في بحرها. تُرى، لو جرّب الكتابة بلغة أخرى، مباشرة، كيف كانت أو ستكون الصورة و الحقيقة ولباس اللغة التي تترجمها في زواج ذهني يفتق بؤر الكون و عيون العالم؟ شخصيات أمين معلوف في احتفالية المتوسط: في البداية، سأنطلق من مقروئي الشخصي ثم أخلّله بكرونولوجيا الإبداع الأدبي عند الكاتب أمين معلوف. أول ما قرأت كان رواية ليون الإفريقي leon l'africain. كان ذلك سنة 1989. كان اكتشافا جديدا داخل عالم اللغة الفرنسية و كان انبهارا بشخصية الكاتب و بطل الرواية الأساسي الذي اخترق حكيها وجال وسافر بين موانئها و عواصمها و هو في كل مرة ينجو من مخاطر المغامرة في غياهب القرون الوسطى التي تعمل بمؤشر المقصلة الحاضرة كل حين في الاستئصال و إقفال الحكايات. و حينما يكون ليون الإفريقي هو الحسن الوزان، يكون هذا المد الزاحف في نفسية القارئ الذي يدخل تجربة التحول النفسي والحضاري و العقائدي الشعائري... تجربة أن تكون الآخر في أنت، و العكس صحيح كذلك. لا ننسى انه كم من أوربي لبس لباس الشرقي و المغاربي لكي يجول ويستكشف و يكتب و يصور أو يرسم. يبقى فقط الفرق بين مشروع أوربا في توجيهه وتيه بلدان الجنوب و الشرق في صدفة تجربته... المقروء الثاني الذي سحرني كثيرا، كان شخصية عمر الخيام داخل رواية سمرقند Samarcande. ويمكن اعتبار هذه الرواية رحلة حضارية لشخصيات عالمية بين الشرق و الغرب، و بين الماضي والحاضر القريب. إننا نتحدث هنا عن الشخصية الأمريكية الباحثة عن المخطوط، و عن الشهرة التي عرفتها كتابات و أشعار عمر الخيام في بلد أجنبي أمريكي قبل بلده و مهد حضارته المشرقية. و لعل حال عمر الخيام هو حال الكثير من الشخصيات الفكرية و الفلسفية و العلمية العالمية التي اكتشفها رواد الحضارة الغربية الكُثر. كيف تحضر شخصية جمال الدين الأفغاني في هذه الرواية و درجات انفتاحها و وعيها الحضاري ودفاعها عن المشروع العالمي الفكري و الإبداعي. كيف توضع مقابلة بين شخصيتين نقيضتين تمثلان جرحا سيكوباتيا في ثقافتنا العربية الإسلامية. شخصية عمر الخيام و شخصية الحسن الصباح. و كيف تترجمان واقعنا المعاصر و عقلياته المناسبة بين مد وجزر غير موفقين في رحلة الإبحار الحضاري والثقافي و المجتمعي... سيحتاج أمين معلوف لتصحيح صورة الشرق في مرآة العالم الغربي، و سيكتب تدوينا يجمع بين التاريخ والكتابة الروائية الجميلة. سنسافر في عالم مؤلفه المتميز الحروب الصليبية من منظور عربي les croisades vue par les arabes. و لعل زمن صدور كل رواية ليس بالطبع هو زمن قراءتها والاطلاع عليها بالنسبة لأي واحد منا. ذلك أن هذا العمل الأخير قد صدر سنة 1983، و رواية ليون الإفريقي سنة 1986، و رواية سمرقند سنة 1988، و هكذا... نأتي في محطة من هذه الرحلة المتنقلة بين فيح ورود جنان الكتابة الروائية عند أمين معلوف للحديث عن رسالة القيم التي يبعثها الكاتب في مختلف أعماله. و هنا سيتوجه للبحث عن رسم قصص حب شيقة وكبيرة و متحدّية للصعوبات و التناقضات النفسية قبل المجتمعية أو الدينية و الحضارية. أن تكون قصة حب بين العقيدة المسيحية و العقيدة الإسلامية، فذلك مرجوّ الكاتب أمين معلوف في دق أجراس حروفه الإبداعية و هو يزور شواطئها و مرافئها، و هو يرسم على أبواب مدنها التاريخية و شوارعها المنسية جمالية الأنثى الحياة، جمالية الذكر النفسية الرغبة في هذه الحياة، جماليتهما معا زوجان متكاملان بالرغبة و الاشتهاء و الحياة، بالانصهار و التكامل الذي يوقّع له البحر عري اغتساله و طهارته و ولادته ( موانئ الشرق مثلا Les Échelles du Levant) الصادرة سنة 1991... تبقى الإشارة و بتعبيرنا اللغوي إلى أن الأمثلة المختارة هي غيض من فيض، و من مقروء يجعل المقارنة و الاستنتاج أقرب إلى اكتمال موضوعية ملاحظات تطهر الحواس وتسافر بنا جماليا و ذهنيا كما وعيا و ثقافة و تاريخا في حقيقة فلسفية و وجودية لا يستطيع ان يرسمها سوى الروائي و المبدع الخلاق في مجاله. هو الكاتب الذي استطاع أن يمتلك مشروعا و أن يحقق طموحا و ان يبلّغ رسالة جعلته في قفص جميل داخل حلّة الأكاديمية الفرنسية التي احتضنته كرقم 39 في شخصيات خدمة لغتها الحضارية وثقافتها التاريخية التي تنصهر داخلها. على أن الدراسات اليوم كثيرة و غزيرة تقربنا أكثر و أفضل إلى عالم هذا الروائي الذي أنتجه البحر الأبيض المتوسط كنورس متجول و بوهيمي داخل حرف الإبداع، إنه: أمين معلوف.