تهدف هذه الورقة بالأساس إلى وضع نموذج تنموي ينطلق من الاختيارات العامة لحزبنا، ويكون مستجيبا لمتطلبات المرحلة الراهنة التي تمر منها بلادنا، ويندرج - في نفس الوقت - في سياق المشروع المجتمعي، من أجل فتح باب الأمل مع الاطمئنان إلى المستقبل. نموذج لا يطرح الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية بمعزل عن ما هو سياسي وثقافي، مع ما يعنيه ذلك من تجنب لكل نزعة تقنو - ليبرالية. إن الاتحاد الاشتراكي مدعو اليوم وغدا، أكثر من الأمس، لأن يكون - كما دأب على ذلك دائما - أكثر تميزا ومبادرا وواضحا في توجهاته، مقنعا ومعبئا من خلال مواقفه. من هنا، فإن نظرتنا تعتبر نظرة استراتيجية، تربط السياسي بالاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كل ذلك في جدلية شاملة تنطلق من الواقع، مادام منظورنا الإصلاحي يبقى، بالأساس، منظورا مندمجا متجها نحو التسريع من وتيرة مسلسل الحداثة في كليتها. لذلك، فإن هذه الورقة تنطلق من واقع متحرك يتميز، من جهة، بمواصلة الأوراش التي دشنتها حكومة التناوب، ومن جهة ثانية، فتح أوراش جديدة مكملة ومدعمة، ليصبح مغرب اليوم مختلفا عن مغرب الأمس. لكننا، في نفس الوقت، مطالبون بتشخيص استشرافي للأوضاع العامة لبلادنا، انطلاقا من تقييمنا للتجربة بواقعية ومسؤولية، على ضوء النتائج الملموسة، متحلين بروح نقدية بناءة ومتجهة نحو المستقبل. فهذه الورقة، إذن، تهدف بالأساس إلى فتح نقاش جاد داخل حزبنا، حتى لا نختزل هذه الأوضاع فقط في مشكل الحكامة، أي في جانب تدبيري محض، رغم أهميته، متجنبين ضرورة طرح اختيارات جديدة تهدف، أولا وأخيرا، إلى توسيع دائرة الثروة الوطنية وتقوية التماسك المجتمعي. 1 - لقد أبرزت تداعيات الأزمة العالمية مفارقة لا بد من تسجيلها. فمن جهة، لم يتضرر الاقتصاد الوطني بنيويا من تبعاتها، مقارنة مع شركائه الأوربيين. كما يمكننا أن نسجل، في نفس السياق كذلك، أن اقتصادنا استطاع مقاومة التقلبات التي أحدثتها هذه الأزمة بدون أن يؤدي فاتورة ثقيلة نتيجة لأوضاع خارجة عن إرادته. ومن جهة أخرى، أبرزت هذا الحدث العالمي أن الاقتصاد المغربي مازال اقتصادا غير منفتح على الاقتصاد الدولي، وأن اندماجه في المنظومة الاقتصادية العالمية ما زال يتسم بالضعف. كما أن نظامه البنكي والمالي لا يزال يتسم بطابع المحلية، رغم المجهودات الأخيرة في انفتاحه تجاه إفريقيا. إن هذه المفارقة تطرح سؤالا مركزيا يتعلق بضرورة تقوية مستوى الاندماج في المحيط الدولي، للاستفادة أكثر من الفرص الجديدة التي أفرزتها هذه الأزمة. كما أن هذا الأمر يتطلب إعادة هيكلة النمط الإنتاجي ببلادنا، من خلال توفير قاعدة اقتصادية أمتن وتكون قادرة على غزو الأسواق الخارجية. 2 - السياسة الاقتصادية العامة تفتقر إلى حكامة شمولية، إذ ليست هناك أسبقيات، بقدر ما هناك تضخم في الأسبقيات. مهم، والحالة هاته، أن يتوفر المغرب على سياسات قطاعية متعددة، لكن الأهم هو معرفة: من أجل ماذا؟ وضمن أي أفق؟ ثم هل هناك رابط عضوي بين القطاعات؟ لذلك، فإن مثل هذه التساؤلات تفرض علينا نفسها، من أجل توفير الشروط الضرورية لتجنب التبذير والرفع من نجاعة السياسات المتبعة، حتى لا يصبح النسيج الاقتصادي أكثر هشاشة وأقل تماسكا. 3 - تعميق الفوارق الاجتماعية والمجالية مع توسيع دائرة الفقر وبروز أشكال جديدة من الفقر داخل مجتمعنا. هكذا بات الجميع يعترف بأن الفئات الوسطى قد عرفت تدهورا في أوضاعها خلال العشرية الحالية، بل إن فئات من الشباب والنساء والفئات السفلى للطبقات الوسطى باتت تنتمي إلى ما يمكن أن نسميه ب «الفقراء الجدد». ويترتب عن هذه الأوضاع مخاطر عديدة على مستوى الاستقرار والتوازنات داخل المجتمع، وكذلك على مستوى دور السوق الداخلية كمحرك للاقتصاد الوطني. أما على المستوى المجالي، فإن خمس جهات من أصل ستة عشر تستحوذ على نصف الناتج الداخلي الخام. الأكيد أن أوراشا عدة قد افتتحت، خاصة على مستوى البنيات التحتية لتأهيل بعض الجهات (شمال المغرب مثلا)، وكذلك مواصلة البناء الاقتصادي والاجتماعي في أقاليمنا الجنوبية، حيث إن ما تم إنجازه منذ أزيد من ثلاثة عقود يؤسس لنموذج تنموي جهوي، يساعدنا على استخلاص الدروس الضرورية، خاصة أن المغرب مقبل على إصلاح جهوي وطنيا. فالمغرب مقبل، في السنوات القليلة المقبلة، على جعل الجهة مجالا وأداة للتسريع بالتنمية الشاملة وخلق توازنات جديدة، في إطار حكامة ترابية تستخلص الدروس من كل التجارب الماضية. 4 - أصبح البعد البيئي يشكل توجها جديدا يستجيب للتحولات التي يعرفها العالم، كما أنه يعكس حاجيات الاقتصاد الوطني. وهنا، لا بد من الإشارة إلى الحوار الوطني الذي خلص إلى وضع الميثاق التوجيهي الخاص بإشكالية البيئة، وكذلك انطلاق المشروع الضخم الخاص بالطاقة الشمسية، مع ما سيحمله هذا المشروع من تحولات عميقة في السنوات المقبلة. لذلك، فإن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، من خلال جعله للإنسان محورا لكل اهتماماته، يعتبر هذا التوجه الجديد يستجيب لاختياراته كحزب حداثي يؤمن بأهمية البيئة وبمحورية الإنسان في تنمية الغد. بناء على كل ما سبق، نتقدم بالمقترحات التالية: 1 - تبني نموذج تنموي جديد قادر على التحكم في المستقبل: و يرتكز هذا النموذج على ما يلي: إعادة الاعتبار للتخطيط بالمفهوم التشاركي المرن، على أساس اعتماد منهجية تجعل من الاختيارات والرؤى مناسبة لتعبئة الجميع. فلا تنمية بدون تعبئة، كما أن لا تعبئة بدون انخراط وإشراك كل الأطراف المعنية. إن التخطيط على هذا الأساس يساعد على تحديد الأسبقيات وعلى جعل التنمية مندمجة في سياق منظور شمولي، مع الأخذ بعين الاعتبار البعد الاستراتيجي للتطورات والتحولات والتفاعلات التي يعيشها المغرب. أبرزت الأزمة العالمية، مرة أخرى، أهمية القيم في التطور الاقتصادي والمجتمعي. وعلى هذا الأساس يجدد الاتحاد تأكيده على أن لا تنمية شاملة ومستدامة بدون قيم، وعلى رأسها الثقة والمساواة والعدالة والتقدم الاجتماعي والبيئة والانفتاح... وكل ذلك لا يمكن له أن يصبح ذا معنى إلا في سياق إرساء ديمقراطية سياسية واجتماعية تنعكس بشكل مباشر على حياة المواطن اليومية. خلق توازنات جديدة على المستوى المجالي، من خلال تثبيت أسس جهوية جديدة. وعلى المستوى الاقتصادي، بجعل السياسات القطاعية، في إطار منظور جديد، مرتبطة فيما بينها ومتوخية هدفا واحدا ألا وهو عصرنة الاقتصاد الوطني. وعلى المستوى الاجتماعي، وضع شبكات تضامنية قوية بين الفئات الاجتماعية قصد التقليص من الفوارق الاجتماعية مع محاربة كل أشكال التهميش والإقصاء. إعادة الثقة في دور الدولة في التضامن الملموس وفي الحلول الجماعية الناجعة للمشاكل الفردية. ويطلب هذا الأمر العمل على جعل الخدمات العمومية (التربية، الصحة، الماء، الطاقة، النقل... ) في مستوى متطلبات المواطن المغربي اليوم. الاستثمار في الأنشطة التي تكتسي طابعا استراتيجيا بالنسبة للمستقبل: التربية، الصحة، البحث العلمي، البنيات التحتية، الطاقة الماء، البيئة... تعزيز موقع المغرب على مستوى البحر الأبيض المتوسط، خاصة في سياق الوضع المتقدم مع الأتحاد الأوربي، وعلى مستوى المغرب العربي الذي يشكل اختيارا حتميا، رغم سلوكات الجزائر التي تضعها خارج التاريخ. ثم على مستوى إفريقيا، باعتبارها - علاوة على الانتماء الجغرافي المشترك - امتدادا طبيعيا يشكل عنصرا مهيكلا للتعاون جنوب - جنوب. 2 - العولمة واقع يفرض نفسه: إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مطالب بتعزيز الجبهة التي تطالب بالانتقال من العولمة الليبرالية السائدة إلى عولمة متضامنة متحكم فيها. فالعولمة اليوم، عبر علاقات تجارية غير متكافئة، قد ساهمت في تعميق الفوارق داخل البلدان النامية، وبين هذه الأخيرة والدول المتقدمة. والجدير بالذكر أن عددا من البلدان، خاصة التي تنتمي للشمال، تمارس - بكيفية مقنعة - الحماية الجمركية لتسويق منتجاتها، مستعملة في ذلك وسائل لا تحترم المقاييس والأعراف والمواثيق الدولية. وعلى هذا الأساس، فإن مطلبنا هو أن ننتقل من صيغة «التبادل الحر» إلى صيغة «التبادل العادل» ، ووضع آليات لمواكبة اتفاقية التبادل الحر التي أبرمها المغرب، من أجل التقييم والتصحيح. 3 - لا قاعدة اقتصادية متينة بدون صناعة قوية كفيلة بتوفير الشغل: الأكيد أن هناك سياسة قطاعية في مجال الصناعة، والتي تشمل أنشطة تقليدية وأخرى جديدة، لذلك، ينبغي الاهتمام بقطاع الخدمات الرقمية، من خلال وضع برنامج خاص يجعل المغرب بلدا فاعلا في هذا المجال. وإلى جانب كل ذلك، ينبغي تعميق الاختيارات الحالية وتوسيعها لجعل النسيج الصناعي يستجيب لمستلزمات التنمية. وبقدر ما نتمن المجهودات المبذولة حاليا، بقدر ما يجب أن لا نختزل الصناعة في التجارة. وهنا يكمن أهمية دور الدولة الذي ينبغي أن يكون استراتيجيا في تكامل مع القطاع الخاص. فالتوجه نحو تشكيل أقطاب صناعية مثل ( قطاع السيارات والأدوية والنقل والنسيج...) على أساس تقوية نسبة الاندماج في اتجاه الرفع من مستوى تنافسية الاقتصاد الوطني، هو السبيل الوحيد نحو تعزيز موقع المغرب في محيطه. 4 - دعم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني: وهذا النوع من الاقتصاد لا يخضع لمنطق الدولة أو لمنطق السوق، فهو اقتصاد تشاركي يهدف، بالأساس، إلى محاربة الفقر والتهميش وخلق فرص للشغل، خاصة أن هذا الاقتصاد في البلدان المتقدمة يمثل أزيد من 10 في المائة من الناتج الداخلي الخام، في حين لا يتجاوز في المغرب نسبة 2 في المائة. ولهذه الغاية، نقترح في هذا الاتجاه برنامجا وطنيا خاصا لتقوية ودعم وتوسيع مجال هذا النوع من الاقتصاد، خاصة في المناطق الحساسة من المدن الكبرى أو في الجهات المتعثرة. 5 - البعد المجالي للتنمية: لقد تميزن سنة 2010 بفتح ورش جديد يهم الإصلاح الجهوي كمدخل لإصلاحات متقدمة تهم بنيات الدولة بارتباط مع التدبير المجالي. هذا الورش سيساعد، ولا شك، على مراجعة عدة مفاهيم أصبحت متجاوزة واختيارات حان الوقت لتصحيحها، خاصة أن حزبنا راكم، في هذا الاتجاه، تجربة غنية ووازنة عندما كان يتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام الوطني. 6 - أي نموذج تنموي له مصداقية يحتاج إلى وسائل التنفيذ: وهنا، لا بد من التأكيد على ما يلي: إذا كان من البديهي أن اعتبار خلق الثروات وتوسيعها أمرا لا نقاش فيه، وإذا كان حتميا أن نعبئ كل الوسائل ليصبح ليس فقط اقتصادنا بل مجتمعنا منتجا في جميع المجالات، فإن إشكالية إعادة توزيع الدخل تعتبر من الإشكاليات التي توجد في صميم اهتماماتنا. فلا توزيع بدون إنتاج. فالأكيد أن هذه الإشكالية هي الكفيلة بمعالجة الفوارق والاختلالات وإعطاء معنى للتضامن وجعل المواطن المغربي يشعر بانتمائه إلى الوطن، خاصة أن التفاوتات في الأجور كبيرة جدا وأن ربح الشركات الكبرى يكتسي أحجاما قياسية، وأن الساكنة القروية لا تستفيد إلا من قسط ضعيف من الدخل الوطني. فالاتحاد، باعتباره حزبا اشتراكيا ديمقراطيا، مطالب بوضع سياسة اجتماعية جديدة على أساس ما راكمه المغرب في هذا المجال، سياسة تجعل من التضامن عبر آليات متعددة قاعدة مؤسسة لثقافة ينخرط فيها كل الفاعلين، وعلى رأسهم الدولة. وضع إطار جديد للنظام البنكي والمالي بارتباط مع متطلبات بناء اقتصاد منتج وتنافسي، لا اقتصاد استهلاكي مضارباتي. وفي هذا الاتجاه، ينبغي حث المؤسسات البنكية على القيام بدور فاعل في مجال الاستثمار، وليس فقط الاكتفاء بموقع تجاري مدر لأرباح كبيرة. اعتماد سياسة ضريبية تنموية تهدف، أولا: إلى دعم وتوسيع الاستهلاك الشعبي، ثانيا: تشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة الأكثر قدرة على خلق فرص للشغل، ثالثا: الرفع من تنافسية الاقتصاد الوطني مقارنة مع بلدان مماثلة. خلاصة القول، إن تبني هذا النموذج الجديد سيؤسس لمرحلة جديدة في مسار التنمية، وهي المرحلة التي نريدها شاملة، مندمجة وقادرة على خلق توازن بين التماسك الاجتماعي وتنافسية الاقتصاد الوطني، وبمعنى أخر، تنمية نوعية تكون في خدمة الإنسان المغربي لا أن يكون على هامشها. استحضارا أيضا لكل ما سبق، وحتى نوفر الشروط اللازمة لمواصلة النقاش في القضايا الاقتصادية والاجتماعية، على أسس واضحة، نوصي بما يلي: تفعيل التنظيم القطاعي، الذي نعتبره من الركائز الأساسية لهندستنا التنظيمية، وتعزيز القوة الاقتراحية لحزبنا مرتبط بحركية التنظيمات القطاعية. لأن البعد الميداني هو الذي يعطي نفسا لعملنا الحزبي، كما أنه يضفي المصداقية الضرورية على اقتراحاتنا في القضايا الاقتصادية والاجتماعية. تعزيز العلاقة مع الحركة الاجتماعية وخاصة الحركة العمالية المتمثلة في الفيدرالية الديمقراطية للشغل والتنظيمات المهنية الأخرى، وذلك في إطار الاحترام المتبادل. فالاتحاد منذ تأسيسه جعل من الواجهة الاجتماعية مجالا لا للمبارزة بل لتحديث العلاقات المهنية والاجتماعية داخل المقاولة المغربية، مساهما بذلك في تأسيس ثقافة تجعل من مختلف أطراف الإنتاج فاعلين يقدرون حقوقهم وواجباتهم. تنظيم ندوات وطنية في مواضيع تساعد على توضيح الرؤيا وتوحيد الخطاب الاتحادي. الورقة المقدمة من طرف