في قولته المشهورة للولي الصالح سيدي محمد الشرقي التي قال فيها: «إني راحل إن شاء الله إلى بلد أمورها في الظاهر معسرة وأرزاقها ميسرة، هذا المحل إن شاء الله محل يمن وبركة لعله يستقيم لنا فيه السكون بعد الحركة...».." والمقصود عند الشيخ بوعبيد الشرقي، هذا المحل هو مدينة أبي الجعد اليوم أو ما تعرف به «الزاوية الشرقاوية». ومن هنا كانت مشهورة بضريح مؤسسها، والتي أصبحت مزارة مدن مختلفة من المغرب، وخاصة خلال فترة موسمها التاريخي والديني والثقافي الذي ينظم سنويا، زيادة على فن التبوريدة وعبيدات الرمى ومعرض الزربية البجعدية الأصيلة..، ومن هنا لا ننسى أحد الفنون المتجذرة في التراث البجعدي العريف الذي يسمى«دقة إسلان»، فهذه الصورة الفنية الروحية التي يشارك في أهازيجها الصوفية مجموعة من الحرفيين البسطاء من أهل المدينة، كالدباغين والحدادين والخزافين والجزارين وأصحاب الأفران.. وهم يشكلون يدا شعبية تجسد هذا النوع من الفن الأصيل، حيث تكون انطلاقته من الليالي الأولى من عاشوراء بعد صلاة العشاء، وذلك كل سنة، وتتوزع فيه موسيقى خفيفة هادئة.. تنبعث من خلال إيقاعات عذبة مصدرها الضرب على الدفوف والدق على التعاريج، ويشرف على تنظيم هذا العرس التاريخي »المقدم»، حيث يعمل على ضبط الميزان، ويركز على سيرورة مستمرة موسيقية غير متقطعة، ولا يسلم منها الخارج عن الإيقاع.. و«دقة إسلان» أو «دقة العرسان» تتضمن داخل روحها الصوفية نموذجا حيا من الماضي الدافئ للزاوية الشرقاوية وتترجم البعد التاريخي لمدينة ظلت منذ القرن العاشر الهجري لمؤسسها سيدي محمد الشرقي بوابة مفتوحة في وجه المريدين الأتباع والعلماء.. وهذا ما جعل «دقة إسلان» اليوم تعيد في شريطها الفني وعمقها التاريخي تقاليد مدينة أبي الجعد التي تحكي من خلاله «دقة إسلان» تقاس بأحداثها ورجالها البسطاء.. فإن ما يعطي لهذه الدقة رونقا وطابعا مشرفا ظل يسجل صفحات تاريخية من ذاكرة المدينة. فإن الوصف العميق الذي تعزفه «دقة إسلان» وخاصة لأهل المدينة القديمة والزائر لها في مناسبتها يدرك من خلال سبعة أيام بعد صلاة العشاء لا تغمض فيها الجفون ولا تهدأ فيها الكفوف بالدق على التعاريج.. وهذا ما يحيي في نفوس البجعديين الحنين إلى الماضي والأغوار في الأحداث والأمجاد للمدينة، مما جعل لهذه الدقة عشاقها الملتزمين وفراجها الدائمين بين أزقة المدينة، فيظل هذا العرس الفني للسكان الأصليين نورا يستمدون منه مخزونا تاريخيا نفتقده اليوم بكل حرقة وتأسف وحسرة.. ولعل، رئيس جمعية إسلان بأبي الجعد السيد الغرواني غلوظي جعل من صورة «دقة إسلان» حدثا جديدا داخل المدينة عندما رسم لها جيلا جديدا من الرجال الحرفيين الذين ورثوا هذه الدقة عن آبائهم وأجدادهم وجعلوا من النبش في تاريخ المدينة في «دقة إسلان» عملا تاريخيا يحتوي على مجموعة من الصفحات الدافئة للزاوية الشرقاوية ويعيدون ذاكرة المدينة التي تناسها الجيل الجديد. وبكل دقة واهتمام وشعور صوفي .. تعيش المدينة سنويا هذه الملحمة التي تعيد الهوية البجعدية للمدينة، وتوقظ في قلوب أهلها روحا جديدة للتأمل والمتعة والسكينة في مدينة كانت دائما مشهورة بصلحائها وعلمائها وأضرحتها.. وقد زاد من انتشار«دقة إسلان» اليوم والرجوع إلى فنها الخالد التوسع السكاني الذي عرفته المدينة في عشر سنوات الأخيرة، مما جعل المدينة العتيقة بأوليائها وأزقتها وأهلها وتقاليدها تستقل عن التوسع العمراني الممتد إلى ضواحي المدينة ويحاصرها من كل الجهات. ويلاحظ الزائر أن السكان المنحدرين من سلالة الزاوية الشرقاوية مازالوا يتمسكون بفن «دقة إسلان» والقاطنين في دروب «درب الغزاونة - القادريين - السلاميين - المكانسة..» ويعتبرونها جزءا من تاريخهم وذاكرتهم البجعدية، ناهيك عن كون مجموعة «دقة إسلان» تجد هذا العرس السنوي الصوفي تجديدا لعهد الزاوية الشرقاوية، مما يعطي لهذه الليالي الروحية سكونا موسيقيا متعايشا بين أزقة المدينة القديمة، يغطي بردائه الأنيق وأهازيجه القائمة من بين أضرحة الأولياء الصالحين لحنا دافئا يهديه إلى سماع المتذوقين لأهل المدينة لهذا النغم الأصيل، بعيدا عن ثرثرة المتنطعين وسفسطة الجامدين..