يتفق الدارسون على أن الكتابة تعبير عن الذات، هذه الذات التي لا تعدو أن تكون قطعة شطرنج بسيطة في رقعة الواقع الواسعة. إذ تتحول الكلمة، بموجب هذه الدينامية، إلى أداة لتمجيد أوجه الحياة الإيجابية، أو للكشف عن مآزقها وسلبياتها، بما هي سلوكات منحطة وعادات بالية، تحول دون تطور الفرد والمجتمع وضمان رقيه، بعيدا عن كل أشكال التخلف والقهر والتبعية والارتهان إلى سلطة الخرافات والغيبيات. من هنا صار ينظر إلى الكتابة باعتبارها مرآة عاكسة للواقع، والكاتب قد يرى هذا الواقع بمرايا مسطحة تعكس ما هو حقيقي، أو من خلال مرايا مقعرة تعمق مأساته، وتزيد من حدة هواجسه وقلقه وأعطابه. وقد اعتبرت الرواية من الأجناس الأدبية الأكثر قابلية ومرونة لرصد علل المجتمع وأمراضه النفسية والروحية والجسمانية، بما توفره من إمكانات وهوامش للتعبير، بفضل بنيتها ومكوناتها السردية، وأيضا بالنظر إلى ما تنتجه من عوالم تخييلية، أو ما يسميه جيرار جينيت، عموما، ب « الفضاء النصي «، الذي بدأت تتمطط رقعته في الأعمال الروائية الجديدة، مما جعلها تتسع لتشمل عوالم وحيوات مختلفة ومتباينة ومتنوعة في الآن نفسه، تترواح بين الواقعي والمتخيل والحقيقي والأسطورى والتاريخي... إلى درجة أصيبت معه الرواية ب « البدانة « على حد تعبير الناقد المغربي سعيد يقطين. من هنا سعينا في هذه الورقة إلى تتبع تداعيات وتجليات هذه الثنائيات المرتبطة بالفضاء النصي في رواية « المغاربة «1، بالشكل الذي يشي بتقلص المسافات بين هذه الثنائيات، بحيث تتجاوز معانيها الضدية المتنافرة لتخلق امتدادات مفتوحة تغني آليتا التلقي والتأويل لدى القارئ. عن محكي الرواية: تتناوب عن السرد في رواية « المغاربة « شخصيتان مركزيتان هما محمد الغافقي وشقيقه الأكبر « العسكري «، وهما ينتميان إلى أسرة مغربية صغيرة تقطن قرية خارج مدينة بني ملال. أما محمد فهو شاب ينقل لنا محكي الرواية، منذ صفحاتها الأولى، معاناته مع رهاب العمى، إذ أصيب منذ صغره بمرض في عينيك مما أصبح يتهدده بالعمى المطلق في أية لحظة. في حين تحضر شخصية الأخ الأكبر باعتباره عسكريا يعشق القراءة، سرح من الخدمة بعدما أصيب في مواجهة بإحدى جبهات القتال في الجنوب المغربي. النتيجة أنه عاد أدراجه بعاهة في إحدى رجليه، مما حوله إلى كائن عاجز، لا يملك إلا لسانه السليط الذي يسخره في انتقاد كل ما حوله. ويحدث أن يصاب محمد، وهو طالب جامعي في سن الثانية والعشرين، بالعمى، مما سيقلب حياته رأسا على عقب. وفي خضم هذه المعاناة، سيعيش حدثين أثرا على حياته. الأول حينما تم استدعاؤه ليصبح، إلى جانب عدد من فاقدي البصر، مؤنسا للباشا طه الأعمى هو الآخر، وهو حفيد بن زكري الباشا القوي على عهد السلاطين الحسن الأول وابنيه المولى عبد العزيز والمولى حفيظ من بعده. أما الحدث الثاني فهو وقوع محمد في حب صفية خادمة الجيران، وهو الحب الذي قلب كيانه وغير مجرى حياته. وللظفر بصفية، طلب محمد من حسن السمسار، وهو أحد زملائه العميان في مجلس الباشا طه، أن يرافقه إلى وادي آيت بوكماز لخطبتها. إلا أن دهاء حسن دفعه، بعد عدوتهما بالعروس، إلى مغافلة محمد واقتياد صفية إلى بيته ليتخذها زوجا له. هذا المقلب القاسي ستنتهي أطواره، بعد عدة محاولات يائسة قام بها محمد لاسترجاع محبوبته، إلى قتال دموي نشب بين الأعميين، انتهى بهما مرميين داخل سيارة إسعاف - وهو المشهد الذي تبتدئ به الرواية وبه تختتم أحداثها في شكل استرجاع حلزوني – حيث يصور حسن وقد فارق الحياة، فيما كان محمد شبه ميت، وهو يتحسس جسده، لا يفرق بين دمائه ودماء غريمه، كل شيء تلاشى أمامه، ولم يتذكر سوى صوت هاملت وهو يقول لهوراشيو: « إنه زمن الجنون الكبير والعمى الهائل، يا صديقي «2. 2 عن الهوية السردية: على الرغم من التماهي الذي قد يبدو، أحيانا، بين الكتابة الفنية والواقع؛ إلا أن العمل الإبداعي يظل، مع ذلك، مستقلا بذاته، ومكتفيا بكينونته، على اعتبار أن عناصر العمل الفني لا تكتسب دلالتها إلا ضمن الخيوط الدلالية للرواية، ولا تقوم بوظيفتها إلا داخل البنية الروائية. حيث يصبح الواقع المعروض في أي عمل منفصلا، بهذا القدر أو ذاك، عن الواقع المرجعي ولا يحيل عليه إلا بطريقة عرضية. غير أن الأمر قد يختلف أحيانا، إذ نجد أن جانبا مهما من المادة السردية يتكئ على مرجعية تاريخية وواقعية، وفي هذا المقام لا نتحدث عن السيرة الذاتية وإنما نخص بالحديث العمل الروائي بدرجة أولى. إن أي عمل سردي ليس، في الحقيقة، سوى عملية نقل فنية، عبر وسيط اللغة، لحادث أو حوادث مستمدة من الواقع، يلجأ فيها الكاتب إلى عنصر التخييل لإعادة كتابتها وإثارة بعض جوانبها الحساسة، بما يساعد على إعادة تركيب بعض أجزاء هذا الواقع، وقراءته بعين ناقدة وكاشفة، تسلط الضوء على ما قد يعتبر مناطق خلل. ولعل في ذلك ما قد يساعد القارئ، من جهة، على تحقيق متعة القراءة، ثم الاطلاع، من جهة ثانية، على جانب من جوانب حياة البشر داخل هذا المجتمع أو ذاك. ومن التقنيات التي عادة ما تسخر لتحقيق هذه الغاية، لجوء الكاتب إلى مدونة التاريخ، بما تزخر به من أحداث وحقائق ومعطيات، تساعد كلها على دعم موضوع وأحداث حكايته المركزية. وفي حقل الكتابة السردية الفنية، غالبا ما تصبح المادة التاريخية ممزوجة بما هو سردي متخيل، بسبب حاجة العملية الإبداعية المستمرة إلى معطيات تستمد قوتها من قوة الواقع، ليس بغاية إثبات حقيقة ما، ولكن من أجل مزيد من الصدق الفني والإقناع بالتخييل، في أفق إقناع المتلقي أو إشعاره الرضا 3 . وبهذا المعنى، يصبح هذا الجانب التاريخي صائغا لواقع ماثل، ومن هنا أيضا يمكن أن نصل بين الواقع والإبداع، ما دام الإبداع هو هذا المعطى وقد شكل تشكيلا جديدا في تعبير جميل 4 . وفي رواية « المغاربة « حضور طاغ لمادة تاريخية غير رسمية منتقاة بعناية فائقة، وبخلفية واعية، وهي مادة ذات طبيعة نقدية كاشفة عما يعتبر مزالق وعيوبا في السياسة كما في الرياسة وتدبير شؤون المرؤوسين، سواء في ارتباط بتاريخ المغرب أو بتواريخ بعض الدول العربية الواردة في متن النص الروائي. لقد ألف الكاتب حكاية متخيلة بطلها محمد الغافقي، قام بتقديمها من خلال محطتين اثنتين، مرحلة ما قبل العمى ومرحلة ما بعد العمى. كما ركز على كيفية تأثرها بشخصيات وأحداث حقيقية تاريخية، مثل طه حسين والباشا بوزكري والباشا التهامي الكلاوي والشيخة رقية وغيرهم. غير أننا قد نذهب إلى القول، دون مواربة، بأن هذه الحكاية )الأم( لم تكن سوى ذريعة لوجود هذا العمل، الذي أتاح للكاتب هامشا كبيرا للبوح بما يعتمل في دواخله من إحساس بهوية ضائعة مشتتة بين الأنا والآخر؛ إنها الكوة التي تتسلل منها التماعة الكلمة التي تبحث لها عن صدى يردد صوتها المجروح والمتيبس؛ إنها أيضا تعلة لتوظيف ما تحبل به بعض الكتابات التاريخية من شطط في استعمال السلطة وسوء تدبير لشؤون الرعية، أرادها الكاتب أن تكون مدخله لتشريح الواقع المغربي، في الماضي كما في الحاضر، بالكشف عن كثير من أعطابه، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الدينية والثقافية، فيما يشبه جلدا للذات الجماعية ونقدا لكثير من مظاهرها البائسة. من هنا حضور تلك المراوحة الثنائية في الحكي، بين حاضر يجلله عمى البصيرة والبصر، وماض ما زال ماثلا بكآباته وأعطابه وصوره الأكثر إمعانا في القهر والظلم والاستبداد. ويبدو الكاتب، في كل ذلك، كأنما يحرق سفنه وهو يعري ويكشف وينتقد بشراسة لا تقل عن شراسة وبطش كل المتسببين في مآسي الآخرين من ضعاف البشر. إن قراءتنا ل» مغاربة « عبد الكريم جويطي جعلتنا ننتبه إلى أن الكاتب حشد كل إمكاناته المعرفية المتنوعة والغزيرة ليمنح هذا العمل خصوصية وانتماء، وهو ما يسميه بول ريكور ب « الهوية السردية «، وهي هوية تتشكل بين برزخين متقابلين ومتناظرين هما المتخيل والواقع، بين اللغة والكتابة والمتخيل وبين الواقع والتاريخ، كما تتداخل فيها شخصيات تاريخية مع أخرى متخيلة. لذلك نجد الكاتب قد اعتمد على أرضية واقعية وتاريخية، تأسست عليها أحداث الرواية في قالب سردي، ولعل شخصيتا محمد وطه حسين تكشفان، بغير قليل من البناء السردي المحكم، عن هذه التقاطبات. فبالرغم من أن كل شخصية تنتمي إلى عالم نقيض للآخر، إلا أن ظلمة العمى قد وحدتهما. فمحمد شخصية مركزية داخل مسار الحكي، وقد عاشت تجربة قاسية ومريرة مع العمى. ولعل الرواية تزخر بعدد من المقاطع التي تصور ذلك، بالإضافة إلى شخصيات أخرى قدمها الكاتب باعتبارها أيضا فاقدة للبصر، وكأنه بذلك ينحاز إلى تمجيد « نعمة « العمى ويحتفي بها، من خلال هذه الملحمة. ويمكننا أن نستحضر من بين هذه الشخصيات على سبيل التمثيل لا الحصر كل من: محمد الغافقي الباشا طه الخبير الأركيولوجي حسن السمسار صدقي الصغير وغيرهم...، هذا إضافة إلى حضور عاهات أخرى ألصقها الكاتب ببعض شخوصه مثل العسكري شقيق محمد مثلا. ولعلها التفاتة ورد اعتبار إلى كل هؤلاء المعطوبين، حين يعمد الكاتب، على لسان شخصية الطبيب الروماني بازوف، الذي كشف عن مصير محمد المحتوم، إلى التركيز على دور ذوي العاهات في صناعة مجد الإنسان، حين خاطب العسكري قائلا: «هذا العالم وحضارته صنعه المرضى والعاجزون والمجانين، الأقوياء الأسوياء صنعوا الحروب فقط»5 . أما طه حسين، فهو شخصية حقيقية، كانت حاضرة بشكل ملفت داخل الحكي، خاصة بعدما تيقن العسكري من استحالة استشفاء محمد، وأن العمى متربص به لا محالة، فكان أول كتاب يقدمه إليه هو كتاب – سيرة طه حسين « الأيام «، والتي من خلالها عمل محمد في دأب على ترويض باقي حواسه الأخرى قصد تعويض حاسته التي المهددة بالانطفاء. لقد انشغل محمد كثيرا بسيرة طه حسين وبمواقفه وأفكاره وتصوراته عن الحياة والنكبات والانتصارات والمناصب والعاهات والعمى والكبرياء... ليكتشف في الأخير بأن هذه الشخصية التي حازت بعدا رمزيا وأسطوريا « قاهرا للظلام «، رغم إصرارها وتحديها وثقتها وتفردها ونجاحها إلا أنها أقرت بعجزها وعدم قدرتها على الاستمرار في الريادة والتوجيه والقيادة، في عالم يسيطر عليه دهاء المبصرين. ومن ذلك ما جاء على لسان طه حسين، وهو على فراش الموت، حين قال: « أية حماقة؟ هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة « 6 . بقيت الإشارة إلى أن هذا التداخل بين شخصيتي محمد الغافقي وطه حسين، لم يكن، في حقيقته، سوى تمويه فني لجأ إليه الكاتب، عبر لغة رصينة، صافية وذات كثافة رمزية وشاعرية، للكشف عن تلك البنية الذهنية والنفسية والفكرية الضحلة التي تميز فصيلة محددة من المغاربة، ممن يعتبرون تركيبة كيميائية خاصة وفريدة، تجمع بين متناقضات متباعدة ومتناحرة، ما زال كثير منها يتنفس معنا نفس الهواء لكن بأكثر من رئتين. تقع رواية «المغاربة»، الصادرة ضمن منشورات المركز الثقافي العربي (2016)، في أربعمائة صفحة من الحجم المتوسط، تحمل لوحة للفنان الإسباني الشهير فرانسيسكو غويا. هوامش: 1 جويطي عبد الكريم، «المغاربة»، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2016 2 نفسه، ص: 399 3 - ابراهيم عبد المجيد، « ثنائية الشرق والغرب « شهادة، « الكتابة والتشكيل: حسن نجمي والتجربة البصرية في « جيرترود «، منشورات جمعية الفكر التشكيلي، الرباط، 2015، ص: 19 4 - طه عبد الرحمان، «الإبداع الفني»، مجلة آفاق، العدد5-6، 1967، ص: 16 5 «المغاربة»، ص:35 6 نفسه، ص: 48.