تسارعت الأحداث المرتبطة بقضية الوحدة الترابية خلال الأسابيع القليلة الماضية بشكل لم يسبق لها مثيل منذ تاريخ المسيرة الخضراء، تزامنا مع انطلاق جولة جديدة من مفاوضات منهاست غير الرسمية بين «الأطراف المعنية»، حيث بلغت ذروتها على إثر تفكيك مخيم أكديم الزيك بضواحي مدينة العيون يوم 08/11/2010، بدءا بالتغطية الإعلامية، غير الموضوعية، التي أمنتها بعض وسائل الإعلام الإسبانية و الجزائرية لأحداث المخيم المذكور، واستصدار توصية غير متوازنة في الموضوع من طرف البرلمان الأوربي في 25/11/2010، وصولا إلى استفاقة الضمير الجماعي للشعب المغربي الذي تجسد في تنظيم مسيرة الثلاثة ملايين بالدارالبيضاء يوم 28/11/2010 . فما هي الدروس المستفادة من هذه الدينامية الجديدة على الساحة الوطنية والدولية؟ و ما هي الآفاق الممكنة لتطور القضية الوطنية على ضوء هذه التفاعلات؟ وما هي إستراتيجية التفاعل مع هذا الوضع الجديد لفرض حياد الخصوم؟ لعل أهم ما نبدأ به هذا المقال هو الدرس المستنبط من إحدى روايات «موليير» الشهيرة حول الضفدعة و الطوفان، حيث قالت هذه الأخيرة : «لقد علمتُ الآن من وضعني في الماء و من أخرجني منه»، و هو بالفعل ما وصل إليه المغرب بعد أحداث العيون، لكن ضفدعة موليير تتقن فن العيش في الماء و في البر، ولم يعد هناك مجال للتستر و لا للمجاملة بعد الآن. إن أهم ما ترتب عن هذه الدينامية الجديدة إعلاميا و سياسيا و مجتمعيا هو إيقاظ الحس الوطني للشعب المغربي، حيث تكونت لديه قناعة متجددة على أن ملف الصحراء لم يحسم بعد دوليا، و هو محتاج إلى تقوية الجبهة الداخلية لدحض كل ما يمكن أن يحاك ضد وحدته الترابية. فالأمر يقتضي من كل تعبيرات المجتمع حكومة و أحزابا و مجتمعا مدنيا أن تُجمع قواها ضمن إستراتيجية متكاملة للدفاع عن حوزة الوطن و إبعاد كل مصادر التأثير السلبي عنها، و شرح عدالة قضيته في المحافل الدولية. لقد شكلت في هذا الصدد مسيرة الدارالبيضاء حدثا متميزا كشكل من أشكال التعبير المجتمعي الذي انخرط فيه بعفوية المواطنون و المواطنات بمختلف حساسياتهم السياسية. لقد كانت هذه المسيرة الشعبية بحد ذاتها مبعثا للقلق و الغيرة للذين فشلوا في تأمين سلامة حياة مواطنيهم المضطرين لدخول بيوتهم قبل غروب الشمس. فكيف لا ينزعج من يُسيرون بلادهم من خلف الستار، و من داخل الثكنات العسكرية المحصنة، التي لا يغادروها إلا عند حصولهم على التقاعد، وحينها يجدون في المغرب ملاذا آمنا يستنشقون فيه رائحة الحرية، متنكرين لماضيهم المظلم، لقضاء ما تبقى من حياتهم فيه. لكن المغاربة لن يقبلوا بعد الآن باحتضان من تفوح أياديهم برائحة دماء شعب شقيق، اختار التعبير عن رأيه بحرية في الانتخابات البلدية لعام 1992 وتم إلغائها بقوة السلاح، لتُجهض أول بذرة في البناء الديمقراطي بالجزائر. ربما هذا الشأن نتركه للأشقاء للتداول فيه، لكن لن نقبل أن يلقننا أحد دروسا في حقوق الإنسان، خاصة من حكام لا يعترفون أصلا بهذه الحقوق، و هو الأمر الذي أكده علي بلحاج الجزائري مؤخرا في إحدى خطبه، و اعتقل على إثرها. ففي تقديرنا، لا يجب على المغرب أن يبقى سجين ذاته باحثا عن كل أشكال التبرير لحدث طبيعي تعيش على وقعه كل الدول العريقة في الديمقراطية كبريطانيا و فرنسا و غيرها، التي تواجه أعمال الشغب و الاحتجاج الخارجة عن القانون بالحزم و الصرامة المطلوبتين. فكيف لحكومة بلد مثل حكومة المغرب أن يُربكها تقرير أجرته القناة الثالثة الإسبانية حول أحداث العيون أو مقال صحفي كُتب بأقلام اليمين المتطرف على جريدتي إلموندو و البايس الإسبانيتين، أو أن يجد إحراجا في طرد الصحفيين الإسبانيين اللذين رفضا الامتثال للقوانين المنظمة للمهنة داخل المغرب أو الإقامة على أراضيه ؟ نعتقد أنه لم يكن من المفروض أن تدخل حكومة المغرب في متاهة منطق تبرئة الذمة، أو أن ترتجل في اتخاذ القرار المناسب في حق هذين الصحفيين «المكلفين بمهمة بالنيابة» داخل التراب الوطني. بل كان عليها أن تدافع عن حق السيادة، غير القابل للتصرف، و تقذف بهما في أول طائرة في اتجاه إسبانيا بدون حرج، أي بنفس الصيغة التي تعاملت بها السلطات الجزائرية مع الصحفيين المغربيين اللذين احتجزا الشهر المنصرم بفندق بتندوف و طردا بعد استنطاقهما خارج التراب الجزائري، أو مع والد مصطفى سلمى ولد مولود و ابنه اللذين طردا من مطار هواري بومديين، عندما همّا بالبحث عن الحقيقة بشأن اختفاء مصطفى سلمى و الاطمئنان على أحوال أفراد عائلته بالمخيمات. إن طرد الأجانب خارج البلد أمر معمول به تلقائيا في إسبانيا و في غيرها من الدول الديمقراطية، حينما يتم خرق قوانين الإقامة أو التدخل في شؤونها الداخلية، لأن الأمر ببساطة يتعلق بممارسة السيادة و لا يحتاج إلى تبرير. إن المغرب كباقي بلدان العالم، بلد ذو سيادة، يكفل له القانون الدولي و الاتفاقيات المتفرعة عنه حق رفض دخول أو استقرار أي أجنبي لا يتقيد بالقوانين المعمول بها، بل أكثر من ذلك تكفل له اتفاقية جونيف الدولية للحصانة الدبلوماسية أن يرفض اعتماد أي شخص في درجة سفير أو دبلوماسي انتدب من طرف بلاده دون إعطاء أي تبرير لقرار الرفض، لأن ذلك يدخل في حق ممارسة السيادة حسب ما تقتضيه المصالح الحيوية لكل بلد. كيف سيكون رد فعل القناة الثالثة الإسبانية أو صحيفتي إلماندو و البايس و من خلالهما الرأي العام الاسباني لو دعت أحزاب أو صحف أجنبية إلى انفصال إقليم الباسك عن إسبانيا؟ نترك التعليق على هذا السؤال لكل من يدعو إلى الانفصال من داخل إسبانيا لكي يفهم عمق رد فعل الشعب المغربي بخصوص وحدته الترابية. أما الإعلام الجزائري، فقد وجد في أحداث العيون مجالا للقيام بحملة تضليلية للنيل من سيادة المغرب، مستعملا في ذلك قاموسا استفزازيا مقصودا، كنعته للصحراء المغربية «بالأراضي المحتلة» أو «العيونالمحتلة...» و غيرها من المصطلحات المستفزة للشعور الوطني المغربي، قد لا يوازيها إلا تعامل وسائل الإعلام المغربية بدورها بنفس المنطق، من قبيل الحديث عن المخيمات ب «تندوف المحتلة» و «كلومب بشارالمحتلة» و «الصحراء الشرقية المغتصبة»، وغيرها من المراكز المقتطعة من التراب المغربي على عهد الاستعمار. نتساءل في نفس السياق، كيف سيكون موقف الجزائر لو رُفع في الرباط علم قبائل الطوارق الجزائرية أو علم قبائل تيزي وزو المطالبة بالاستقلال، و قُدمت لهما الرعاية و الدعم المطلوبين لزعزعة استقرار هذا البلد، بنفس المنطق و الحماس الذي تتعامل به الجزائر مع البوليساريو؟ إننا متأكدون حينه أن الآلة الدبلوماسية الجزائرية ستتحرك في جميع الاتجاهات بما فيها سحب سفيرها من الرباط، و تحرير مذكرات احتجاج لكل الأطراف الدولية المعنية، و غيرها من أشكال التعبير والاستنكار، قد تصل إلى قطع العلاقات الدبلوماسية الباهتة أصلا، التي تجمع بين البلدين. حينها سيفهم حكام الجزائر مرارة ما يشعر به الشعب المغربي عند سماعه تلك الكلمات المستفزة. و في نهاية الأمر، ألا تنبني القاعدة الدبلوماسية على مبدأ التعامل بالمثل؟ لكن في نفس السياق، نسجل بأسف شديد عدم قيام الحكومة المغربية بأي شكل من أشكال الاحتجاج الرسمي المعمول به دبلوماسيا تجاه الجزائر على خلفية أحداث العيون، حيث اكتفت إلى حد الآن بالتصريح والتنديد دون أن ترقى إلى اتخاذ موقف واضح تجاهها، علما أن ضلوع الجزائرفي هذه الأحداث أمر قد يكون واردا. ربما الحكمة تقتضي انتظار ما سيكشف عنه التحقيق القضائي مع الضالعين في تلك الأحداث من حقائق قد يكون لها الأثر البالغ على العلاقات الثنائية. وارتباطا بنفس الموضوع، لقد تم تنظيم لقاء دولي بالجزائر قبل اندلاع أحداث العيون بأيام قليلة، للترويج لأطروحة الانفصاليين، حيث حظي هذا اللقاء بتغطية إعلامية واسعة من طرف وسائل الإعلام الجزائرية، وحضره ما سُمي بوفود أجنبية من تيمور الشرقية و كوبا و البرازيل و نيجريا و غيرها من البلدان و المنظمات غير الحكومية المعادية للمغرب. لكن مشاركة العديد من شباب انفصاليي الداخل في هذا اللقاء هو الذي يمثل مبعثا للقلق بالنسبة للشعب المغربي. لقد توجه هؤلاء نحو العاصمة الجزائرية عبر مطار العيون، دون أن يخضعوا للمساءلة من طرف الجهات المختصة، باسم الديمقراطية و حقوق الإنسان و حرية التعبير. و في ذات السياق تبقى أسئلة مفتوحة تتعلق بمعرفة الجهة التي تحملت تكاليف تنقلهم و إيوائهم ومشاركتهم في هذا اللقاء؟ ومن هي الجهة التي أطرتهم أثناء إقامتهم بالعاصمة الجزائرية؟ و ما هو جدول أعمال ذلك اللقاء؟ إننا لا نستبعد أن يكون انفصاليو الداخل قد تلقوا توجيها من طرف جهات معادية للمغرب بخصوص توقيت أحداث مخيم أكديم الزيك بالعيون، التي اندلعت بالتزامن مع انطلاق جولة جديدة من المفاوضات غير الرسمية، لنسفها و زعزعة الاستقرار من الداخل. فرغم اطمئناننا ليقظة الجهات المعنية بالموضوع، نود إثارة الانتباه إلى أن فتح تحقيق قضائي احترازي لما تقتضيه المرحلة من يقظة مع المشاركين في هذا اللقاء قد يؤدي إلى الكشف عن معلومات تساعد على فهم خلفيات أحداث العيون، و تحديد الجهات المتورطة فيها داخليا و خارجيا. و قد يكون من المفيد في هذا الصدد أن يتم تفريغ البيانات الخاصة بهوية كل مشارك على حدة، الموثقة لدى مصالح المطار على المطبوع الذي يملؤه المسافر عند المغادرة أو الدخول عبر المطارات الدولية. إن تأجيج الصراع مع المغرب يجد فيه حكام الجزائر متنفسا، لعلهم يساعدهم على السيطرة على الأزمة الاجتماعية الخانقة التي تتخبط فيها الجزائر، معتقدين أن هذا التصعيد السياسي قد يساعدهم على تصدير الأزمة، و على التفاف الشعب حولهم. لكن هل يمكن الالتفاف حول حكام فضلوا إيداع موارد شعبهم التي تفوق 150 مليار دولار أمريكي من واردات الغاز و البترول في أيادي آمنة (والمقصود هنا هو الأبناك السويسرية و الأجنبية) حسب تصريح أحد وزراء حكومة بوتفليقة، وعقدوا صفقات التسلح للتزود ب «الخوردة» الروسية المتجاوزة، في الوقت الذي يرتع فيه المواطن الجزائري، المغلوب على أمره، في البطالة و الفقر و التهميش و الهشاشة؟ لندع هذا الأمر للإخوة الأشقاء، و لن نخوض في تفاصيله، لأن الشعب المغربي لا يرضى بالقيام بأدوار بالنيابة. قد يعتقد البعض أن حل قضية الصحراء قد يأتي من الجزائر عند اقتناع حكامها بجدوى المغرب العربي الكبير كاختيار استراتيجي لتنمية بلدان المنطقة، لكن نعتقد أن هذا الافتراض غير وارد في الأفق المنظور، نظرا للواقع السياسي الجديد الذي تنبني عليه السلطة المركزية بالجزائر. و يمكن تلخيص هذا الواقع الجديد في ثلاثة نقاط أساسية : أولهما- مرتبط بإبعاد القيادة التاريخية الجزائرية من السلطة خلال العقدين الأخيرين، إما بانقلاب أو باغتيال (محمد بوضياف)، حيث كانت هذه القيادة مؤهلة تاريخيا لفض النزاع بين البلدين، بحكم تقاسمها هدف وحدة المصير و خنادق المقاومة مع أعضاء جيش التحرير المغربي من أجل استقلال الجزائر. ثانيهما- تأسس بفعل التوتر الذي تعرفه العلاقات الثنائية بين البلدين، التي لم تعرف انفراجا يذكر، باستثناء شهور معدودة، منذ انطلاق المسيرة الخضراء في عام 1975 . و قد ساهم إغلاق الحدود البرية و الدعاية السياسية العدائية للمغرب في تعميق الهوة بين البلدين، اتسعت بفعل الزمن. ثالثهما- أكثر تعقيدا، مرتبط بطبيعة مراكز القرار التي أصبحت في أيادي أطر عسكرية و إدارية كان يتراوح عمرها بين 10 أو 15 سنة عند انطلاق المسيرة الخضراء (بمعنى أن العمر الافتراضي لهؤلاء يتراوح اليوم بين 45 و 50 سنة)، وقد تربوا على خطاب الحقد و الكراهية، سخرت له السلطة الجزائرية منذ فترة حكم بومدين كل الوسائل الضرورية، بما فيها التربوية، لصقل عقول أطفال الأمس و هم رجال اليوم لمعاكسة المغرب. إن من يعتقد إذن أن الحل لقضية الصحراء سيأتي من الجزائر فهو واهم. ولم يبق للمغرب إلا أن يعيد النظر في القناعات ذات الارتباط بإمكانية المصالحة مع هذا البلد في المدى المنظور، لأن المؤسسة العسكرية الجزائرية اختارت الخصام مع التاريخ و التنكر له، و فسحت المجال لمنطق الجنرالات الذي لا يؤمن إلا بالجغرافيا و احتلال المواقع. لقد فرضت أحداث العيون مقاربة جديدة، لم يعد معها القبول بالتقيد بمنطق رد الفعل، بدل منطق الفعل والمبادرة. إننا نعتقد أن الإستراتيجية المستقبلية التي تفرضها المرحلة لتدعيم الوحدة الترابية يجب أن تنبني على سياسة تعبئة الرأي العام الدولي لتسليط الأضواء على ما يجري في المخيمات، و العمل على فرض تطبيق القانون الدولي بدون انتقاء، بدءا بالأولويات الآتية : أولا- رفع دعوى قضائية لدى المحكمة القضائية الدولية بلاهاي، بحكم الاختصاص، ضد الدولة الجزائرية باعتبارها البلد المحتضن لمخيمات اللاجئين، لفرض التزامها بتطبيق جميع مقتضيات الاتفاقية الدولية لحماية اللاجئين ل 28/07/1951، كما تنص على ذلك المادة 38 من هذه الاتفاقية. ثانيا- تدويل ما يجري في المخيمات من تنكيل و خرق لحقوق الإنسان، ومصادرة لحرية التعبير والتنقل، و احتجاز بالقوة، و الضغط في اتجاه اعتبار هذه الخروقات مطلبا دوليا، إعمالا للمادة 26 من نفس الاتفاقية. و يشارك في هذه المهمة كل من الحكومة، و الأحزاب السياسية، و المنظمات الحقوقية و وسائل الإعلام و كافة أشكال التعبير المجتمعي. ثالثا- العمل على إقرار تسجيل و إحصاء اللاجئين تطبيقا للمادة 35 الفقرة 2 من نفس الاتفاقية من طرف المنتظم الدولي، على أن يمارَس هذا الاختصاص بإشراف من المفوضية السامية للاجئين أو أية جهة دولية محايدة يُعهد لها بتنفيذ هذه المهمة. رابعا- إقرار الطابع المدني للمخيمات و استبعاد كل مظاهر التسلح عنها لتيسير تنقل اللاجئين، والضغط في اتجاه تجريد مسلحي البوليساريو من صفة اللاجئين، باعتبارهم لا يدخلون ضمن اختصاص الاتفاقية المذكورة . خامسا- إقناع المنتظم الأممي بضرورة إخراج ملف الصحراء من اللجنة الأممية الرابعة لتصفية الاستعمار و إسناده إلى المجلس/اللجنة الأممية التي تُعنى بمراقبة حقوق الإنسان. سادسا- تعزيز الترسانة القانونية بإصدار قانون يُجرم الخيانة الكبرى للبلاد، كالدعوة أو الترويج للانفصال أو القيام بكل ما يمكن أن يمس بسيادة المملكة الترابية داخل حدودها الحقة. سابعا- تقوية الجبهة الداخلية و ربطها بالتلازم القائم بين معركة الوحدة الترابية و معركة البناء الديمقراطي، تكون معززة بسياسة الأوراش الكبرى المهيكلة لضمان تنمية متوازنة في أبعادها الاقتصادية و الاجتماعية، مما سيؤدي إلى بناء مجتمع ديمقراطي حداثي تلعب فيه الديمقراطية الجاذبة (démocratie intégrante) لكل مكونات المجتمع دورا محوريا.