بعد فشله مرتين، انتخب أخيرا أمين معلوف، الكاتب الروائي اللبناني، المقيم في فرنسا، عضوا في الأكاديمية الفرنسية، التي يطمح كل كاتب يكتب باللغة الفرنسية الدخول إليها. لقد حصل أمين معلوف على 17 صوتا، مقابل 3 لمنافسه الفيلسوف “إيف ميشو”، ويظفر بالمقعد 29، خلفا لعالم الإجتماع كلود ليفيي ستروس الذي توفي في أكتوبر 2009.وهكذا يعتبر أمين معلوف ثاني عربي يدخل الأكاديمية الفرنسية، بعد الروائية الجزائرية آسية جبار التي كانت أو ل شخصية عربية تُنتخب عضوا في هذه الأكاديمية سنة 2006. وكما هو معلوم أن الأكاديمية الفرنسية هي من أقدم الهيئات في فرنسا. تأسست سنة 1635، وتضطلع بمهام الحفاظ على اللغة الفرنسية. وتتكون من 40 عضوا. يتم انتخابهم بالتصويت. ولا يسمح لهم بالإستقالة. منذ تأسيسها، تناوب على مقاعدها أزيد من 700 شخصية من مختلف المجالات، كتاب، وشعراء، وأطباء، و عسكريين. يستحق أمين معلوف العضوية في هذه المؤسسة الأدبية العريقة. فهو العربي الذي لم يكف عن التغريد بلغة موليير متنقلا على أغصان التاريخ لأزيد من ثلاثة عقود، منذ أن غادر بيروت مسقط رأسه مع بداية الحرب الأهلية في لبنان سنة 1976، وحطّ الرحال بفرنسا. بأسلوبه السحري، ورقائقه اللغوية، يذهب إلى التاريخ، ويعود في رحالات منتظمة، وجولات ساحرة، غناءة، صداحة، نبيلة الغايات...يشعر القارئ لأمين معلوف بمتعة القراءة، وفسحة في بساتين التاريخ التي يرصع بها معلوف من خلال أسلوبه ضفاف أنهر الحبر التي يطلقها في سهول الأدب الفرنسي. هو الكاتب اللبناني الذي كان يستشهد جاك شيراك الرئيس الفرنسي السابق ببعض كتاباته وجمله. وكان يدعوه أكثر من مرة إلى مرافقته في بعض أسفاره. كتبت الصحف الفرنسية في منتصف التسعينات، تقول أن الأدب الفرنسي كان في طريقه إلى الموت لولا إثنين: فرنسوا ميتران وأمين معلوف. وهذه المقولة، رغم ما قد تشوبها من مبالغة، إلا أنها تكشف قيمة كتابات أمين معلوف، أحد أهم وأشهر كتاب الفرنكوفونيين في العالم، الذي تُرجمت أعماله إلى عدة لغات، ونال عنها عدة جوائز أدبية، منها جائزة “غونكور” أكبر الجوائز الأدبية الفرنسية، سنة 1993، وذلك عن روايته “صخرة طانيوس” وجائزة الصداقة الفرنسية العربية عام 1986، عن راويته ” ليون الإفريقي”، وجائزة ” أمير أستارياس للآداب في إسبانيا، عن مجمل أعماله ككاتب يدعو إلى التقارب والتعايش بين الحضارات وبين شعوب ودول حوض المتوسط. كما تم ترشيحه لنيل جائزة ” نوبل” للآداب، ولم يحالفه الحظ. قبل أن يتفرغ للكتابة، ويصدر أول رواياته ” الحروب الصليبية كما رأها العرب” سنة 1983 عن دار ” لاتوس” للنشر، والتي ستصبح فيما بعد متخصصة في نشر أعماله، أشتغل أمين معلوف في الصحافة، كمحرر للشؤون الدولية في جريدة النهار اللبنانية، ومشرف على الملحق الإقتصادي في الجريدة نفسها. ولما هاجر معلوف إلى فرنسا عمل في مجلة ” إيكونوميا”، ليتولى بعد ذلك رئاسة تحرير مجلة ” جون أفريك”، ويظل في الوقت ذاته متعاونا مع جريدة النهار والنهار العربي والدولي. حسب ما صرح به في حوار أجرته معه مجلة “جون أفريك” مؤخرا بمناسبة إنتخابه عضوا في الأكاديمية الفرنسية، قال أمين معلوف أنه يشتغل الآن على مشروع كتاب حول ” الثورات العربية” لينضاف هذا الكتاب إلى أربعة عشر مؤلفا صدرت له منذ أن بدأ الكتابة ودخوله في عالم النشر. والمعروف عن هذا الكاتب أنه ينادي في جميع أعماله بالتسامح، حتى تكاد تكون هذه التيمة الأساسية في جل كتاباته. فهو يركز دائما على ما جمع أو فرق، عبر التاريخ بين أبناء وحضارات ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وبين المسلمين والغرب، من خلال أحداث تاريخية كبيرة. نجده في رواية ” الحروب الصليبية كما قرأها العرب”، يناقش المفاهيم الأساسية للحضارة الأوروبية ومعناها في ذهنية الغرب، مفسرا كيف ينظر العرب إلى الحروب الصليبية التي يعتبرونها استعمارية، أراقت الكثير من الدماء، وارتكبت فيها العديد من المجازر، هذا في الوقت الذي يعتبرها الأوربيون حروبا دينية. ومن هذا المنطلق، يدعو الغرب إلى إعادة النظر في تلك المفاهيم، لأن ذلك هو بداية الطريق إلى التسامح. سُئل أمين معلوف في إحدى حواراته حول ارتباط مؤلفاته بخيط واحد هو التسامح، هل هي نظرة طوباوية بشكل أو بآخر إلى عالم جديد؟ فأجاب: ” نحن بحاجة إلى هذه النظرة الطوباوية لأن عالمنا اليوم تغيَّر كليا على الصعيد المادي، ولم يتغير بما فيه الكفاية على مستوى العقليات، وأضاف أن انتقاده للغرب، ليس فقط اليوم ولكن شمل حتى القرون الماضية، لكون هذا الغرب لا يُطبق تلك المبادئ السامية التي يؤمن بها في علاقاته مع الآخرين. يعني أن الولاياتالمتحدة في بلادها دولة ديمقراطية عظمى، و لكن تصرفاتها في أمريكا اللاتينية، ومناطق أخرى من العالم، لم تكن تعبيرا عن تلك الديمقراطية. وبريطانيا في بريطانيا لم تكن كبريطانيا في الهند. وفرنسا في فرنسا لم تكن كفرنسا في الجزائر ومدغشقر. وبلجيكا كبلجيكا لم تكن كبلجيكا في كونغو. يستمد أمين معلوف في جل رواياته من التاريخ. ففي رواية ” ليون الإفريقي”، يحكي أمين معلوف قصة العالم الرحالة الأندلسي الحسن بن محمد الوزان الذي اختطفه القراصنة الإيطاليون، وعاش في بلاط البابا، وغيرَّ إسمه، وتزوج بفتاة يهودية.صوَّره أمين معلوف على أنه شخصية أسطورية مثالية، تحلم بعالم فاضل، لا حروب فيه، يتبادل فيه البشر الخبرات، وتتدفق فيه بحور العلم والمعرفة، والصورة نفسها منحها معلوف لعمر الخيام، الشخصية الرئيسية لروايته “سمرقند”. أما في “حدائق النور” يحكي أمين معلوف عن الفارس ” ماني” الحالم بعالم المساواة، الخالي من الحقد والحرب، عالم يدعو إلى نبذ السلطة بكل أشكالها، والإنغماس في عالم الفن والحب والتسامح... غير أن كتابه” خلل العالم” يتخذ منحى آخر، وهو عبارة عن أطروحة سياسية واقتصادية شاملة، استمد أمين معلوف معطياتها من التحولات والأحداث الدولية الكبرى، التي مر بها العالم في العقود الأخيرة والتي دفعت بالعالم والبشرية نحو التيه في طرق مسدودة أو نحو آفاق مجهولة. يقول معلوف: إن هذه السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين تؤشر على عدة علامات للخلل العالمي. منها، الخلل الفكري الشمولي، الذي يجعل أي تعايش بين الثقافات أمرا صعبا، وأي حوار بين الحضارات مستحيلا. ويتساءل: هل بلغت البشرية مرحلة “اللاكفاءة الأخلاقية” ؟ يقول بأن المشكلة ليست مشكلة “صراع حضارات”، بل مشكلة “فراغ كل الحضارات من محتواها”، ويقصد بذلك الحضارتين اللتين ينتمي إليهما الكاتب، أي الحضارة العربية، والحضارة الغربية، فالغرب برأيه خان قيمه، بمعنى أنه لا يطبقها مع الآخر. والعالم العربي علق في مأزق تاريخي. يرى أمين معلوف، أن الحوار بين الشرق المسلم والعربي، والغرب الأمريكي- الأوروبي، يصطدم بأفكار مسبقة. فالمسلمون في نظر الغربيين، “غير مؤهلين لتبني القيم الغربية”. والغربيون في نظر المسلمين “هم المستعمرون والأعداء التاريخيون “. وهكذا يبدو العالم في نظر معلوف “داخلا في القرن الواحد والعشرين بدون بوصلة”. وأنه يعيش خللا فكريا وماليا ومناخيا وسياسيا وقيميا”. لقد وصل العالم برأيه، أمام تحديات وأخطار كبيرة لم يسبق للبشر أن واجهوها من قبل. ويخشى معلوف على مصير الحرية المهدد بالعنف والعنصرية واليأس. يتحدث الكاتب في كتابه ” خلل العالم” عن سقوط الشيوعية ومعها الاتحاد السوفياتي، وانتصار الديمقراطية الرأسمالية بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية التي أضحت الدولة العظمى الأولى. لكن بعد مرور أقل من عشرين عاما، يشير الكاتب معلوف كيف أصيب هذا النظام المالي والاقتصادي بأزمة يصعب الخروج منها. هذا إلى جانب السياسة التي انتهجتها الولاياتالمتحدة التي تزعمت ريادة العالم اتجاه دول و شعوب عدة، في مقدمتها العالم الإسلامي مما جلب عليها عداء هذه الدول. أما في العالمين الغربي والإسلامي، فإن المشهد الحالي في نظر أمين معلوف لا يبشر بخير لأنه ينذر بإضطرابات وحروب أهلية واصطدامات مع الغرب من جراء بروز التيارات والنزاعات الدينية والمذهبية، وفشل التجارب الديمقراطية. تناول معلوف في هذا الكتاب الحديث كذلك عن التجارب السياسية، التي مر بها العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، خصوصا المد القومي العربي والناصرية والبعث واليسار والمقاومة، وفشلها في التغلب على التحدي الإسرائيلي ليخلص إلى القول بأن ذلك مهد لظهور التيارات والدعوات الدينية الإسلامية السياسية المعادية للغرب. ويرى الكاتب أن الخلاص يكمن في مد ينفع في بناء مستقبل جديد، بإدارة جديدة لموارد وخيرات وثروات الكرة الأرضية، وعلى قيم مشتركة بين الشعوب والثقافات، تُمكّن من إنقاد بيئتنا واستثمار ثرواتنا بحكمة، والمحافظة على عالمنا. فمعركة البشرية ضد ثلوت الجو والبيئة وشح المياه وحرارة المناخ، ونضوب مصادر الطاقة، والحد من أسلحة الدمار الشامل. وهي معركة ومسؤولية كل الدول وكل الشعوب وكل إنسان. وفي نظره أن القيم الثقافية هي التي يمكن أن تجمَع بين البشر و لا تُفرقهم. صحيح أن “أندري مارلو” قال – أو نُسب إليه القول – بأن ” القرن الواحد والعشرين سيكون قرن الأديان أو لا يكون”. ولكن الدين – يقول معلوف – يمكن أن يهدي البشر مثلما يمكن للبشر أن يستخدموا الدين ضد بعضهم البعض. وبالرغم من هذا التشخيص المقلق يفتح أمين معلوف نافذة على الأمل، معتقدا أن العالم بعد أن وصل إلى ما وصل إليه،سوف يضطر إلى إيجاد رؤية مدركة ومسؤولة للهويات والمعتقدات والفوارق بينها من أجل مصير الكرة الأرضية المشترك بين البشر. ويخلص إلى إعلان تفاؤله بمصير البشرية مؤكدا أن العالم بحاجة إلى نظام اقتصادي جديد وإلى نظام علاقات دولية جديد، وإلى رؤية جديدة للسياسة وللعمل وللإستهلاك ولمفهوم التقدم والهوية والتاريخ والدين والثقافة. وفي ختام كتابه يقول الكاتب : ” إن العالم ليس سائرا نحو نهايته ولكن نحن البشر مسؤولون عن مصير أفضل أو كارثي له، عن تصور هذا المصير وبنائه”. غير أن أمين معلوف في ملحمته النثرية المذهلة ” بدايات “، يدخل أمين معلوف الكاتب في سباق مثير ومضن مع أمين معلوف الباحث. البطل في ” بدايات” ليس” ليون الإفريقي” ولا ” عمر الخيام” ولا ” بياتريس”، بل هو الراوي الذي لا يشير إلى نفسه إلا لماما، وبفعل الضرورة وفن السرد، فهو يبحث عن سيرته في سير العائلة، أجداده، وأعمامه، ويُلقي برأسه على كتف جدته، التي ترك لها الجد المتوفي مبكرا ستة أيتام، أوصلتهم جميعا إلى الجامعة الأمريكية، ومنهم والده. يبدأ أمين معلوف من القرن التاسع عشر، يتوقف عند أغصان شجرة العائلة وجذوعها، لا يهمل ذكر حصاة في الدار ولا حقل مهجور. بقلم: عبد الرحمان بنونة