في سياق التراكم الكمي والنوعي الذي تعرفه الكتابة السردية المغربية اليوم يمكن القول بأن هناك نصوصا باذخة تفرض نفسها اليوم على النقاد والقراء، وتطالب بحقها في التحليل والقراءة والتأويل... «سينترا» هو النص السردي السادس لحسن أوريد بعد انجذاب نحو الرواية بدأ مع «الحديث والشجن» تلتها «الموريسكي» ثم «صبوة في خريف العمر» ثم «الأجمة «ثم «سيرة حمار»،تراكم دال على مستوى جمالية التلقي باعتباره يؤكد أن الروائي ماض في تطوير العوالم التخييلية التي يؤسس بها منجزاته السردية. يجب الإقرار بدءا أننا أمام نص سردي عالِم،ومعنى ذلك أنه ليس نصا عاديا يقدم نفسه بتلقائية لقرائه، عالِم بغياب تجنيسه، بإهدائه، باستهلاله، بشخوصه وفضاءاته وبنائه، ولعبه السردي المتمنِّع .إنه تجسيد لما يعبر عنه كونديرا بروح الرواية والتي هي روح التعقيد، فكل رواية تقول لقارئها «إن الأشياء ليست سهلة كما تبدو لك، وهذه هي الحقيقة الأبدية للرواية إلا أنه من الصعوبة سماع ذلك وسط لغط الأجوبة السريعة والبسيطة التي تسبق السؤال وتحجبه». لم يحدد حسن أوريد لهذا النص انتماءه، وظل يتيما على مستوى التجنيس، حالة نصية تأتي خارج الميثاق السردي المتبع والمألوف ضمن نظرية الأجناس الأدبية، ولكنها تجد شبيها لها في عدة نصوص روائية متميزة كان أولها نص الكاتب التونسي محمد المسعدي «حدث أبو هريرة قال» وقبله نص محمد المويلحي «حديث عيسى بن هشام»، فهل يكون هذا المنجز السردي سيرة ذاتية أو غيرية أم تخييل ذاتي أم رواية،وهل في الإضمار محاولة للدفع بالقراءة والنقد إلى مغامرة السؤال عن المعايير التكوينية والجمالية لهذا النص؟ أم أن التمرد على إعلان التجنيس يحمل قصدية تبين إشكالية في تحديد هويته؟. تحيط «سينترا» بحياة عمر بنمنصور المفكر والمؤرخ وقبله الوطني، في امتداد زمني يعود لأصوله الأندلسية ونزوح عائلته من الأندلس إلى الجزائر، قبل الانتقال إلى فاس والاستقرار بها حيث نشأ ودرس والعودة للجزائر لإتمام الدراسات العليا، ثم العمل مترجما لدى إدارة المراقب المدني بالدار البيضاء إبان الحماية الاستعمارية والانخراط في العمل الوطني ثم النفي للقاهرة مبعدا عن المغرب والعودة إليه بعد الاستقلال لشغل مناصب سامية، يصاب بوعكة صحية تدخله في غيبوبة لا يستفيق منها إلا بعد جهد يتضافر فيه عمل الطبيب والمثقف. إذا كانت هذه هي المفاصل الكبرى للسرد فإن «سينترا»ستركز باهتمام كبير على المرحلة الزمنية من 1946 إلى 48 متابعة الحيوات الدقيقة لعمر بنمنصور وهو يتحرك في فضاءات موشومة باشتداد الصراع بين الحركة الوطنية والقوات الاستعمارية ومشدود لعلاقته بكازاالطا الذي يكلفه بمهمة متابعة أخبار «سينترا» ويهيئ له المقام ليصبح مدرسا للأمير الحسن لترصد أخبار الوطنيين والعائلة الملكية، ومنتبه لزوجته اليهودية سوليكا ولتطلعاتها لتحبل منه ومتصدع من العوالم المتداخلة التي فتحها أمامه كابريه سينترا..... سينترا ليست عتبة نصية تؤدي وظيفة من الوظائف التي حددها جيرار جنيت في كتابه «العتبات»، ولكنها أيقونة ضاربة في عمق المنجز السردي بما وُصفت به أولا على امتداد المتن وما حازته ثانيا من دلالات وتأويلات بعد قراءة النص، «سينترا»على مستوى دلالات الفضاء هو كابريه أو مقصف من طابقين يرتاده الأهالي «ليتأودوا على أنغام محمد عبد الوهاب إن شاؤوا، وليستمعوا لهلوسات محدثيهم بالغيب والحالمين بالمهدي المنتظر الذي سيملأ الدنيا عدلا بعد أن ملئت جورا، وليرقصوا على أغانيهم الشعبية، وليتسلوا بطرائفهم التي لا تسمن ولا تغني من جوع»102، لا يؤمه أحد من الأوربيين، ليس مكانا بل ظاهرة، يتحول إلى رمز للوعي المستعاد أي كلمة السر التي توقظ بنمنصور من غيبوبته، في قمة الاعتبار المكاني ينشد أحد الرواد:سينترا كتجْمعْنا/ سينترا ماشي عرصة/ سينترا ماشي خُرصة/ سينترا ماشي حانة /سينترا هي حالة»ص70،فضاء محصن ضد الخونة والمتجسسين والمتآمرين وذلك ما تفصح عنه القصيدة الزجلية التي أنشدها عنيبة مقارنا بين المتواجدين في الحانة باعتبارهم رموز الشرف والنخوة والوطنية وغير المتواجدين باعتبارهم ممثلين للخونة أو من سماهم أولاد لحرام: (الكنفاوي في سينترا/ الملياني في سينترا/العلام في سينترا/عنيبة في سينترا/كاع لجواد في سينترا...،الكلاوي ما في سينترا/ المتوكي ما في سينترا/ البغدادي ما في سينترا/ بونيفاس ما في سينترا/ الخونة ما في سنترا / أولاد لحرام ما في سنترا/البياعة ما في سنترا...). هكذا يصبح سينترا فضاء «يبعثر تناسق الحياة وتتداخل فيه الأزمنة وتفسد فيه العلامات 102». بين الظاهرة والحالة سينترا مجتمع صغير تؤثثه نخبة من المثقفين المدمنين على المكان وعلى نقاشات تخوض في أمور شتى يعبِّر فيها الشعر والزجل بشكل قوي على خصوصية المرحلة ومخاضاتها العسيرة، نخبة تستأنس ببعضها وتتأثر لغياب فرد من أفرادها عبد الصمد الكنفاوي محتضن مسرح الشعب، والشاعر المنتصر للكادحين مولا مليانة والعلام وعنيبة والشاعرة مليكة وعلالو الحجام ومصطفى بوعزيز إضافة إلى الشخصية المتعالية على الزمان الموتشو حامل النبوءة وسر الأسرار...أجواء يحضر فيها الفن الراقي سواء ما يصدح به فنان الملهى حسن السقاط وهو يردد أغاني محمد عبد الوهاب أو الحسين السلاوي أو خربوشة أو ناس الغيوان الذين تم استحضارهم عبر القفز في الزمن.. إن المهم في هذا الفضاء هو أنه جسد نقطة عبور وانتقال من الوعي المسطح الذي انطلق منه عمر بنمنصور نحو وعي تاريخي مؤمن بقضية التحرير والتحديث ساهم فيه لقاؤه مع المهدي بن بركة وعبد الخالق الطريس وأقطاب من الحركة الوطنية وزعماء المغرب الذين التقاهم بالقاهرة كعبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي . حدود السرد والتاريخ تطرح سينترا على مستوى بنائها العام تلك الإشكالية التقليدية النقدية عن علاقة الرواية بالتاريخ، ثنائية المتخيل والواقع، أين تبدأ مهمة المؤرخ وأين تنتهي؟، ماهي الحدود الفاصلة بين الروائي والمؤرخ في التعامل مع الحقائق التاريخية وماهي مساحات الحرية التي يمكن للأديب أن يخلقها في تعامله مع التاريخ؟ ولكن الحقيقة المهمة هي أن زواج التاريخ والأدب غاية تنتج المتعة والإبداع والخلق الفني، أي البحث فيما سماه لوكاتش نظرية التفاعل بين الروح التاريخية والأنواع الأدبية الكبيرة التي تصور كلية التاريخ.،ولنا في نصوص أمين معلوف وجمال الغيطاني وحميش وغيرهم أمثلة في ذلك. وحينما يكون التاريخ الوطني إلهاما للكتابة السردية، فمعنى ذلك أن الروائي أو الكاتب أو السارد على دراية بينة من خطوط التماس التي تتيح له التعبير عن أطروحاته الفكرية التي يدافع أو يناضل من أجل تثبيثها وترسيخها،فمع ازدياد الوعي بالحاضر، يزداد الاهتمام بالتاريخ، بوصفه خلفية الحاضر أو تاريخ الحاضر» كما يقول د صالح جواد الكاظم مترجم كتاب الرواية التاريخية لجورج لوكاتش، وذلك هو مبرر العودة القصدية لنسج العوالم التخييلية المستلهمة من تاريخ المغرب في سينترا، فهناك جزء من التاريخ لم يكتبه المؤرخون فتتكلف الرواية بترميم الأعطاب وسد الثغرات والانتباه إلى ما يجب الانتباه إليه. لقد أفلحت «سينترا» في استحضار مغرب 1946-1948 روائيا بإمعانها في التقاط التفاصيل الدقيقة والمهمة التي ميزت المرحلة بوصلها بين زمنين،الماضي والحاضر بشكل يلفت النظر إلى الأخطاء والهفوات بطريقة تبئر الحاضر بعيدا عن الوعظ الفج الذي سقطت فيه روايات مغربية سابقة، ولكن هل يكون ما كُتب استكتابا للتاريخ من وجهة نظر تعيد تشكيل صورة الحركة الوطنية وصورة المقاومة وصورة نضال العائلة الملكية من وجهة نظر تحييها في الوجدان المغربي وتقربها من جيل منفصل عن ذلك ولا علاقة له بها سوى ما يردده الإعلام الرسمي؟ نقول ذلك مستحضرين لعبة التداخل الزمني القصدية التي هيأت للنص قول ما يريد بالاستعانة بالموتشو الذي يتحول إلى شخصية عجائبية بقدرته على التنبؤ بالمستقبل وكممثل للوعي التاريخي الذي يستنهض الهمم( الخطاب المطول للمهدي بن بركة في حانة سينترا «هذه كلمتي إليكم من عالمي البعيد.....أريدكم أن تسمعوها وتعوها.لم تغيبوا عن ذهني قط ولن تغيبوا.المجد والخلود لشعبنا الأبي ولأمتنا الماجدة»ص 120 . كما تخط سينترا، بيقظة المؤرخ وفنية الروائي،بداية انهيار المنظومة الاستعمارية انطلاقا من مؤشرات تاريخية ترصدها ضمن جدلية تطور وعي بنمنصور قبل انخراطه الكلي في العمل الوطني،»كان عمر بنمنصور يدرك أن بنيان الحماية أصبح مهددا وبخاصة بعد انهزام فرنسا أمام ألمانيا،وتأكد له الأمر عقب زيارة الرئيس روزفلت ولقائه بونستن شرشل بالدار البيضاء،ثم لقائهما بعده بالسلطان سيدي محمد بن يوسف على مائدة عشاء ،فيما يعرف بلقاء أنفا مستهل سنة 1943 ،ولذلك حينما قدم الوطنيون عريضة الاستقلال،أدرك أن تحولا عميقا يعتمل قد يتهدد المنظومة الاستعمارية»ص22 في علاقة بالتأريخ والإحاطة بالموروث الثقافي للمغرب المتعدد فقد وثقت سينترا لعدد من النصوص المهمة في تاريخ الثقافة المغربية بدءا بنصوص ناس الغيوان ( الصينية،أهل الحال،فين غادي بي خويا...)،أغنية لخربوشة، أشعار للملياني، أشعار مراد القادري(غزيل لبنات)، أشعار من ديوان جراح الصدر العاري لصلاح الوديع ، وهي عملية تندرج في سياق المزج بين الروائي والتوثيقي. لقد صاغت سينترا محكيها ارتكازا على: نقد السياسة والممارسة الاستعمارية تجاه المغاربة بما ارتكبته القوات الاستعمارية من فظاعات تجاه الحركة الوطنية من متابعات وملاحقات ومحاكمات وما اقترفته أياديها الآثمة من مجازر في حق المطالبين بالحرية أو بالكرامة كما حدث في مجزرة بنمسيك التي تحدث عنها مصطفى بوعزيز لرفاقه في الحانة،أو على مستوى توجه سياستها العامة نحو إبقاء الشعب غارقا في جهله وتخلفه: «لماذا لم تستطع فرنسا، وقد شقت الطرقات، ومدت السكك الحديدية، وبنت مدنا عصرية، أن ترتقي بالإنسان المغربي؟ إنسان محصور في مدينته القديمة، وتعليمه العتيق، والدرجة الرابعة في القطار،وثقافته القروسطية من شعوذة وطرقية واتكالية لا ترى فرنسا الاستعمارية ضيرا أن تتعامل معها،...حتى عهد قريب كان بنمنصور يؤمن بإمكانية التحديث في ركاب فرنسا، ولكن واقع الحال أبدى له شيئا آخر:نظام أبارتايد،استغلال ممنهج للثروات،احتقار للأهالي،إبقاؤهم في وضع التابع،النظر إليهم بازدراء...»ص177 حدود التعايش بين المغاربة واليهود:فزواج بنمنصور بسوليكا كان هو المدخل الروائي للإحاطة بموضوع نال نصيبه على مستوى التناول الروائي العربي والمغربي، زواج لم تستسغه الأسرتان إلا بعد مدة ولكنه ظل مسنودا بعلاقة الحب العميق بين الاثنين والذي صارع من أجل تجاوز عنصرية الفرنسيين وصارع من أجل أن تحبل سوليكا، غير أنه أخفق في الأخير حيث سترحل سرا هي وجماعتها إلى إسرائيل في غفلة عنه تاركة له رسالة توضح فيها أسباب الرحيل... من يحكي في سينترا؟ بعيدا عن الجدل النظري الذي صاغته نظرية الرواية حول من يحكي الرواية وراكمت فيه اجتهادات عميقة فإن سؤالنا مرهون لتقديم البناء الفني الذي صاغ به النص مقوله في تقاطع مع وعي نظري يدرك من خلاله حسن أوريد أنه يقدم تجربة فريدة ينسج خيوطها بتصميم محكم وبصنعة روائية عارفة تبدأ من الاستهلال الذي يتكفل فيه المفكر بسرد حالة سينترا نيابة عن رفاقه الذين تخلوا عنه. فالمظهر التركيبي للمحكي في سينترا موزع بين أصوات سردية تتقاسم الأدوار بين السارد كمبدع أسطوري للكون الروائي المتخيل بتعبير كايرز، و حسن أوريد وبشرى حفيدة بنمنصور التي تتكفل بسرد جزء مهم من حياته، وبنمنصور ذاته وهو يلملم شتات حكيه مستعيدا وعيه مداويا جراح ذاكرته مما ساهم بشكل كبير في التخلص من وثوقية الحكي وتكسير خطيته بل إن حسن أوريد يقوم بتصحيح مساراته والتدقيق في تواريخه وهو من كان له الفضل في جمعه في قالب يتسم بالاتساق كما يفعل الأركيولوجي، إذ يعيد ترميم آثار ائثلمت، أو يقيم بناء أخرى اندثرت» كما تقول الرواية ص 237 . تعدد الأصوات واللغات إن الميزة الأساس في سينترا أنها رواية بوليفونية، رواية لتعدد الأصوات وتعدد وجهات النظر،رواية حوارية بالمعنى الذي تكون فية رواية ديمقراطية متحررة من سلطة الراوي الواحد ومتحررة من الأسلوب واللغة والمنظور الواحد،رواية قوية بتعدد لغاتها المتقلبة بين ما يسميه باختين الأسلبة والتهجين، لغات تسافر في جغرافية الوطن من شماله إلى جنوبه برجاله ونسائه مثقفيه ومتسوليه، تشكيلات لغوية متنوعة:عربية وفرنسية وأمازيغية وإسبانية وعامية... رواية احتفت بالشعر الحديث والزجل والعيطة، بالتراث المغربي الأصيل في صوره المناقضة للتصور الفلكلوري الفج الذي وظفه بعض الروائيين المغاربة، خصوصا أولئك الذين كتبوا بالفرنسية وقدموه صورة للتخلف المثير للإعجاب. احتفت سينترا بخربوشة وناس الغيوان والحسين السلاوي، وعلى صفحاتها التقى الفقيه المعمري ولويس ماسينيون ومحمد الفاسي الحاج احمد باحنيني عمر بن جلون ومحمد الخامس والمعطي مول النوالة وبن بركة وغيرهم... سنترا هي حياة في رواية أو هي الحياة في الرواية، فهل كانت الروايات الأخرى السابقة عليها مجرد محطات عبور نحوها؟ أم أنها تضاعف الممرات الخفية نحو رواية لم تكتمل يكتب بها حسن أوريد اسمه وزمنه. وعليه فهذا نص سردي مغربي متين وعميق وعالِم. نص التضاريس والأعماق والذكريات. فيض من تاريخ حافل بالعطاءات والرجالات والأمنيات المغدورة. (*) نص المداخلة التي تقدمت بها خلال اللقاء الذي نظمه مركز أجيال 21 للثقافة والمواطنة بالمحمدية بمناسبة تقديم وتوقيع رواية سنترا للكاتب حسن أوريد.