خلال عشرين سنة خلفت المواجهات بين الجماعات المسلحة والجيش وقوات الأمن أكثر من 250 ألف شخص حسب ارقام رسمية. أي بمعدل ألف شخص في الشهر. ومن تضاريس هذه المأساة، هناك مجازر بشعة تمثلت في مذابح جماعية لقرى بأكملها. في العشرين سنة الأخيرة انفتحت البلاد على عمليات اختلاسات كبرى وتهريب للأموال العامة بشكل لم يعرفه أي بلد من بلدان العالم الثالث، ويكفي تصفح الجرائد المحلية كل صباح ليصطدم القارئ بحجم الأموال التي امتدت إليها أيادي النهب، والمشاريع التي تم استهدافها، فخلال العشر سنوات المنصرمة فاقت الفضائح 3500 مليار دينار جزائري (وتمثل حسب سوق الصرف الرسمية 35 مليار أورو). دخلت الجزائر هذا الأسبوع سنتها العشرين بعد حدث سياسي كبير لازالت تداعياته تؤثر على هذا البلد المغاربي، ليس فقط على مستوى مؤسساته الدستورية بل، في مجتمعه وأحزابه واقتصاده ونخبه وجيشه و...و... الحدث هو الانتخابات التشريعية التي أجريت في 26 دجنبر 1991، وفازت بأغلبتها آنذاك الجبهة الاسلامية للإنقاذ التي تم إنشاؤها في نهاية الثمانينيات، وتزعمها كل من عباسي مدني وعلي بلحاج. لقد استفاقت الجزائر في 27 من آخر شهر تلك السنة على خريطة سياسية جديدة خلفت ردود فعل في عواصم العالم، وأذكر - وقد قمت بتغطية الحدث - أن وزير الداخلية حينها الجنرال العربي بلخير جاء إلى قاعة ابن خلدون بالعاصمة الجزائر، حيث المركز الصحفي، ليعلن النتائج في الساعات الأولى غداة انتخابات الدور الأول وعيونه متعبة وملامح وجهه توحي بأن مطبخ المؤسسة العسكرية يعيش صراعات وحيرة في كيفية التعامل مع هذه النتائج التي توجت خمس سنوات من غليان الشارع الجزائري ابتداء من انتفاضة اكتوبر 1988، مرورا بالإضراب العام والعصيان المدني والانتخابات البلدية ... لم تكن الثلاثة أسابيع التي تلت اقتراع الدور الأول عادية في الجزائر، إذ شهدت تفاعلات هدفت إلى صياغة مخرج للمؤسسة العسكرية التي رأت في النتائج تهديدا لمصالحها وخطوة أولى لجرجرة قياداتها في المحاكم أو لتصفية حسابات تطيح ماديا أو معنويا برؤوس تحمل نياشين ما يعرف ب «الجيش الشعبي الوطني». أول محطة منعرج كانت العاشر من يناير 1992، حيث إلغاء نتائج الدور الأول من طرف هذه المؤسسة التي يقودها الجنرالان خالد نزار ومحمد العماري . ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم، يحق التساؤل: ماهي الحصيلة التي حصدتها الجزائر خلال عقدين من الزمن. هنا لا نتحدث عن مدى صواب أو خطإ الغاء نتائج الاستحقاق، فذلك موضوع استفاض فيه المحللون والسياسيون خلال تلك الفترة، وما يهمنا هنا هو جرد لأبرز ماعرفته الجزائر التي عاشت ولاتزال تحت هيمنة الحزب الواحد جبهة التحرير، والمؤسسة الواحدة، العسكر. خلال عشرين سنة خلفت المواجهات بين الجماعات المسلحة والجيش وقوات الأمن أكثر من 250 ألف شخص حسب أرقام رسمية. أي بمعدل ألف شخص في الشهر. ومن تضاريس هذه المأساة، هناك مجازر بشعة تمثلت في مذابح جماعية لقرى بأكملها، وتفجيرات في جل المدن أزهقت الأرواح بالجملة وبالتقسيط. وضمن هذا الكم كان هناك حوالي 100 صحفي، وعشرات المبدعين من كتاب وفنانين ومسرحيين وسينمائيين وأئمة وقساوسة... ويجهل مصير 4000 شخص هم في عداد المفقودين. كما تمت عمليات نزوح كبرى إلى الخارج بعشرات الآلاف هروبا من الوضع غير المستقر إلى اليوم. ورافق عمليات القتل هذه تخريب لمنشآت عمومية، مئات المدارس والمستشفيات ومقار البلديات ومؤسسات البريد والأبناك والجسور ومرافق حكومية تم نهبها وتدميرها بالمتفجرات أو إحراقها . كانت الفاتورة مكلفة جدا على المستوى البشري والاقتصادي، غرقت الجزائر في بحر من الدماء تعدد مهرقوه، وبرز سؤال محوري في تتبع هذه المأساة: من يقتل من؟ واجتهد في الإجابة عليه صحفيون وساسة وضباط أصدروا كتبا تكشف عن حقائق مذهلة وتتضمن معطيات مرعبة. لم تعش مؤسسة الرئاسة في الجزائر أي استقرار رلى اليوم، وإذا كانت قد شهدت جدلا قبيل وفي بداية الاستقلال (1962) ، وعرفت انقلابا عسكريا في منتصف العقد، فإنها دخلت منذ بداية التسعينيات في دوامة لايزال دورانها لم يتوقف إلى اليوم. في يناير 1992 تمت إقالة الرئيس الشادلي بنجديد، وفي يونيو من نفس السنة تم اغتيال الرئيس محمد بوضياف الذي لم يسكن قصر المرادية أقل من ستة أشهر، لتضع البلاد نفسها تحت مجلس للدولة استمر إلى غاية تنصيب ليامين زروال الذي قدم استقالته ثلاث سنوات بعد ذلك، واستنجد العسكر بعبد العزيز بوتفليقة، رئيس الدبلوماسية في عهد الهواري بومدين، لينصب رئيسا عقب انتخابات مشكوك في نزاهتها جرت في سنة 1999، وقد تعرض بوتفليقة إلى محاولة اغتيال قبل سنة في عملية أودت بعشرات القتلى والجرحى. في العشرين سنة الأخيرة انفتحت البلاد على عمليات اختلاسات كبرى وتهريب للأموال العامة بشكل لم يعرفه أي بلد من بلدان العالم الثالث، ويكفي تصفح الجرائد المحلية كل صباح ليصطدم القارئ بحجم الأموال التي امتدت إليها أيادي النهب والمشاريع التي تم استهدافها، فخلال العشر سنوات المنصرمة فاقت الفضائح 3500 مليار دينار جزائري ( وتمثل حسب سوق الصرف الرسمية 35 مليار أورو). ومست هذه الاختلاسات أساسا ثلاث مؤسسات عمومية هي البنك الوطني والبريد وسونطراك . وشملت قطاعين اجتماعيين هما السكن والدواء. لقد انفجرت فضائح ضخمة في سونطراك المكلفة بالنفط والغاز، وأقر تحقيق رسمي أن هذه المؤسسة عرفت حوالي 2000 صفقة مشبوهة، وأن الأضرار والخسائر الناجمة عن منح المشاريع بطريقة تخالف التشريع القانوني المعمول به فاقت 9600 مليار سنتيم. وفي بداية دجنبر 2010 تم الاستماع إلى 15 ضابط شرطة في عملية اختلاس 3200 مليار من البنك الوطني، وتم الكشف سنة 2009 عن اختلاس أكثر من 1300 مليار من مكاتب البريد. ولم يسلم من الفساد مركب الادوية، والخطوط الجوية، ومؤسسات مالية منها بنك خليفة... ولتلخيص هذا الوضع عنونت جريدة «الشروق» في طبعتها الأسبوعية، وهي تقدم جردا للسنة: « 2010 عام الفساد وخيبة الأمل». يعد السكن من المجالات التي تشهد عجزا فظيعا في الجزائر، فبالرغم من العائدات الضخمة للنفط والغاز، فإن أزمة السكن مستفحلة بشكل كبير بالرغم من الأموال التي يتم ضخها لتجاوز هذا العجز، وأبرز عنوان عن ذلك ما عرفته العاصمة الجزائر قبل أسبوعين من احتجاجات بين المواطنين وقوات الأمن، أسفرت عن عدد كبير من الجرحى والمعتقلين. والغريب أن الحكومة أعلنت أن القطاع استفاد من 10 ملايرر دولار منذ 1999، أي طيلة فترة حكم الرئيس بوتفليقة. أين ذهبت هاته الأموال؟ ولماذا يستمر العجز ضاربا أوتاده في مدن الجزائر؟ أكبر نشاط عرفته العشرين سنة الأخيرة هو التسلح، إذ قاربت الصفقات التي أبرمتها الجزائر مع عواصم عالمية في هذا المجال 100 مليار دولار. إذ اقتنت الجزائر طائرات وغواصات ودبابات، وكأنها تحضر لحرب عالمية. هذه هي بعض ملامح جزائر عقد في نهاية القرن الماضي وعقد في الحالي، تبذير واختلاس ومجازر وهشاشة مؤسسات دستورية... فبالرغم من الالإمكانيات الهائلة التي توفرها عائدات المحروقات، فإن هناك عجزا في كل القطاعات الاجتماعية، ونهبا لكل الإمكانيات. لقد بلغت العائدات - حسب مجمع سونطراك هذا الاسبوع ، 57 مليار دولار، وفي 2009 كانت 43 مليار، وقبله 76 مليار. ومن سنة 2000 إلى 2008 جنت الجزائر من قطاع النفط والغاز 350 مليار دولار. لكن هذا الكم المذهل لم يكن له صدى في العملية الاقتصادية. في عددها ليوم أمس الأحد كشفت إحدى اليوميات عن خبر جديد، يفيد باستغلال فرحة المواطن الجزائري عند تألق فريقه لكرة القدم، يقول الخبر، في «نهب 22 مليار من مداخيل نقل أنصار الخضر إلى أم درمان » . حتى لحظات الفرح تعرضت للاختلاس في الجزائر.