1 انبثقت السياسة، معرفة وممارسة، وفنون الأدب وتقنيات البلاغة، في نفس الظروف ونفس الشروط، تأسيس المدينة الدولة. استجابة للحاجة إلى النظام والانضباط والصراع بالكلام أولا وقبل الحسام عند الاضطرار، ذلك يعني الحاجة إلى وجود قوانين، وهذه تعكس مصالح هي بطبيعتها متباينة وحتى متناقضة، تحتاج لذلك إلى خطابة واحتجاج (=بلاغة) للدفاع منها وتسويغها. في الحالتين: السياسة والآداب، يعكسان حالة خلاف أو نزاع إيديولوجي، وهذا الأخير، لا يتصور وجودا، إلا في شروط تميز مصالح البعض عن البعض والأبعاض عن الجماعة. وضعية لم تكن في حينها، ولا هي اليوم، بديهية أو بالأحرى «طبيعية»، هي حالة تاريخية. تحتاج من أجل تسويغها إلى خطابة، إلى بلاغة، إلى إيديولوجية... لا تعني الإيديولوجية الكذب، فهذا حالة فردية-سيكولوجية وأخلاقية أما الأيديولوجية فحقلها معرفي-اجتماعي تاريخي. ولا هي (=الايديولوجيا) بالأحرى جهل أو عدم معرفة، مع أنه يدخل جزئيا ضمن نطاقها، غير أنه وحده لا يفسرها. البشرية الأولى أو الأصلية، كانت تجهل الكثير عن نفسها وعن محيطها، غير أنها لم تنتج ولم تحتج إلى إيديولوجيا. كانت معارفها سحرا وخرافة وأسطورة. ولم تصبح آدابا وفنونا (شعر ? غناء ? رقص ? تمثيل ? رسوم ونقوش...) إيديولوجية، لم تصبح بلاغة، إلا عندما خضعت لاحقا لإعادة إنتاج، من قبل المجتمعات الطبقية اللاحقة عليها. فصارت لذلك «آدابا» و»فنونا».. تعكس المجتمع اللاحق، ولا تعبر عن مجتمعاتها الأصلية، والتي لم تكن بالنسبة لها سوى «معرفة». عندما يقول النابغة مثلا «وإنك شمس والملوك كواكب..» فهو يعبر عن عقيدة دينية وثنية تعتبر الملوك شموسا. أما التأويل بالتشبيه من قبل البلاغة العربية... فهو إعادة إنتاج لديوان «شعري» موروث، استمرت الحاجة إليه اجتماعيا وكذلك دينيا لفهم النص القرآني «الفصيح» وهو ما اقتضى تأويله (=إعادة إنتاجه). لخدمة حاجيات المجتمع الإسلامي، لا بالأحرى، المجتمع القبلي-العشائري-الوثني...الذي أنتجه في الأصل، كمعرفة... لا ك «أدب». الايديولوجيا حدث طارئ وبالتالي عابر، فرضه انقسام المجتمعات أفقيا إلى طبقات، بالتالي إلى مصالح متعارضة. أضحت تتدخل كوسيط ثالث بين عقل الإنسان ومحيطه الطبيعي والاجتماعي، يأخذ هذا التدخل صيغا متعددة ويتوسل بآليات، تضيف إلى الموضوع ما ليس منه أو تنقص منه أو تعيد تشكيله أو تقلبه أو تضببه أو تشوش عليه أو تجزئه أو تخفيه أو تجمله أو تقبحه أو تبالغ في إبرازه.. إلخ. وهذه عموما هي وظائف ما يصطلح عليه بلفظ «البلاغة». ف»البيان» إذن لا يبين، وليس من وظيفته ذلك، بل هو يخفي بالأحرى مقاصد «المبدع» وأهدافه. والمفروض في ناقد الخطاب، أن يكشف عن ذلك، ويساعد المتلقي على إنجاز ذلك. يحاول الخطيب أو الأديب... أن يقنعا المتلقي مثلا، بأن منطق وإستراتيجية من يعبران عنهم، هي ذاتها مطالب ومصالح الجماعة الوطنية كلها، ولذلك هو يلجا إلى «البلاغة». إذ لو كان الأمر كذلك فعلا، لطابق اللفظ معناه، والمعنى الحقيقة والواقع، فيقنع الخطاب لذلك بذاته (مثل العلم)، نحتاج إلى التسويغ البلاغي (=الإيديولوجي) إذا كان خطابنا غير ذلك، ويتحايل ليظهر كذلك. 2 من البلاغة، بالمعنى القدحي، الحديث الرائج عن ال»سياسة» بالتعريف التعميمي والاستغراقي. والحال أننا في التاريخ وفي الواقع وبالمنطق، نجد أمامنا سياسات، لا يجمع بينها سوى موضوعها، أعني الصراع على الحكم، بين من يتشبث بالمحافظة عليه (إدارات الدولة) وبين من ينازعهم في ذلك، اقتساما أو إقصاءا. ذلك يعني إذن أننا أمام إيديولوجيات، بالتالي بلاغات لا بلاغة واحدة. وهو الأمر الذي قد لا يعني ضرورة انعدام وجود علاقة بل علاقات اقتباس واستعارة... في ما بينها تزامنا. أليست «الحرب خدعة» والسياسة حرب باردة. وبلاغة الخطاب من أهم وسائلها عندئذ، فلا نستغرب لذلك أن يتسلح الاخصام والأعداء أحيانا بنفس الأسلحة البلاغية، مع أن الوظائف والأهداف متناقضة متعارضة. عموما، هنالك بلاغة الدفاع عن الواقع وتبرير الراهن وتسويغه، وفي مقابلها بلاغة مناهضته والدعوة إلى تغييره والإقناع بالتعبئة والتحريض عليه، استسهاله واسترخاص التضحية من أجل اقتحام ذلك... في هذا المعنى، يجب التنبيه إلى أن بلاغة الإشكال أهم في هذا الصدد من بلاغة استعمالها في مواد التعبير، في البنيات والوسائط رسائل، تعتبر أهم من الرسائل التي يتقصد المنتج إبلاغها. الشكول معطيات تاريخية في حين تعتبر المضامين معطيات اجتماعية، وهي لذلك تكون أكثر تأثيرا وفعلا عند ما يظن «المبدع» أنه يستعملها، والحال أنها هي من يستعمله، وهذه بالذات هي الحالة النموذجية لكل إيديولوجيا. أي عندما تحتد المفارقة بين بلاغة المضمون وبلاغة الشكل. مثل كرة القدم، حيث تشتد المفارقة بين الوسيلة (=الجري...) التي هي الغاية المفترضة وبين الغاية (=الهدف) والذي هو محض وسيلة في الأصل، لذلك، فالدور الإيديولوجي لها يتحقق بشكل مثالي بسبب من ذلك (=التقاء الناس ببعضهم-الفرجة-إشاعة وترسيخ قيم: المجتمع المدني المواطنة والوطنية، الديمقراطية...الخ). 3 في المغرب، وعربيا، دخلت دولنا وشعوبنا وإداراتهما، منطق وزمن الحداثة من نوافذ الاحتلال وبوساطة جيوشه ومستشرقيه أولا... التبس الخطاب السياسي للمستعمر بالعنف من جهة وبإعادة إنتاج «التقليد» من جهة ثانية. وبالفلكلور من جهة ثالثة. لقد تحدث اليوطي عن بلاغة «إظهار القوة من أجل عدم استعمالها» لم يقتصر ذلك على الجيوش والسلاح فقط، بل تعداه نحو التعمير كذلك، وحينما يتصل الأمر ب»الأهالي» فقد عمد إلى احترام ما اعتبره «تراثهم» (حي الحبوس بالبيضاء). مرصعا خطابه بمسكوكات دينية (صنيع سلفه نابليون)، بقصد الإيهام بتدينه أو بالأقل عدم تناقضه مع إسلام أعيد إنتاجه من قبله، ليقتصر على تصوف نخبوي (الكتاني) أو شعبوي (الأضرحة والمواسم). وبشكل موازي شجع الفولكلور (للسياحة) وتقعيد الدارجات للتفرقة والعزل مكانا (بين الجهات ومع المغارب والعرب) وزمنا (عن التراث وأخصه الإسلام والقرآن). المستشرق جاك بيرك، اختصر جميع ذلك في إستراتيجية: «الأصالة والمعاصرة» وهما وجهان لأمر واحد، كان هو، وما يزال، تسييد الاستعمار وترسيخ التبعية، ذلك لأن ما اعتبروه «أصالة» لم يكن سوى إعادة إنتاج استشراقية واستعلائية عنصرية للتراث. أما «المعاصرة» فلم تكن حداثة بحال، بل فقط القبول الطوعي والتبعي بوضع الاحتلال (؟!). تلكم كانت محددات خطاب المستعمر، مهما تعددت وسائطه اللغوية، أو صيغ تعبيره البلاغية أو قنوات إبلاغه التواصلية في التعليم والإعلام والإدارة... والآداب والفنون الاستشراقية بالأحرى. بما فيها تلك التي تولى إنتاجها بعض «المغاربة» وهم بعد مازالوا مستمرين (أحرضان مثلا...). 4 ما كان ممكنا لخطاب «الحركة الوطنية» أن يتجاوز شروط رد الفعل، بما في ذلك أن يتسلح بخطاب الاستعمار من أجل مدافعته والرد عليه. 1 ستتبنى الحركة الوطنية عموما، مضامين واستراتيجية الخطاب الليبرالي في: الحرية والوحدة وحقوق الأوطان والمواطنة والعدالة والمساواة وتحرير المرأة ونشر التعليم... ولكن بلغة تراثية تسويغية (=تسويقية) تسبغ على التحديث لبوسا دينينا، وترثا أعيد إنتاجه بإعادة قراءته، وهذه كانت الأطروحة الأساس للسلفية وإستراتيجيتها النافذة في المغرب كما في المشرق. 2 إصلاح مجتمعي (الأسرة خاصة)، ديني وثقافي-لغوي... إذ لا إمكانية للمحافظة على التراث دون إصلاحه وتجديده. في مقابل الدارجات والفرنكوفونية... تم الدفاع عن الفصيحة بتأهيلها (=تبسيطها) والتخفيف من بلاغتها التقليدية العتيقة... وفي مقابل التصوف تم الدفاع عن قيم: العمل والعقل والاجتهاد ونشر التربية والتعليم والنظام والانضباط والتضامن والاتحاد والتضحية... وكاد الإسلام يختصر في الوطنية. 3 أما الوسائط المستعملة، فلقد فرضت من قبلها مضامينها المستحدثة: المدارس «الحرة» في خطابها... عن «حداثة» التبعية وعن «أصالة» التقليد-الحزب-النقابة-النوادي الرياضية والجمعيات الخيرية...النشيد-المنشور والنشرة-الصحافة-المقهى وثقافة الشارع... (التجمهر-التظاهر...). تم إنجاز جميع ذلك وغيره، بريادة الطبقة الوسطى، مستفيدة من منجزات شقيقتها في المغربين المجاورين وفي المشرق وكان المؤهل لانجازه، رجل الحقوق العصري (المحامين) أو التقليدي المتخرج من ابن يوسف والقرويين... 5 يستحسن أن نأتي مغرب الاستقلال من آخره، أقصد من راهنه. 1 مع إكس ليبان: فسخت إدارة الدولة «التقليدية» (=المخزن) تحالفها مع الطبقة الوسطى «الحركة الوطنية»، وتقرر خوض التنمية في إطار الاستمرارية (=التبعية)، وتبنت لذلك خطابه (=الاستعمار) المزدوج، المنافق والقاتل: الأصالة والمعاصرة، مضافا إليه بعض توابل الحداثة والنجاعة، والتعدد داخل الوحدة (=مغارب) و»الليبرالية» المدعاة... سيستمر الحديث عن منطق ومقتضيات «التعاون الوطني» و»الإنعاش»... ثم بعد ذلك أوراش الإصلاح، وتخليق الإدارة، ثم يختصر الأمر كله في «التنمية البشرية» خارج التعليم وخارج البحث العلمي... ويستعاض علميا عن حديث «الديمقراطية» بالخطاب العولمي «الجديد» عن الحكامة، وأحيانا تضاف إليها صفة «الجيدة» (؟!) 2 أما الحركة الوطنية التقليدية، فلقد كرست خطاب الاعتدال والوسطية (ولا أدري هل ثمة منطقة وسط بين العدل والظلم مثلا أو الحق والباطل والفضيلة والرذيلة والصدق والكذب...؟!). مؤكدة أكثر على الشق الثاني من بيان 11 يناير، أقصد البرنامج الديمقراطي، مع استمرار التأكيد على القيم الأخلاقية والرموز التراثية والنصوص الدينية واللغة العربية والمظاهر الطبيعية للوطن وللوطنية (جبال-أنهار..). 3 أما اليسار، بشقيه أو مرحلتيه، فلقد أنتج خطابا أكثر حداثة: مباشر صريح جريء اجتماعي طبقي عروبي وحتى أممي، ينافح على الحريات ويناهض الاعتقال والنفي والاختطاف والاغتيال، يدمج الاقتصاد في التحليل وكذلك الأوضاع الدولية، يخاطب الطبقة العاملة والفلاحين الصغار وعموم الكادحين والشباب، خطاب دعائي وتحريضي، يأتي بحججه من الأرض أكثر من السماء، من الحاضر أكثر من الماضي، ومن العقل أكثر من العواطف، مطالبا بالعدالة الأرضية متمثلة خصوصا في اشتراكية ? ديمقراطية. يستثمر من التراث الاشتراكي كما سبق للعروي أن لاحظ، بعده التاريخي أكثر من منطقه وفلسفته أو من اقتصاده السياسي ... في لحظات القمع يلتجئ إلى ازدواجية الخطاب وحتى التباسه، بحيث يقرأ بمعنيين أو أكثر، وإلى بلاغة الحذف والبياض والإشارة والإيماء والغموض والكاريكاتير... المعادل البلاغي لشروط العمل السياسي السري وشبه السري. 4 والجديد، كان الحركة أو الحركات الإسلامية. وهي في جزء منها إعادة إنتاج معدلة لخطاب الحركتين الوطنية واليسارية. مع تجذر أكثر وتحص في الأصولية الدينية والتراثية الثقافية والأخلاقية، وتراجع عما اعتبروه تنازلات ومساومات من قبل السلفية التقليدية، مع ما يسمونه «الغرب» ذلك لأن مساومتهم، لم تنتزع منه (=الغرب) ما يقابلها أو يقاربها، بل هو تمادي في غيه واستكباره، في نظرهم.. تركز في التدين على ما يعتبره «الغرب» خطرا عليه في الإسلام ذلكم هو الجهاد بشقيه: أ-جهاد النفس بالتحريض على العمل وتعديل السلوك وتحقيق التضامن (=الزكاة والصدقة...). ب-جهاد الظلم: في الداخل عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومدافعة الاستعمار بالمقاومة. 5 أما عموم الناس، فيلوذون ببلاغة الصمت والتحديق شزرأ أو مسايرة الأسياد قهرا... وبالنسبة للشباب فأنواع من الهروب و»الحريق» في المكان أو في الزمن عن طريق المخدرات والسياحة في الشابكة (=الأنترنيت) أو التصوف...إلخ. 6 واليوم، ومع عولمة الأسواق، والسير المتعثر نحو وحدتها ووحدة سيادة رأس المال، فلقد تداخلت الخطابات، وتكاد تتحد، تحت راية «الحداثة» المدعاة، وأضحى الاقتصاد أرقاما بلا دلالة سياسية بل واحتضار هذه الأخيرة تدريجيا، الأمر الذي ينعكس حتما على خطاباتها التي أضحت من جهتها تحتضن. لنقف عند الملامح الأهم، للخطابات السياسية المغربية اليوم. 1) التعددية الصورية، استنساخ الخطاب الواحد في أشخاص وهيئات وصحف... متعددة شكلا متوحدة محتوى وغاية. وذلك بقصد شغل الفضاء والمجال، والتضييق على المختلف، وإغراقه وإخفائه، ومن تم التشويش على المتلقين، ونشر البلبلة والحيرة والشك حتى «يستوي الماء والخشبة». 2) الفوضوية: وهي منتوج ذلك التلقائي، غير أنها إستراتيجية مقصودة من قبل النظام الرأسمالي العالمي السائد. ولقد عبرت عنها كونداليسا رايس ب»الفوضى الخلاقة» للموت والدمار في المشرق (العراق-اليمن-أفغانستان...الخ) وللتشويش والبلبلة في المغرب العربي، ونموذج ذلك في الإعلام «الجزيرة» حيث يشكل ذلك «خطها التحريري» وبعض صحفنا الخاصة (لا المستقلة بالأحرى). حيث يوجه «النقد» والتشكيك... لكل شيء وكل الهيئات وكل الأشخاص وكل الأفكار... ما عدا الشعبوية والعدمية واللاأدرية... 3) التفقير: وذلك بفصل الخطاب السياسي عن محتواه الثقافي المفترض. بل محض «كلام» يكاد يكون بلا معنى، لا خلفية فلسفية ولا مراجع فكرية ولا عبرة من التاريخ ولا أفق استراتيجي ولا تحليل اقتصادي-سياسي ولا استشهادات أدبية... هياكل عظمية بدون لحم ولا شحم... هذا مع أن «الشعار» في الخطاب السياسي يفترض أن يكون عبارة عن عنوان لمقال ثقافي. 4) الشكلانية والتجزيء والانتقائية... مايعنى الاستعاضة عن المخبر بالمظهر بالتأثيث وبالحركة وبالهندام... الاستعاضة عن الأهداف بالوسائل... والتركيز في الثقافة.. الجماهيرية، على آداب وفنون الشكل والحركة (السينما-موسيقى الرقص-المهرجانات-الفنون التشكيلية والمعمار-مسرح الفرجة أو التهريج...الخ) وكلها منذرات بقدوم الاستبداد كما سبق أن لوحظ في جميع الأنظمة المستبدة... 5) الازدواجية، ومظهرها الرئيس هو الفرنكوفونية، وأدوات اشتغالها: التدريج وتنميط البربرية (؟!) وكما سبق للشهيد عمر أن أوضح، فإن كل ازدواجية من هذا القبيل، تنتهي إلى الأحادية على جميع المستويات. ذلك لأن عدم التكافؤ بين الطرفين وإمكانياتهما (السياسية-الإدارية-المالية...) يؤدي إلى ذلك ويفرضه، وهو الأمر الذي يتأكد يوميا في المغرب. 6) الخلط والتناقض وعدم الانسجام... ومظاهر ذلك وعواقبه كثيرة ومتعددة، أهمها: أ-بين الخطابين السياسي والنقابي، فكثيرا ما تجد خطابا حزبيا يحتوي مضمونا مطلبيا ومنطقا نقابيا والعكس (وإن قل أخيرا)، يفترض في الأحزاب أن تطرح قضايا النظام وفي النقابة أن تشتغل على عواقبه، لا العكس (؟!) ب- بين خطاب السياسة وخطاب حقوق الإنسان، وهو يحدث بالنسبة للبعض لا عن جهل، بل غالبا كمهرب أو كتعويض عن مضايقة العمل الحزبي... ومنه كذلك الخلط بين خطاب الاعتراض والخطاب السياسي للمعارضة. ت- وأخطر ذلك، تصريف الخطاب السياسي عن طريق الخطاب الديني، أو تداخلهما، يحدث ذلك من قبل إدارة الدولة أولا، ثم يأتي عنه رد الفعل من قبل المجتمع... وفي الحالتين يضيع الخطابان في بعضهما ونخسرهما جميعا، فلا سياسة بشرائطها ولا دين بمقوماته (؟!) تصل المفارقة منتهاها الميلود رامي (المضحك المبكي) عندما تلاحظ خطابا تتناقض وسائطه البيانية والمنطقية الحجاجية... مع أهداف منتجه. وتلكم حالات منتشرة تكاد تشمل الجميع للأسف، وهو أمر مفهوم الدواعي وإن لم يكن مقبولا بحال، بل هو ضار ومعرقل للحوار وللصراع وللأطراف جميعا. 7) العلموية، وأقصد خطاب العلم بدون بعد بشري أو إنساني (وطني-اجتماعي-سياسي...) وهو خطاب نادى باريس والبنكين الدوليين... الخطاب التقنوي، خطاب الأرقام والإحصاءات... من قبل التكنوقراط... فهو لذلك مستورد من جهة وتجهيلي استعلائي... من جهة أخرى، يستعيض عن المدلولات بالدوال، ويعتبر الأرقام ناطقة بذاتها مع أن دلالاتها تختلف بحسب مستنطقها، خطاب جبان سياسيا، يخفي استراتيجياته ولا يجرؤ على إعلانها، وبالتالي عرضها للنقاش، خطاب الأرقام المجردة يمنع النقاش، هو لذلك خطاب إرهابي في النهاية. والتكنقراط عندما يتجاوز حدوده ويخلط اختصاصه بالسياسة، يسقط في الاستخدام حتما من قبل منطق وسياسات المخابرات. 8) التضمين بمعنى التلبيس والتلغيز والإيحاء والإشارة والتكنية والتورية... وما شئتم من بقية الأدوات والآليات البلاغية التي تستعيض عن التصريح بالتلميح، وعن الوضوح بالغموض، وعن التسمية بالمجاز والاستعارة... ومن ذلك لفظ أو مصطلح «المخزن» نفسه، والذي يدل على كثير، ولا يدل علميا على شيء بالذات والصفات... وهو وضع كان سائدا في سنوات المقاومة (الموسومة بالرصاص) ويعود مجددا اليوم لعودة بعض شروطها وإن بشكل ناعم وخفي... 9) التكميم: وأقصد به المنع الممنهج لإنتاج خطاب سياسي أصلا، وذلك عن طريق المحاصرة والإقصاء، إن في الإعلام العمومي أو الخاص، وهو الأمر الذي يلاحظ راهنا حالات تراكمه واكتساحه حقل الإعلام الخاص، والذي يفقد «استقلاله» المدعى، تدريجيا. والأدهى ألا يقتصر الأمر على ذلك، بل يرافقه ويضاعف مفعوله خطاب التشهير والشائعة... ضدا على أشخاص بأعيانهم، وأحيانا في إدارة الدولة نفسها، يجري ذلك بشكل مكتوب في «صحافة» أحيانا، وغالبا بشكل شفوي، له أشخاصه وأجهزته وقنواته، وهو الإعلام الأخطر والأفعل والأنفذ... في المغرب المعاصر. 10) بقيت لي خاتمة، وهي الوقوف عندما جرته بلاغة التدريج على أصحابها من عواقب التهميش والإقصاء. أقصد حالتين-مثالين: محمد بنسعيد حينما يخطب ببلاغة عفوية وتلقائية، فينطق بما لا يعجب. والأستاذ بوستة في عبارتيه (= موقفيه) اللتين صارتا مثلين سياسيين: الانتخابات المخدومة/ما قدو فيل زادوه فيلة، عندما عين البصري وزير دولة، فمنع من الترشح النيابي أبعد عن رئاسة حزبه...