يتميز شهر رمضان بعادات خاصة، يختلط فيها الدين والاعراف والتقاليد، لعل أبرزها زيارة المقابر بمناسبة *العواشر* يوم السابع والعشرين من رمضان غداة ليلة القدر. في هذا اليوم تشهد كل مقابر المملكة منذ الصباح الباكر توافد الزوار من أجل الترحم على ذويهم، وتقديم الصدقات وما يصاحب ذلك من ممارسات وطقوس. سنحاول رصدها عبر زيارة مقبرة الغفران, أكبر مقبرة في مدينة الدارالبيضاء. الاجواء في الطريق الى المقبرة عرفت كل الطرق والتقاطعات المؤدية الى مقبرة الغفران الواقعة في تراب جماعة تيط مليل مديونة، ازدحاما شديدا يوم 27 من شهر رمضان خصوصا وانه تزامن مع عطلة يوم الاحد. سيارات خاصة، سيارات اجرة، سيارات نقل (هوندا)، دراجات نقل ثنائية وثلاثية العجلات، وأيضا عربات نقل تجرها الدواب. قادمة من كل أنحاء مدينة الدارالبيضاء ومن مدن بعيدة، تحاول أن تصل الى الوجهة المنشودة. لكن أقصر مسافة تتحول الى أميال طويلة وسط الاكتظاظ الكبير ودرجات الحرارة المرتفعة، ما يفقد عدة سائقين صبرهم ويدفع كثيرا منهم الى مخالفة قانون السير, خصوصا الطامحين الى تحقيق أكبر قدر من الأرباح في هذا اليوم المبارك, عبر التجاوز تارة من اليمين وتارة من الشمال ما يسبب اختناقا في حركية السير، وحدها مجهودات رجال الدرك الملكي تخفف قدر الإمكان من الفوضى وتحاول تنظيم حركية المرور. ما إن تقترب من وجهتك حتى يشير اليك شباب اعتادوا امتهان حراسة السيارات خلال مواسم الزيارة ومنها أيام «العواشر» ولأجل ذلك اتخذوا من الساحات المجاورة لأسوار مقبرة الغفران مواقف عشوائية بعيدة عن باب الدخول. وهناك تكلف شباب آخرون بوضع سلالم خشبية تسهل ولوج المقبرة، كما تقرب المسافة بالنسبة لمن لم تسعفهم حالتهم الصحية من الدخول عبر الباب الرسمي، منهم المرضى ومنهم المتقدمون في السن من نساء ورجال. خصوصا مع الاكتظاظ و شساعة المقبرة التي تتجاوز مساحتها 160 هكتارا. مع الإقتراب من الباب الرئيسي, أفواج من الباعة المتجولين يعرضون مختلف السلعو بعضها مرتبط بطقوس هذا اليوم كقنينات ماء زهر او تمر او تين او ورد مجفف، او حناء و منتجات من طين ونباتات واعشاب مختلفة. بعضها يصعب التعرف على نوعيتها والغرض منها. وحدهم الباعة والنساء الخبيرات يدركن الاسماء والمقاصد. القلوب الرحيمة والعبارات الحزينة عند مدخل مقبرة الغفران, تم إخلاء موقف السيارات بالكامل خلال هذا اليوم تسهيلا لوصول المواكب الجنائزية التى كان يتم عرقلة دخولها في السنوات الماضية. لكن المكان تم احتلاله من طرف متسولين بعضهم يعانون من اعاقة واضحة أو تقدم بهم العمر، في حين تحمل نساء أطفالا في محاولة لنيل تعاطف وسخاء الزوار, لا يتوانين من توجيه كلمات وجمل مختارة بعناية، من قبيل : (الله يرحم المرحوم) أو (تزداد الرحمات بكثرة الصدقات) أو (لا تكتمل الزيارة الى بالتخفيف من معاناة الفقراء), وهي عبارات تجد صداها في قلوب العائلات الحزينة والمكلومة لتتصدق ببعض الدراهم او بالعملة المحلية للمقابر وهي عبارة عن تين مجفف او تمر او خبز. وإن كان المتسولون يفضلون الدرهم لأن أي صدقة عينية تفرض إعادة بيعها ما يفقدها كثيرا من قيمتها الحقيقية. داخل مقبرة الغفران تفوح رائحة ماء الزهر، كما تصل الى مسامعك آيات قرانية من الذكر الحكيم، وهي أجواء تدفع بكثير من النساء الى تذكر موتاهم وقص حكاياتهم على بعضهم البعض. كما يتحدثن عن بركات الزيارة في هذا اليوم الكبير من شهر رمضان المبارك، وعلى محياهن علامات التأثر والحزن وأيضا التعب من مشاق رحلة مضنية تحت أشعة الشمس من يوم رمضاني. قصصهم يختلط فيها الدين والخرافة, الحقيقة والاساطير والدموع. فلكل منهن فهم خاص لفضائل الزيارة حسب درجة وعيهن وتعليمهن ومصادر خبرهن، فمن فقيه مسجد الحي الى عالم دين مجهول في احدى القنوات الفضائية. خلال سيرهن يحملن سلعا تم شراؤها بجوار المقبرة من قنينات ماء زهر، ونباتات (عطرشة، و فليو). ومنهن من يحملن القران الكريم. يتعقبهن المتسولون ومن يقدمون خدمات مختلفة. فغالبية الزوار هن من النساء، فهن الأكثر تأثرا وعاطفة وصبرا. منهن من يعرفن وجهتهن لكثرة زيارتهن. لكن أخريات يختلط عليهن الأمر وسط شساعة المكان فيصبح الاعتماد على مرشدين أمرا ضروريا. وهم في الغالب أطفال يبيعون قنينات ماء من الحجم الكبير او شباب يحملون دلاء مملوءة بالجير لطلاء القبور او صباغة حمراء لإعادة كتابة الأسماء المكتوبة على شاهد القبر، وذلك لاعطائها لمعانا ووضوحا بعد أن تمكنت منها عوامل الزمن. ولأجل هذا الغرض يقتربون من كل زائر جلس بجانب قبر عارضين خدماتهم، مقابل بعض الدراهم. العملية تبدأ بإزالة الشوائب وتنظيف المكان ورش الماء وماء الزهر مرورا بعملية الطلاء وزراعة نباتات العطرشة وغيرها. عندما يحاول الزوار أخذ قسط من السكينة والهدوء الواجبين في مثل هذه المواقف للترحم والدعاء لأحبتهم وذويهم الذين غادروا دار الدنيا الى دار الأخرة. تتم مقاطعة وحدتهم وخشوعهم من طرف فقهاء امتهنوا قراءة آيات قرآنية ودعوات للفقيد بالرحمة ولأهله الصبر في محاولة لاستمالة عواطف ومشاعر الزوار المكلومين مقابل بعض المال الذي تختلف قيمته باختلاف سخاء الزائر وتأثره وعلاقته بالفقيد. نشاط الفقهاء والمتسولين وأيضا كل من يعمل في هذا الفضاء لا يتوقف إلا باغلاق أبواب المقبرة قبل صلاة المغرب. فطوال اليوم يسرعون من مكان الى أخر لا يثنيهم رفض بعض الزوار ولا حتى حرارة الشمس المرتفعة. وحدها المنافسة المحتدمة بينهم تشكل عائقا من أجل الظفر باكبر قدر من المداخيل في هذا اليوم الاستثنائي. تنتهي الزيارة دون أن يتمكن افراد العائلة من الحصول على الهدوء والسكينة التي يبحثون عنها من أجل الترحم على أحبائهم وأقاربهم الذين فارقوا الحياة الدنيا. في حين تجد بعض النساء ضالتهن في ممارسة طقوس الشعوذة والسحر التي كانوا قد بدؤوها منذ ليلة القدر بعد أن أحرقوا البخور ومواد اخرى انبعثت روائحها الخانقة وسط الاحياء. طريق العودة والخروج من المقبرة لا تخلو من مضايقات, فحتى آخر رمق يحاول المتسولون وخصوصا الصغار منهم الحصول على بعض الدراهم عبر الامساك بتلابيب جلابيب النساء ولا يتركونها الى بالحصول على ضالتهم، في حين يعتبر من هم اكبر سنا ان درهما او درهمين لا تكفي من أجل تجديد الرحمات على الفقيد. المفاجآت لا تنتهي, فقد تستوقف الزوار فتيات يعرضن خدمات احدى شركات الإتصالات عبر بطائق بساعات مجانية عند أول تشغيل، باصرار والحاح كبيرين وكانها مكالمات تسمح بالتواصل مع العالم الاخر. طريق الخروج لا تختلف كثيرا عن طريق الدخول، فسواء عبر السلالم العشوائية أو الباب الرئيسى، يترك الزوار أحزانهم في حياة الاخرة لينضموا الى الحياة الدنيا. ومنها الى أفواج المتسوقين في السوق المحاذي لمقبرة الغفران لينفقوا ما تبقى من أموال بحوزتهم عبر اقتناء مستلزمات أيام العيد السعيد من منتجات متعلقة باعداد الحلوى، او خضر وفواكه، أو حتى ملابس ولعب اطفال. الحكمة والمغزى من الزيارة ؟ لاشك أن زيارة المقابر تشكل مناسبة للترحم على الأهل والأحباب الذين فارقوا الحياة، وأيضا مناسبة للتذكر والتأمل ومراجعة الذات، لكن الأجواء المرافقة والمعتقدات السائدة لدى البعض تستوجب اتخاذ عدة اجراءات,لعل أهمها التحسيس والتوعية بالطقوس الدينية الصحيحة يوجهها علماء دين مغاربة عبر وسائل الاعلام الوطنية بدل ترك شريحة واسعة من المجتمع عرضة للجهل والخرافة و فريسة لعلماء أجانب يجهل انتماؤهم كما تجهل أهدافهم. كما يجب تأهيل وتنظيم المقابر عبر إشراك جمعيات المجتمع المدني من أجل السهر على صيانتها وتأطير روادها، وتبقى مقبرة الغفران رغم تصرفات بعض المتسولين وبعض الدخلاء أفضل بكثير من غيرها بتوفرها على مسجد وماء وكهرباء وطرق معبدة وغطاء نباتي من ازهار واشجار الزيتون وحراس يحرسون الباب الرئيسي, رغم غياب حراس الامن الخاص الذين كانوا يؤمنون الفضاء خلال سنوات مضت، فعودتهم أصبحت اليوم أمرا ملحا، ليستعيد رواد مقبرة الغفران أمنهم وراحتهم. في حين تعاني مقابر اخرى وضعا اكثر قتامة, حيث التهميش والنسيان ومكان لكل الانحرافات خصوصا من توقفت فيها عمليات الدفن بعد ان استنفدت طاقتها الإستيعابية. ما يستوجب إشراك جميع الأطراف من وزارات وصية ومجالس منتخبة ومجتمع مدني لاتخاذ كافة الاجراءات اللازمة، عبر مراجعة شاملة لتعاملنا مع هذا الفضاء بما يلزم من احترام وعناية واجبة. صحفي متدرب