ينطلق المؤلف (*) من مسلمة مفادها أن الاهتمام بالأدب الشعبي مايزال محتشما في المغرب المعاصر، لضعف العناية به في الجامعة ومراكز البحث العلمي. إذ لم تبدأ المحاولة الأولى إلا في السبعينات بجامعة فاس على يد عباس الجراري، الذي كان قد أنجز دكتوراه في الآداب بالقاهرة في شعر الملحون، وبعودته شرع في تدريس قصيدة الملحون على مستوى الإجازة في فاس ,1970 لكن ذلك استمر متعثرا وغير مستقر، وفي شعبة الآداب العربية دون غيرها. هذا التعاطي شبه الاحتقاري، حسب المؤلف، انضاف إلى تجربة الاستعمارين الفرنسي والإسباني للمغرب. لقد ركّز الاستعمار على عناصر الاختلاف والتباين في أوساط الشعب، بوسائل علمية وعسكرية وسياسية متداخلة، بغية التشتيت والتفرقة كوسيلة وغاية بالنسبة إليه. ولما انطلقت الحركة الوطنية سعت إلى توفير عناصر الاتحاد وتقويتها، والتقليل من عناصر الاختلاف وتهميشها. وكان على المثقف أن يأخذ موقف الحيطة والحذر من كل ما يمت بصلة إلى الثقافة الشعبية. ولذلك لم يهتم بالتراث الشعبي قدر اهتمامه بالتراث العروبي- الإسلامي الفصيح. ينبه الكاتب إلى أن التجربة الغربية، في مهدها، كانت مخالفة. إذ إن الاهتمام بالثقافة الشعبية مشعل نهضت به الطبقة الوسطى في أوربا التي ربطت نهضتها بنهضة الثقافة الشعبية. وبالتالي تأسيس النهضة على أنقاض الثقافة الأرستقراطية، بالرجوع إلى اللغة العامية لاصطناع لغة قومية تكون بديلا للغة الكنيسة الميتافيزيقية والسلطوية. وذلك جعلهم ينكبون على دراسة ثقافة الشعب ومعتقداته ولغته، ومن ثم ردم الهوة بين النخبة والجماهير(ص12). المفارقة بين الحالتين، تكمن في قصور وعي طبقتنا الوسطى وضعف قدرتها على تحقيق تواصل منتج وفعال، سواء مع الثقافة الشعبية أو الثقافة الرسمية المكتوبة. مما جعلها غير قادرة على استثمار ثقافتها وموروثها الشعبي في عملية النهضة والتحرر(ص 15). 1- شعر الملحون: المنهج وخلفياته في دراسته الهامة هاته، اختار بلكبير مقاربة الثقافة الشعبية من خلال إحدى ظواهرها، وهي شعر الملحون. هذا الشعر، الذي هو أدب بحصر اللفظ، فهو معطى لغوي اجتماعي تاريخي، لا يمكن فهمه إلا ضمن ذلك السياق العام زمن نشأته وازدهاره ثم انحطاطه. لكن بعيدا عن التجزيء أو التعميم. فكل جديد بدأ يتخلق على حساب قديم ينهار. وهذا قانون وقع إهماله. وعليه فتطورات اللغة وتحولات الأدب لا يمكن فصلها عن مجريات الأحداث في أي اجتماع بشري، والعيب الجوهري هو فصل الآداب عن بقية المعطيات المفسرة لحركته(ص23)، خاصة وأن الأدب هو ظاهرة تاريخية. يرتبط بالذاكرة والخيال. إذ كل من لا ذاكرة له لا خيال له. ولأن الأمة العربية تعرضت لاستعمارات متوالية، فهي لم يتح لها إعادة بناء الماضي بمقاييس الحاضر والمستقبل، سوى استعماله أداة للدفاع عن كيانها أمام الغرب أساسا. ولذلك فإن مهام تحرير الإرادة والذاكرة بالنسبة لتراث الماضي ترتبط جدليا بتحقيق مهام الاستقلال والحرية. بناء على ذلك، لا يمكن تصور إنتاج أدبي بمعزل عن دوافع موضوعية وغايات اجتماعية، هي وحدها التي تعطيه معناه وتضمن مدلولاته، وتوظفه طبقا لغايات توجد خارجه. والاختلاف في أنماط الإنتاج الأدبي، بله التناقض في قيم ومضامين وأشكال النصوص، هو تعبير عن تناقضات الإنسان مع الطبيعة، وتناقضاته الاجتماعية حول المصالح والمطالب. وبهذا المعنى لا يتصور وجود أدب فوق المجتمع، أو في الحيدة عن خلافاته وتباين مصالح مجموعاته. لذلك فهو كمضمون تعبير عن رؤية ومصالح مجموعة اجتماعية محددة. وهو كشكل انعكاس لمجموع الهيئة الاجتماعية. في الحالة الأولى هو انعكاس إيديولوجي، وفي الثانية هو معطى معرفي. في الأولى يكرس شروط الفرقة والنزاع، وفي الثانية يلعب دور التوحيد ولحم الإرادة العام للمجتمع(ص36). إن دراسة الأدب الشعبي، شعر الملحون حصرا، تستدعي منهجيا دراسة بيئة النص ككل، أي شروط إبداعه ونشأته وازدهاره التاريخية. ويزداد الأمر تعقيدا حين يتأكد أن نشأة شعر الملحون تعود إلى المرحلة التاريخية المنعوتة بكونها عصر انحطاط وتخلف(ص50). وهو تخلف كان شاملا في أنظمة المجتمع والاقتصاد والسياسية والثقافة، لكن المثير أن ثمة خلافا بين الباحثين حول كل شيء بالنسبة لهذه المرحلة، بدء من نمط الإنتاج السائد، مما جعل أبحاثهم تتميز بالكثير من الاضطراب في التوصيف والتصنيف. 2- الشفاهي والمكتوب: يتحقق الاتصال البشري بإحدى صيغتين: أولها بالكلام وثانيها بالكتابة. هذا التفريق يشكل بالنسبة للغة العربية تمييزا بين الفصيحة والدارجة، الأولى تعتمد الكتابة والثانية تعتمد على النطق والسماع. وقد تلبست الكتابة باللغة إلى حد أضحى الاعتقاد سائدا بأن الكتابة مجرد وسيلة لنقل اللغة المنطوقة(ص98). لكن المعرفة المعاصرة باتت تؤكد العكس، فالوسيلة هي رسالة أيضا، وهي ليست محايدة في النقل والتوصيل. فالكتابة وسيلة مادية خارجية. وبالتالي تحمل دلالاتها الخاصة التي ترفقها عند الاستعمال في نقل المعاني، ودلالات اللغة المنطوقة. ولذلك فالعلاقة بين المكتوب والمحكي لن تكون بالضرورة علاقة نقل وحفظ وتوثيق محايدة. ومنه فإن الفروق بينهما تتجاوز ما هو تقني إلى المضامين والمحتويات. بل تصل إلى تصور الحياة ورؤية العالم (ص 103). إن اختراع الكتابة تحكمت فيه شروط تاريخية، فالمجتمعات القديمة والبدائية في غير حاجة إلى الكتابة، لأنها كانت مجموعات قليلة العدد، محدودة المجال، ومحدودة الإمكانيات. ولكن مع بروز الملكية الخاصة من جهة، وظهور السيادة السياسية للدولة، ظهرت الكتابة. فالكتابة تشكل الوجه الآخر أو الضمني لجهاز إدارة الدولة في التاريخ. كما أن الدولة هي أرقى صيغ التطور والتنظيم، وهي أخطر صيغ العنف والاستلاب. وكذلك الكتابة، فهي أرقى ما اخترعته البشرية لحفظ نوعها، ولكنها من أخطر وسائل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان. إن العلاقة بين المكتوب والشفوي ليست علاقة توسط وتوسل إذن، بل تتجاوز ذلك إلى قضايا جوهرية. في عهد اليونان مثلا حدث انفصال نكد بين الفكري واليدوي، وصار المكتوب أداة للفكر، والشفوي خاصا بالعمل والإنتاج. مما نتج عنه احتقار الأول للثاني. وبالتالي انشطار المجتمع إلى طبقتين: واحدة تشتغل بالفكر، والثانية باليد، مما سيؤدي إلى فقرهما معا. وفي الكتابة تنفصم العلاقة بين المتكلم وخطابه، مما يجعل المعرفة قابلة للاصطناع وحتى للتزييف، وقد أسهمت في عزل المتعلم/ المثقف عن الناس/المجتمع. والكتابة أيضا تتيح مراقبة كاتبها وسلوكه، وهي أداة لتطوير اللغة وتغييرها، بل تحريفها كما حدث مع الكتب السماوية(التوراة والإنجيل). وعلى الرغم من ذلك، فإن للشفاهي تأثيرا وفاعلية في المجتمعات الكتابية. فالديانات السماوية توسلت بالشفوي للذيوع والانتشار والتأثير، والتلاقح الحضاري بين الشعوب حصل بالاتصال المباشر أولا، وانتقال الخبرات والتقنيات تم بالاحتكاك أيضا. 3- الثقافة الشعبية: إشكالات المفهوم يتميز مفهوم الثقافة الشعبية - عند بعض الباحثين- بفعاليته في حلّ ثلاث تناقضات: الأول بين موضوع ومضمون الثقافة، والثاني التناقض بين الوسيلة والغاية، فكلاهما يصبح شعبيا، والثالث التناقض بين الوطني والاجتماعي، ففيه يتوحد ما هو وطني بما هو شعبي. وهكذا يتجاوز شعار الثقافة الشعبية كونه جوابا عن تناقض وطني- استعماري إلى كونه جوابا عن تناقضات اجتماعية؛ بل عن تناقضات عالمية بين شعوب وإمبرياليات(ص128). لكن هذا الطرح تواجهه إشكالات كثيرة تجعله غير مقنع تماما، فالثقافة الشعبية بالمعنى السابق ذكره، تلغي قاعدة نظرية وتاريخية تؤكد أن الثقافة السائدة في كل مجتمع غير متجانس هي دائما ثقافة الطبقة الحاكمة والمسيطرة. كما أن الحديث عن ثقافة شعبية يفترض وجود شعب متجانس، وأيضا جوهر ثابت، وهو أمر غير واقع. ويطرح المفهوم إشكالا آخر من حيث إنه يوحي بإمكان تصور وجود ثقافة كاملة وناجزة وثابتة، وهذا يلغي بعدا أساسيا في الثقافة هي التجديد المستمر والخلق الدائم. والثقافة الشعبية لا تقابل كلمة أرستقراطية أو الاستعمار بل توضع في تناقض مع المثقف إذ هو غير شعبي. وعليه لكي يصير شعبيا عليه أن يتبني الثقافة الشعبية، وهذا أخطر ما يمكن أن يكون، لأن المثقف مهمته التوعية من أجل التغيير. إضافة إلى أن اقتصار الثقافة على الشعبية، مصدر ووسائل ومحتوى، يوفر شروط كل نزوع إقليمي انعزالي متعصب. فضلا عن ذلك، يطرح مفهوم الثقافة الشعبية إشكالا يتعلق بغموضه وتعدد دلالاته ومضموناته، وهو التباس يطرحه كل مصطلح إديولوجي. فهو مفهوم لا يعنيه تحديد مظهر ثقافي وقياسه إلى مضمون ما. إذ ما يحدد ثقافية فعل أو شيء هو صيغته المظهرية وصورته الشكلية بغض النظر عن وظيفته أو معناه ونتائجه. فهو لا تهمه الوظيفة المعنوية ولا تهمه المردودية الاجتماعية للشيء الثقافي(ص134). وبذلك مثلا تنقلب العلاقة بين الدال والمدلول، بين الوسيلة والغاية، ويصبح المهم هو الدال والوسيلة والإشارة. ويصل الأمر إلى أخطر نظرة وهي إلغاء قيمتين من أهم قيم عصرنا هما العقل والتاريخ. خلاصة القول أن مراجعة الأصول الفكرية والاجتماعية لمفهوم الثقافة الشعبية كما تعكسه وتقدمه خبرة الغرب يرتبط بالبرجوازية الأوربية خلال طموحها لبناء أمة ودولة قوميتين، ومن خلال صراعها مع الكنيسة والإقطاع. حيث قامت بتأسيس ثقافة بديلة أساسها الوطن وليس الدين، وبالتالي تأسيس لغة وطنية بدل لغة الكنيسة المحملة بالرموز والأسرار. أما عندما حققت تلك البورجوازية هدفها، فقد تخلت عن قيمها القديمة، حول الحرية والعدالة والمساواة، وفرضت ثقافتها. ولم تجد نفسها أمام واقع مغاير جديد عليها إلا عند استعمارها لغيرها، حيث اصطدمت بشعوب لها ثقافتها الخاصة بها، وهكذا جعلت من تلك الثقافة موضوع اهتمام لها، من موقع عنصري استعلائي ينطلق من مركزية العقل والحضارة والإنسان الغربي، تجلى في عمل المستشرقين. 4- الاستشراق والتراث الشعبي: لم تبدأ الظاهرة الاستشراقية، بمعنى توظيف المعرفة للسيطرة السياسية والعسكرية، وتيسير سبل الاحتلال باستغلال التناقضات وتشويه الوعي وإفساد الوجدان وتمييع إرادة المقاومة ونسف مقومات التماسك والوحدة وفي مقدمتها الدين واللغة، إلا في القرن الثامن عشر. ولذا سيركز هؤلاء المستشرقون على دراسة الفلسفة والأدب والعقائد والطوائف والتجمعات القبلية. بالموازاة مع ذلك، تم الاشتغال على المأثورات الشعبية والتقاليد والعادات والمعتقدات والتجمعات والزوايا...الخ. لقد اشتغل المستشرق على كل ذلك من أجل الأهداف نفسها. واستخلص عن شعوبنا خلاصات زائفة. لقد سفّه الزمان أحلامهم، وذلك ببداية الحركات السلفية ثم الوطنية وتنظيم أولى بوادر المقاومة الوطنية ثم المسلحة. وتَكَشّف الشعبي عن إنسان لا يقل عقلانية وواقعية وتاريخانية عن غيره من أنماط البشر. فمن تقاليده صاغ ردود فعله وأساليب مقاومته، ومقومات تحصين تراثه الثقافي بانتظار مؤهلات التحول نحو الهجوم السياسي والعسكري. لقد أكد إدوارد سعيد أن الاستشراق كمعرفة لم يكن سوى رغبات الغرب وآماله، تصوراته وأوهامه عن الشرق. 5- الثقافة الشعبية: الخبرة العربية الأمة العربية- بحسب الكاتب- أمة لافظة بالأساس اعتمدت اللغة في البيان. وقبل تأسيس الدولة، كان المجتمع العربي مقسم عموديا بين قبائل. إن غياب الدولة يعني غياب السياسي، وبالتالي الإيديولوجية. بعد الإسلام، تأسست الدولة، كما تأسس مجتمع جديد، ولأن الإسلام يجُب ما قبله، فقد تم الحسم بين نموذجين للمجتمع والثقافة، أي بين الجاهلية والإسلام، لأنهما متناقضان. لكن ثمة قاعدة هامة، إن المجتمعات لا تعيش بدون ذاكرة، ولذلك عندما اتسعت دولة الإسلام، بفضل الفتوحات، دخلت في الإسلام مجتمعات جديدة بثقافتها ولغتها حتى، أمام ذلك اضطر المجتمع العربي إلى العودة إلى ثقافته وتراثه الشعبي، ومع تراكب المجتمع وتعقده، وبالتالي تعقد المصالح وتنوعها، زادت حاجة العرب إلى حماية الإسلام واللغة، فبدأ عصر التدوين، وبدأ التقعيد في الشعر واللغة، والتأصيل في الفقه. لقد برز صراع بين العرب وغيرهم، تم اللجوء فيه إلى العربية وتراثها الشعبي، وعاد الماضي من جديد، أي الذاكرة، لكن بوظائف جديدة تلائم الحاضر، وتحولت الثقافة الشعبية إلى أدب جديد، شكل إيديولوجية للدولة وضمن وحدتها أمام التنوع والاختلاف، وتجسد بذلك أول وحدة بين الأدب والثقافة الشعبية في النهوض بالوحدة والتوحيد. ولم يقع الافتراق إلا بعد اضطرار العرب للتنازل عن الخلافة للأتراك العثمانيين أمام ضغط الغرب المسيحي، ومع دخول المستعمر الأوربي ستشهد الظاهرة مزيدا من الاتساع، لكن مع الشرط الجديد تغيرت العلاقة في اتجاه إصلاحي. وعلى الرغم من ذلك، فإن علاقة المثقف مع ما هو شعبي ظلت حذرة ومبتعدة، بينما أولى الغرب اهتماما وعناية فائقة لذلك التراث بقصد التحكم والاستعمار. 6- العرب المحدثون وتراثهم الشعبي: إن العلاقة بين الفصيحة والعامية في التاريخ العربي علاقة ثرية ومحترمة- بحسب المؤلف-، وبسبب ذلك نجد كتبا عن لحن العامة مثلا، والتي رصد فيها مؤلفوها ظواهر التطور اللغوي في الخطاب اليومي. وذلك في اتجاه التقريب بين الفصيحة والعاميات وثقافتهما. ولم تتوقف هذه العلاقة إلا حين تعرضت الأمة العربية أو أجزاء منها إلى الاستعمار الخارجي. فمنذ الحملة الاستعمارية الفرنسية على مصر بدأت طلائع المستشرقين التي تجسدت في بعثات فرنسية، اختصت بتجميع ورصد ظواهر اللغة والثقافة الشعبية العربية، وهي التي بدأت لأول مرة تعليم العامية في مدارس الاستشراق، خاصة الفرنسية منها. وفي مرحلة ثانية، وقع التغرير بالأقباط المصريين الذين وقع اغتصابهم ثقافيا، ثم لحق بهم بعض شيوخ الأزهر نفسه إلى أوربا للاستفادة منهم على صعيد التعليم والترجمة، فيما يهم الغرب معرفته. ومن أوائل هؤلاء محمد عباد الطنطاوي، الذي خلف كتابات في المجال منها بحث في اللغة العامية ، والحكايات العامية المصرية. على أن المرحلة الحقيقة للتأسيس بالنسبة للعرب المحدثين فعلا، بدأت مع الباحث أحمد تيمور باشا الذي وضع عدة تآليف منها الكتابات العامية ويجري فيه مقارنة مع الفصيحة. كما أن أحمد أمين يعد رائدا في هذا الباب من خلال قاموسه العادات والتقاليد والتعابير المصرية. وقد توالت بعد ذلك الكتابات في اتجاه تقريب العامية من الفصحى. بل إن عناية المحدثين العرب بثقافتهم الشعبية على سبيل الممارسة الإبداعية أكثر منها على صعيد الممارسة النظرية. ففي المسرح مثلا ثمة محاولة جادة للاتصال بالتراث الشعبي العربي، وكذلك حدث بالنسبة للموسيقى والغناء والفنون التشكيلية والسينما، بل حتى في القصيدة الحديثة. وبالرغم من الإشكالات التي تثيرها أشكال جديدة للاستعمار، فإن مقومات المشترك الثقافي العربي، وهي بالأساس الذاكرة الإسلامية وركيزتها القرآن الكريم واللغة العربية الفصحى، تحمي تلك الثقافة. 7- الخصوصية المغربية: يتسم المغرب بهشاشة الوحدة بين عناصره ومكوناته، بحسب المؤلف، واستمرار ضعف تماسكه الداخلي على مختلف المستويات، استمر حتى مراحل متأخرة من تاريخه. وقد ساهمت في هذا الواقع(الانحلال الداخلي- التبعية للأجنبي) عدة عوامل منها ما هو جغرافي، ومنها ما هو سياسي عسكري، يتمثل خصوصا في غزوات أوربا والشرق، والتي اتخذت طابع احتلال أو استيطان...هذا الواقع التاريخي المتميز لم يسمح ل(الأمة المغربية) أن توجد في القديم(ص 221). كما أن الفتح العربي الإسلامي كان يمكن أن يكون نقطة البداية لتكوين الوحدة المنشودة، لكن عوائق قامت دونه، أبرزها تباين وتباعد المدينة عن البادية. في هذه الأخيرة، ظل النظام القبلي مكتف بذاته، روابطه واهية بالمدينة وحتى بالدولة. وهو ما أوجد نمطان من الاقتصاد والاجتماع، بل ومن الثقافة. ولم تحصل الوحدة إلا حين يتم النداء للجهاد والدفاع الوطني. ومنذ القرن ,15 بدأ الارتباط النسبي بين المدينة والبادية، مما ساعد في بروز طبقة وسطى، عرقل نموها حدثين اثنين: سقوط الأندلس، وبداية الغزو الاسباني والبرتغالي للمغرب. ولم ينقذ المغرب سوى حدث تاريخي حاسم هو معركة وادي المخازن، حيث بدأ تشكل حقيقي لمفهوم الأمة (الوطن) في إطار مجرى الصراع ضد الأجنبي(ص222). وهو خيار رسخته الدولة السعدية التي تجاوزت الارتكاز على القبلية إلى الارتكاز على الدين. المحاولة الأخرى لتحقيق النهضة بدأت مع ملوك علويين حاولوا تقوية الجيش والدولة، وبناء تحالفات، وإصلاح التعليم والاقتصاد. لكن تلك المحاولات انتهت بالفشل، نتيجة ضعف القوة الاجتماعية القائدة في الداخل، واستمرار التناقض بين البادية والمدينة، وتشكل بورجوازية مرتبطة بالأجنبي. وهي تطورات انتهت إلى غلبة المستعمر الأوربي وسقوط المغرب رسميا في سنة .1912 وقد ناهض المغاربة ذلك، واتخذ ردّ فعلهم منحيين متناقضين: ضمان شروط المقاومة والاستقلال الثقافي للمحافظة على الخصوصية المغربية، وحماية قيم الشخصية الثقافية المستقلة في مواجهة أخطار المسخ والاجتثاث. وبفعل المستعمر، عادت المدن إلى الذاكرة الإسلامية، والفكر السلفي، بينما عادت البادية إلى أعرافها وتقاليدها وما يسمى الثقافة الشعبية(ص237). أمام ذلك، اضطرت النخبة إلى الاعتراف الضمني أو الصريح بأهمية تلك الثقافة الشعبية في توفير شروط الذود والحصانة للكيان. لقد تبنت النخبة تلك التقاليد، وارتدت إلى الماضي لأنه كان يبدو كقوة لا يمكن مقاومتها، من حيث إنها توطد المجتمع ضد مستعمريه(ص 239). في هذه المرحلة، بدأ الاهتمام بالآداب الشعبية، ومنها شعر الملحون، على يد المستشرقين أولا، لتيسير فهم المغرب قصد احتلاله، وفي مرحلة ثانية شاركهم المغاربة الاهتمام به، لكن بتوجيه ورعاية من المستشرقين، ويعتبر محمد الفاسي(التلميذ) نموذجا في هذا السياق. وقد كان موقف النخبة الوطنية في البداية عدم الاهتمام بالثقافة الشعبية، لكن في مرحلة موالية، خاصة منذ الخمسينات، بدأ الاهتمام الجدي بها، ولو من باب الرد على المستشرقين وخرافاتهم. ويعتبر عبد الله كنون، ومحمد الفاسي بعد التحاقه بالحركة الوطنية، ومحمد بن شريفة وآخرون، كوكبة مؤسسة للاهتمام بالآداب الشعبية، وكان أن عاد الاهتمام أكثر، حيث تأسست جمعيات تهتم بالشعر الملحون، وانتشرت مقالات في الصحافة، ثم اقتحم المسرح والسينما بعد ذلك، لكن الحصيلة إلى اليوم تبدو هزيلة ومعكوسة. عرض/ إسماعيل حمودي (*) عبد الصمد بلكبير/ في الأدب الشعبي: مهاد نظري-تاريخي/ المطبعة: الوراقة الوطنية الداوديات/ مراكش، ط1، 2010. في الآداب الشعبية: نحو علاقة جديدة للمثقف بثقافة أمته ينطلق المؤلف (*) من مسلمة مفادها أن الاهتمام بالأدب الشعبي مايزال محتشما في المغرب المعاصر، لضعف العناية به في الجامعة ومراكز البحث العلمي. إذ لم تبدأ المحاولة الأولى إلا في السبعينات بجامعة فاس على يد عباس الجراري، الذي كان قد أنجز دكتوراه في الآداب بالقاهرة في شعر الملحون، وبعودته شرع في تدريس قصيدة الملحون على مستوى الإجازة في فاس ,1970 لكن ذلك استمر متعثرا وغير مستقر، وفي شعبة الآداب العربية دون غيرها. هذا التعاطي شبه الاحتقاري، حسب المؤلف، انضاف إلى تجربة الاستعمارين الفرنسي والإسباني للمغرب. لقد ركّز الاستعمار على عناصر الاختلاف والتباين في أوساط الشعب، بوسائل علمية وعسكرية وسياسية متداخلة، بغية التشتيت والتفرقة كوسيلة وغاية بالنسبة إليه. ولما انطلقت الحركة الوطنية سعت إلى توفير عناصر الاتحاد وتقويتها، والتقليل من عناصر الاختلاف وتهميشها. وكان على المثقف أن يأخذ موقف الحيطة والحذر من كل ما يمت بصلة إلى الثقافة الشعبية. ولذلك لم يهتم بالتراث الشعبي قدر اهتمامه بالتراث العروبي- الإسلامي الفصيح. ينبه الكاتب إلى أن التجربة الغربية، في مهدها، كانت مخالفة. إذ إن الاهتمام بالثقافة الشعبية مشعل نهضت به الطبقة الوسطى في أوربا التي ربطت نهضتها بنهضة الثقافة الشعبية. وبالتالي تأسيس النهضة على أنقاض الثقافة الأرستقراطية، بالرجوع إلى اللغة العامية لاصطناع لغة قومية تكون بديلا للغة الكنيسة الميتافيزيقية والسلطوية. وذلك جعلهم ينكبون على دراسة ثقافة الشعب ومعتقداته ولغته، ومن ثم ردم الهوة بين النخبة والجماهير(ص12). المفارقة بين الحالتين، تكمن في قصور وعي طبقتنا الوسطى وضعف قدرتها على تحقيق تواصل منتج وفعال، سواء مع الثقافة الشعبية أو الثقافة الرسمية المكتوبة. مما جعلها غير قادرة على استثمار ثقافتها وموروثها الشعبي في عملية النهضة والتحرر(ص 15). 1- شعر الملحون: المنهج وخلفياته في دراسته الهامة هاته، اختار بلكبير مقاربة الثقافة الشعبية من خلال إحدى ظواهرها، وهي شعر الملحون. هذا الشعر، الذي هو أدب بحصر اللفظ، فهو معطى لغوي اجتماعي تاريخي، لا يمكن فهمه إلا ضمن ذلك السياق العام زمن نشأته وازدهاره ثم انحطاطه. لكن بعيدا عن التجزيء أو التعميم. فكل جديد بدأ يتخلق على حساب قديم ينهار. وهذا قانون وقع إهماله. وعليه فتطورات اللغة وتحولات الأدب لا يمكن فصلها عن مجريات الأحداث في أي اجتماع بشري، والعيب الجوهري هو فصل الآداب عن بقية المعطيات المفسرة لحركته(ص23)، خاصة وأن الأدب هو ظاهرة تاريخية. يرتبط بالذاكرة والخيال. إذ كل من لا ذاكرة له لا خيال له. ولأن الأمة العربية تعرضت لاستعمارات متوالية، فهي لم يتح لها إعادة بناء الماضي بمقاييس الحاضر والمستقبل، سوى استعماله أداة للدفاع عن كيانها أمام الغرب أساسا. ولذلك فإن مهام تحرير الإرادة والذاكرة بالنسبة لتراث الماضي ترتبط جدليا بتحقيق مهام الاستقلال والحرية. بناء على ذلك، لا يمكن تصور إنتاج أدبي بمعزل عن دوافع موضوعية وغايات اجتماعية، هي وحدها التي تعطيه معناه وتضمن مدلولاته، وتوظفه طبقا لغايات توجد خارجه. والاختلاف في أنماط الإنتاج الأدبي، بله التناقض في قيم ومضامين وأشكال النصوص، هو تعبير عن تناقضات الإنسان مع الطبيعة، وتناقضاته الاجتماعية حول المصالح والمطالب. وبهذا المعنى لا يتصور وجود أدب فوق المجتمع، أو في الحيدة عن خلافاته وتباين مصالح مجموعاته. لذلك فهو كمضمون تعبير عن رؤية ومصالح مجموعة اجتماعية محددة. وهو كشكل انعكاس لمجموع الهيئة الاجتماعية. في الحالة الأولى هو انعكاس إيديولوجي، وفي الثانية هو معطى معرفي. في الأولى يكرس شروط الفرقة والنزاع، وفي الثانية يلعب دور التوحيد ولحم الإرادة العام للمجتمع(ص36). إن دراسة الأدب الشعبي، شعر الملحون حصرا، تستدعي منهجيا دراسة بيئة النص ككل، أي شروط إبداعه ونشأته وازدهاره التاريخية. ويزداد الأمر تعقيدا حين يتأكد أن نشأة شعر الملحون تعود إلى المرحلة التاريخية المنعوتة بكونها عصر انحطاط وتخلف(ص50). وهو تخلف كان شاملا في أنظمة المجتمع والاقتصاد والسياسية والثقافة، لكن المثير أن ثمة خلافا بين الباحثين حول كل شيء بالنسبة لهذه المرحلة، بدء من نمط الإنتاج السائد، مما جعل أبحاثهم تتميز بالكثير من الاضطراب في التوصيف والتصنيف. 2- الشفاهي والمكتوب: يتحقق الاتصال البشري بإحدى صيغتين: أولها بالكلام وثانيها بالكتابة. هذا التفريق يشكل بالنسبة للغة العربية تمييزا بين الفصيحة والدارجة، الأولى تعتمد الكتابة والثانية تعتمد على النطق والسماع. وقد تلبست الكتابة باللغة إلى حد أضحى الاعتقاد سائدا بأن الكتابة مجرد وسيلة لنقل اللغة المنطوقة(ص98). لكن المعرفة المعاصرة باتت تؤكد العكس، فالوسيلة هي رسالة أيضا، وهي ليست محايدة في النقل والتوصيل. فالكتابة وسيلة مادية خارجية. وبالتالي تحمل دلالاتها الخاصة التي ترفقها عند الاستعمال في نقل المعاني، ودلالات اللغة المنطوقة. ولذلك فالعلاقة بين المكتوب والمحكي لن تكون بالضرورة علاقة نقل وحفظ وتوثيق محايدة. ومنه فإن الفروق بينهما تتجاوز ما هو تقني إلى المضامين والمحتويات. بل تصل إلى تصور الحياة ورؤية العالم (ص 103). إن اختراع الكتابة تحكمت فيه شروط تاريخية، فالمجتمعات القديمة والبدائية في غير حاجة إلى الكتابة، لأنها كانت مجموعات قليلة العدد، محدودة المجال، ومحدودة الإمكانيات. ولكن مع بروز الملكية الخاصة من جهة، وظهور السيادة السياسية للدولة، ظهرت الكتابة. فالكتابة تشكل الوجه الآخر أو الضمني لجهاز إدارة الدولة في التاريخ. كما أن الدولة هي أرقى صيغ التطور والتنظيم، وهي أخطر صيغ العنف والاستلاب. وكذلك الكتابة، فهي أرقى ما اخترعته البشرية لحفظ نوعها، ولكنها من أخطر وسائل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان. إن العلاقة بين المكتوب والشفوي ليست علاقة توسط وتوسل إذن، بل تتجاوز ذلك إلى قضايا جوهرية. في عهد اليونان مثلا حدث انفصال نكد بين الفكري واليدوي، وصار المكتوب أداة للفكر، والشفوي خاصا بالعمل والإنتاج. مما نتج عنه احتقار الأول للثاني. وبالتالي انشطار المجتمع إلى طبقتين: واحدة تشتغل بالفكر، والثانية باليد، مما سيؤدي إلى فقرهما معا. وفي الكتابة تنفصم العلاقة بين المتكلم وخطابه، مما يجعل المعرفة قابلة للاصطناع وحتى للتزييف، وقد أسهمت في عزل المتعلم/ المثقف عن الناس/المجتمع. والكتابة أيضا تتيح مراقبة كاتبها وسلوكه، وهي أداة لتطوير اللغة وتغييرها، بل تحريفها كما حدث مع الكتب السماوية(التوراة والإنجيل). وعلى الرغم من ذلك، فإن للشفاهي تأثيرا وفاعلية في المجتمعات الكتابية. فالديانات السماوية توسلت بالشفوي للذيوع والانتشار والتأثير، والتلاقح الحضاري بين الشعوب حصل بالاتصال المباشر أولا، وانتقال الخبرات والتقنيات تم بالاحتكاك أيضا. 3- الثقافة الشعبية: إشكالات المفهوم يتميز مفهوم الثقافة الشعبية - عند بعض الباحثين- بفعاليته في حلّ ثلاث تناقضات: الأول بين موضوع ومضمون الثقافة، والثاني التناقض بين الوسيلة والغاية، فكلاهما يصبح شعبيا، والثالث التناقض بين الوطني والاجتماعي، ففيه يتوحد ما هو وطني بما هو شعبي. وهكذا يتجاوز شعار الثقافة الشعبية كونه جوابا عن تناقض وطني- استعماري إلى كونه جوابا عن تناقضات اجتماعية؛ بل عن تناقضات عالمية بين شعوب وإمبرياليات(ص128). لكن هذا الطرح تواجهه إشكالات كثيرة تجعله غير مقنع تماما، فالثقافة الشعبية بالمعنى السابق ذكره، تلغي قاعدة نظرية وتاريخية تؤكد أن الثقافة السائدة في كل مجتمع غير متجانس هي دائما ثقافة الطبقة الحاكمة والمسيطرة. كما أن الحديث عن ثقافة شعبية يفترض وجود شعب متجانس، وأيضا جوهر ثابت، وهو أمر غير واقع. ويطرح المفهوم إشكالا آخر من حيث إنه يوحي بإمكان تصور وجود ثقافة كاملة وناجزة وثابتة، وهذا يلغي بعدا أساسيا في الثقافة هي التجديد المستمر والخلق الدائم. والثقافة الشعبية لا تقابل كلمة أرستقراطية أو الاستعمار بل توضع في تناقض مع المثقف إذ هو غير شعبي. وعليه لكي يصير شعبيا عليه أن يتبني الثقافة الشعبية، وهذا أخطر ما يمكن أن يكون، لأن المثقف مهمته التوعية من أجل التغيير. إضافة إلى أن اقتصار الثقافة على الشعبية، مصدر ووسائل ومحتوى، يوفر شروط كل نزوع إقليمي انعزالي متعصب. فضلا عن ذلك، يطرح مفهوم الثقافة الشعبية إشكالا يتعلق بغموضه وتعدد دلالاته ومضموناته، وهو التباس يطرحه كل مصطلح إديولوجي. فهو مفهوم لا يعنيه تحديد مظهر ثقافي وقياسه إلى مضمون ما. إذ ما يحدد ثقافية فعل أو شيء هو صيغته المظهرية وصورته الشكلية بغض النظر عن وظيفته أو معناه ونتائجه. فهو لا تهمه الوظيفة المعنوية ولا تهمه المردودية الاجتماعية للشيء الثقافي(ص134). وبذلك مثلا تنقلب العلاقة بين الدال والمدلول، بين الوسيلة والغاية، ويصبح المهم هو الدال والوسيلة والإشارة. ويصل الأمر إلى أخطر نظرة وهي إلغاء قيمتين من أهم قيم عصرنا هما العقل والتاريخ. خلاصة القول أن مراجعة الأصول الفكرية والاجتماعية لمفهوم الثقافة الشعبية كما تعكسه وتقدمه خبرة الغرب يرتبط بالبرجوازية الأوربية خلال طموحها لبناء أمة ودولة قوميتين، ومن خلال صراعها مع الكنيسة والإقطاع. حيث قامت بتأسيس ثقافة بديلة أساسها الوطن وليس الدين، وبالتالي تأسيس لغة وطنية بدل لغة الكنيسة المحملة بالرموز والأسرار. أما عندما حققت تلك البورجوازية هدفها، فقد تخلت عن قيمها القديمة، حول الحرية والعدالة والمساواة، وفرضت ثقافتها. ولم تجد نفسها أمام واقع مغاير جديد عليها إلا عند استعمارها لغيرها، حيث اصطدمت بشعوب لها ثقافتها الخاصة بها، وهكذا جعلت من تلك الثقافة موضوع اهتمام لها، من موقع عنصري استعلائي ينطلق من مركزية العقل والحضارة والإنسان الغربي، تجلى في عمل المستشرقين. 4- الاستشراق والتراث الشعبي: لم تبدأ الظاهرة الاستشراقية، بمعنى توظيف المعرفة للسيطرة السياسية والعسكرية، وتيسير سبل الاحتلال باستغلال التناقضات وتشويه الوعي وإفساد الوجدان وتمييع إرادة المقاومة ونسف مقومات التماسك والوحدة وفي مقدمتها الدين واللغة، إلا في القرن الثامن عشر. ولذا سيركز هؤلاء المستشرقون على دراسة الفلسفة والأدب والعقائد والطوائف والتجمعات القبلية. بالموازاة مع ذلك، تم الاشتغال على المأثورات الشعبية والتقاليد والعادات والمعتقدات والتجمعات والزوايا...الخ. لقد اشتغل المستشرق على كل ذلك من أجل الأهداف نفسها. واستخلص عن شعوبنا خلاصات زائفة. لقد سفّه الزمان أحلامهم، وذلك ببداية الحركات السلفية ثم الوطنية وتنظيم أولى بوادر المقاومة الوطنية ثم المسلحة. وتَكَشّف الشعبي عن إنسان لا يقل عقلانية وواقعية وتاريخانية عن غيره من أنماط البشر. فمن تقاليده صاغ ردود فعله وأساليب مقاومته، ومقومات تحصين تراثه الثقافي بانتظار مؤهلات التحول نحو الهجوم السياسي والعسكري. لقد أكد إدوارد سعيد أن الاستشراق كمعرفة لم يكن سوى رغبات الغرب وآماله، تصوراته وأوهامه عن الشرق. 5- الثقافة الشعبية: الخبرة العربية الأمة العربية- بحسب الكاتب- أمة لافظة بالأساس اعتمدت اللغة في البيان. وقبل تأسيس الدولة، كان المجتمع العربي مقسم عموديا بين قبائل. إن غياب الدولة يعني غياب السياسي، وبالتالي الإيديولوجية. بعد الإسلام، تأسست الدولة، كما تأسس مجتمع جديد، ولأن الإسلام يجُب ما قبله، فقد تم الحسم بين نموذجين للمجتمع والثقافة، أي بين الجاهلية والإسلام، لأنهما متناقضان. لكن ثمة قاعدة هامة، إن المجتمعات لا تعيش بدون ذاكرة، ولذلك عندما اتسعت دولة الإسلام، بفضل الفتوحات، دخلت في الإسلام مجتمعات جديدة بثقافتها ولغتها حتى، أمام ذلك اضطر المجتمع العربي إلى العودة إلى ثقافته وتراثه الشعبي، ومع تراكب المجتمع وتعقده، وبالتالي تعقد المصالح وتنوعها، زادت حاجة العرب إلى حماية الإسلام واللغة، فبدأ عصر التدوين، وبدأ التقعيد في الشعر واللغة، والتأصيل في الفقه. لقد برز صراع بين العرب وغيرهم، تم اللجوء فيه إلى العربية وتراثها الشعبي، وعاد الماضي من جديد، أي الذاكرة، لكن بوظائف جديدة تلائم الحاضر، وتحولت الثقافة الشعبية إلى أدب جديد، شكل إيديولوجية للدولة وضمن وحدتها أمام التنوع والاختلاف، وتجسد بذلك أول وحدة بين الأدب والثقافة الشعبية في النهوض بالوحدة والتوحيد. ولم يقع الافتراق إلا بعد اضطرار العرب للتنازل عن الخلافة للأتراك العثمانيين أمام ضغط الغرب المسيحي، ومع دخول المستعمر الأوربي ستشهد الظاهرة مزيدا من الاتساع، لكن مع الشرط الجديد تغيرت العلاقة في اتجاه إصلاحي. وعلى الرغم من ذلك، فإن علاقة المثقف مع ما هو شعبي ظلت حذرة ومبتعدة، بينما أولى الغرب اهتماما وعناية فائقة لذلك التراث بقصد التحكم والاستعمار. 6- العرب المحدثون وتراثهم الشعبي: إن العلاقة بين الفصيحة والعامية في التاريخ العربي علاقة ثرية ومحترمة- بحسب المؤلف-، وبسبب ذلك نجد كتبا عن لحن العامة مثلا، والتي رصد فيها مؤلفوها ظواهر التطور اللغوي في الخطاب اليومي. وذلك في اتجاه التقريب بين الفصيحة والعاميات وثقافتهما. ولم تتوقف هذه العلاقة إلا حين تعرضت الأمة العربية أو أجزاء منها إلى الاستعمار الخارجي. فمنذ الحملة الاستعمارية الفرنسية على مصر بدأت طلائع المستشرقين التي تجسدت في بعثات فرنسية، اختصت بتجميع ورصد ظواهر اللغة والثقافة الشعبية العربية، وهي التي بدأت لأول مرة تعليم العامية في مدارس الاستشراق، خاصة الفرنسية منها. وفي مرحلة ثانية، وقع التغرير بالأقباط المصريين الذين وقع اغتصابهم ثقافيا، ثم لحق بهم بعض شيوخ الأزهر نفسه إلى أوربا للاستفادة منهم على صعيد التعليم والترجمة، فيما يهم الغرب معرفته. ومن أوائل هؤلاء محمد عباد الطنطاوي، الذي خلف كتابات في المجال منها بحث في اللغة العامية ، والحكايات العامية المصرية. على أن المرحلة الحقيقة للتأسيس بالنسبة للعرب المحدثين فعلا، بدأت مع الباحث أحمد تيمور باشا الذي وضع عدة تآليف منها الكتابات العامية ويجري فيه مقارنة مع الفصيحة. كما أن أحمد أمين يعد رائدا في هذا الباب من خلال قاموسه العادات والتقاليد والتعابير المصرية. وقد توالت بعد ذلك الكتابات في اتجاه تقريب العامية من الفصحى. بل إن عناية المحدثين العرب بثقافتهم الشعبية على سبيل الممارسة الإبداعية أكثر منها على صعيد الممارسة النظرية. ففي المسرح مثلا ثمة محاولة جادة للاتصال بالتراث الشعبي العربي، وكذلك حدث بالنسبة للموسيقى والغناء والفنون التشكيلية والسينما، بل حتى في القصيدة الحديثة. وبالرغم من الإشكالات التي تثيرها أشكال جديدة للاستعمار، فإن مقومات المشترك الثقافي العربي، وهي بالأساس الذاكرة الإسلامية وركيزتها القرآن الكريم واللغة العربية الفصحى، تحمي تلك الثقافة. 7- الخصوصية المغربية: يتسم المغرب بهشاشة الوحدة بين عناصره ومكوناته، بحسب المؤلف، واستمرار ضعف تماسكه الداخلي على مختلف المستويات، استمر حتى مراحل متأخرة من تاريخه. وقد ساهمت في هذا الواقع(الانحلال الداخلي- التبعية للأجنبي) عدة عوامل منها ما هو جغرافي، ومنها ما هو سياسي عسكري، يتمثل خصوصا في غزوات أوربا والشرق، والتي اتخذت طابع احتلال أو استيطان...هذا الواقع التاريخي المتميز لم يسمح ل(الأمة المغربية) أن توجد في القديم(ص 221). كما أن الفتح العربي الإسلامي كان يمكن أن يكون نقطة البداية لتكوين الوحدة المنشودة، لكن عوائق قامت دونه، أبرزها تباين وتباعد المدينة عن البادية. في هذه الأخيرة، ظل النظام القبلي مكتف بذاته، روابطه واهية بالمدينة وحتى بالدولة. وهو ما أوجد نمطان من الاقتصاد والاجتماع، بل ومن الثقافة. ولم تحصل الوحدة إلا حين يتم النداء للجهاد والدفاع الوطني. ومنذ القرن ,15 بدأ الارتباط النسبي بين المدينة والبادية، مما ساعد في بروز طبقة وسطى، عرقل نموها حدثين اثنين: سقوط الأندلس، وبداية الغزو الاسباني والبرتغالي للمغرب. ولم ينقذ المغرب سوى حدث تاريخي حاسم هو معركة وادي المخازن، حيث بدأ تشكل حقيقي لمفهوم الأمة (الوطن) في إطار مجرى الصراع ضد الأجنبي(ص222). وهو خيار رسخته الدولة السعدية التي تجاوزت الارتكاز على القبلية إلى الارتكاز على الدين. المحاولة الأخرى لتحقيق النهضة بدأت مع ملوك علويين حاولوا تقوية الجيش والدولة، وبناء تحالفات، وإصلاح التعليم والاقتصاد. لكن تلك المحاولات انتهت بالفشل، نتيجة ضعف القوة الاجتماعية القائدة في الداخل، واستمرار التناقض بين البادية والمدينة، وتشكل بورجوازية مرتبطة بالأجنبي. وهي تطورات انتهت إلى غلبة المستعمر الأوربي وسقوط المغرب رسميا في سنة .1912 وقد ناهض المغاربة ذلك، واتخذ ردّ فعلهم منحيين متناقضين: ضمان شروط المقاومة والاستقلال الثقافي للمحافظة على الخصوصية المغربية، وحماية قيم الشخصية الثقافية المستقلة في مواجهة أخطار المسخ والاجتثاث. وبفعل المستعمر، عادت المدن إلى الذاكرة الإسلامية، والفكر السلفي، بينما عادت البادية إلى أعرافها وتقاليدها وما يسمى الثقافة الشعبية(ص237). أمام ذلك، اضطرت النخبة إلى الاعتراف الضمني أو الصريح بأهمية تلك الثقافة الشعبية في توفير شروط الذود والحصانة للكيان. لقد تبنت النخبة تلك التقاليد، وارتدت إلى الماضي لأنه كان يبدو كقوة لا يمكن مقاومتها، من حيث إنها توطد المجتمع ضد مستعمريه(ص 239). في هذه المرحلة، بدأ الاهتمام بالآداب الشعبية، ومنها شعر الملحون، على يد المستشرقين أولا، لتيسير فهم المغرب قصد احتلاله، وفي مرحلة ثانية شاركهم المغاربة الاهتمام به، لكن بتوجيه ورعاية من المستشرقين، ويعتبر محمد الفاسي(التلميذ) نموذجا في هذا السياق. وقد كان موقف النخبة الوطنية في البداية عدم الاهتمام بالثقافة الشعبية، لكن في مرحلة موالية، خاصة منذ الخمسينات، بدأ الاهتمام الجدي بها، ولو من باب الرد على المستشرقين وخرافاتهم. ويعتبر عبد الله كنون، ومحمد الفاسي بعد التحاقه بالحركة الوطنية، ومحمد بن شريفة وآخرون، كوكبة مؤسسة للاهتمام بالآداب الشعبية، وكان أن عاد الاهتمام أكثر، حيث تأسست جمعيات تهتم بالشعر الملحون، وانتشرت مقالات في الصحافة، ثم اقتحم المسرح والسينما بعد ذلك، لكن الحصيلة إلى اليوم تبدو هزيلة ومعكوسة. عرض/ إسماعيل حمودي (*) عبد الصمد بلكبير/ في الأدب الشعبي: مهاد نظري-تاريخي/ المطبعة: الوراقة الوطنية الداوديات/ مراكش، ط1، 2010. في الآداب الشعبية: نحو علاقة جديدة للمثقف بثقافة أمته ينطلق المؤلف (*) من مسلمة مفادها أن الاهتمام بالأدب الشعبي مايزال محتشما في المغرب المعاصر، لضعف العناية به في الجامعة ومراكز البحث العلمي. إذ لم تبدأ المحاولة الأولى إلا في السبعينات بجامعة فاس على يد عباس الجراري، الذي كان قد أنجز دكتوراه في الآداب بالقاهرة في شعر الملحون، وبعودته شرع في تدريس قصيدة الملحون على مستوى الإجازة في فاس ,1970 لكن ذلك استمر متعثرا وغير مستقر، وفي شعبة الآداب العربية دون غيرها. هذا التعاطي شبه الاحتقاري، حسب المؤلف، انضاف إلى تجربة الاستعمارين الفرنسي والإسباني للمغرب. لقد ركّز الاستعمار على عناصر الاختلاف والتباين في أوساط الشعب، بوسائل علمية وعسكرية وسياسية متداخلة، بغية التشتيت والتفرقة كوسيلة وغاية بالنسبة إليه. ولما انطلقت الحركة الوطنية سعت إلى توفير عناصر الاتحاد وتقويتها، والتقليل من عناصر الاختلاف وتهميشها. وكان على المثقف أن يأخذ موقف الحيطة والحذر من كل ما يمت بصلة إلى الثقافة الشعبية. ولذلك لم يهتم بالتراث الشعبي قدر اهتمامه بالتراث العروبي- الإسلامي الفصيح. ينبه الكاتب إلى أن التجربة الغربية، في مهدها، كانت مخالفة. إذ إن الاهتمام بالثقافة الشعبية مشعل نهضت به الطبقة الوسطى في أوربا التي ربطت نهضتها بنهضة الثقافة الشعبية. وبالتالي تأسيس النهضة على أنقاض الثقافة الأرستقراطية، بالرجوع إلى اللغة العامية لاصطناع لغة قومية تكون بديلا للغة الكنيسة الميتافيزيقية والسلطوية. وذلك جعلهم ينكبون على دراسة ثقافة الشعب ومعتقداته ولغته، ومن ثم ردم الهوة بين النخبة والجماهير(ص12). المفارقة بين الحالتين، تكمن في قصور وعي طبقتنا الوسطى وضعف قدرتها على تحقيق تواصل منتج وفعال، سواء مع الثقافة الشعبية أو الثقافة الرسمية المكتوبة. مما جعلها غير قادرة على استثمار ثقافتها وموروثها الشعبي في عملية النهضة والتحرر(ص 15). 1- شعر الملحون: المنهج وخلفياته في دراسته الهامة هاته، اختار بلكبير مقاربة الثقافة الشعبية من خلال إحدى ظواهرها، وهي شعر الملحون. هذا الشعر، الذي هو أدب بحصر اللفظ، فهو معطى لغوي اجتماعي تاريخي، لا يمكن فهمه إلا ضمن ذلك السياق العام زمن نشأته وازدهاره ثم انحطاطه. لكن بعيدا عن التجزيء أو التعميم. فكل جديد بدأ يتخلق على حساب قديم ينهار. وهذا قانون وقع إهماله. وعليه فتطورات اللغة وتحولات الأدب لا يمكن فصلها عن مجريات الأحداث في أي اجتماع بشري، والعيب الجوهري هو فصل الآداب عن بقية المعطيات المفسرة لحركته(ص23)، خاصة وأن الأدب هو ظاهرة تاريخية. يرتبط بالذاكرة والخيال. إذ كل من لا ذاكرة له لا خيال له. ولأن الأمة العربية تعرضت لاستعمارات متوالية، فهي لم يتح لها إعادة بناء الماضي بمقاييس الحاضر والمستقبل، سوى استعماله أداة للدفاع عن كيانها أمام الغرب أساسا. ولذلك فإن مهام تحرير الإرادة والذاكرة بالنسبة لتراث الماضي ترتبط جدليا بتحقيق مهام الاستقلال والحرية. بناء على ذلك، لا يمكن تصور إنتاج أدبي بمعزل عن دوافع موضوعية وغايات اجتماعية، هي وحدها التي تعطيه معناه وتضمن مدلولاته، وتوظفه طبقا لغايات توجد خارجه. والاختلاف في أنماط الإنتاج الأدبي، بله التناقض في قيم ومضامين وأشكال النصوص، هو تعبير عن تناقضات الإنسان مع الطبيعة، وتناقضاته الاجتماعية حول المصالح والمطالب. وبهذا المعنى لا يتصور وجود أدب فوق المجتمع، أو في الحيدة عن خلافاته وتباين مصالح مجموعاته. لذلك فهو كمضمون تعبير عن رؤية ومصالح مجموعة اجتماعية محددة. وهو كشكل انعكاس لمجموع الهيئة الاجتماعية. في الحالة الأولى هو انعكاس إيديولوجي، وفي الثانية هو معطى معرفي. في الأولى يكرس شروط الفرقة والنزاع، وفي الثانية يلعب دور التوحيد ولحم الإرادة العام للمجتمع(ص36). إن دراسة الأدب الشعبي، شعر الملحون حصرا، تستدعي منهجيا دراسة بيئة النص ككل، أي شروط إبداعه ونشأته وازدهاره التاريخية. ويزداد الأمر تعقيدا حين يتأكد أن نشأة شعر الملحون تعود إلى المرحلة التاريخية المنعوتة بكونها عصر انحطاط وتخلف(ص50). وهو تخلف كان شاملا في أنظمة المجتمع والاقتصاد والسياسية والثقافة، لكن المثير أن ثمة خلافا بين الباحثين حول كل شيء بالنسبة لهذه المرحلة، بدء من نمط الإنتاج السائد، مما جعل أبحاثهم تتميز بالكثير من الاضطراب في التوصيف والتصنيف. 2- الشفاهي والمكتوب: يتحقق الاتصال البشري بإحدى صيغتين: أولها بالكلام وثانيها بالكتابة. هذا التفريق يشكل بالنسبة للغة العربية تمييزا بين الفصيحة والدارجة، الأولى تعتمد الكتابة والثانية تعتمد على النطق والسماع. وقد تلبست الكتابة باللغة إلى حد أضحى الاعتقاد سائدا بأن الكتابة مجرد وسيلة لنقل اللغة المنطوقة(ص98). لكن المعرفة المعاصرة باتت تؤكد العكس، فالوسيلة هي رسالة أيضا، وهي ليست محايدة في النقل والتوصيل. فالكتابة وسيلة مادية خارجية. وبالتالي تحمل دلالاتها الخاصة التي ترفقها عند الاستعمال في نقل المعاني، ودلالات اللغة المنطوقة. ولذلك فالعلاقة بين المكتوب والمحكي لن تكون بالضرورة علاقة نقل وحفظ وتوثيق محايدة. ومنه فإن الفروق بينهما تتجاوز ما هو تقني إلى المضامين والمحتويات. بل تصل إلى تصور الحياة ورؤية العالم (ص 103). إن اختراع الكتابة تحكمت فيه شروط تاريخية، فالمجتمعات القديمة والبدائية في غير حاجة إلى الكتابة، لأنها كانت مجموعات قليلة العدد، محدودة المجال، ومحدودة الإمكانيات. ولكن مع بروز الملكية الخاصة من جهة، وظهور السيادة السياسية للدولة، ظهرت الكتابة. فالكتابة تشكل الوجه الآخر أو الضمني لجهاز إدارة الدولة في التاريخ. كما أن الدولة هي أرقى صيغ التطور والتنظيم، وهي أخطر صيغ العنف والاستلاب. وكذلك الكتابة، فهي أرقى ما اخترعته البشرية لحفظ نوعها، ولكنها من أخطر وسائل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان. إن العلاقة بين المكتوب والشفوي ليست علاقة توسط وتوسل إذن، بل تتجاوز ذلك إلى قضايا جوهرية. في عهد اليونان مثلا حدث انفصال نكد بين الفكري واليدوي، وصار المكتوب أداة للفكر، والشفوي خاصا بالعمل والإنتاج. مما نتج عنه احتقار الأول للثاني. وبالتالي انشطار المجتمع إلى طبقتين: واحدة تشتغل بالفكر، والثانية باليد، مما سيؤدي إلى فقرهما معا. وفي الكتابة تنفصم العلاقة بين المتكلم وخطابه، مما يجعل المعرفة قابلة للاصطناع وحتى للتزييف، وقد أسهمت في عزل المتعلم/ المثقف عن الناس/المجتمع. والكتابة أيضا تتيح مراقبة كاتبها وسلوكه، وهي أداة لتطوير اللغة وتغييرها، بل تحريفها كما حدث مع الكتب السماوية(التوراة والإنجيل). وعلى الرغم من ذلك، فإن للشفاهي تأثيرا وفاعلية في المجتمعات الكتابية. فالديانات السماوية توسلت بالشفوي للذيوع والانتشار والتأثير، والتلاقح الحضاري بين الشعوب حصل بالاتصال المباشر أولا، وانتقال الخبرات والتقنيات تم بالاحتكاك أيضا. 3- الثقافة الشعبية: إشكالات المفهوم يتميز مفهوم الثقافة الشعبية - عند بعض الباحثين- بفعاليته في حلّ ثلاث تناقضات: الأول بين موضوع ومضمون الثقافة، والثاني التناقض بين الوسيلة والغاية، فكلاهما يصبح شعبيا، والثالث التناقض بين الوطني والاجتماعي، ففيه يتوحد ما هو وطني بما هو شعبي. وهكذا يتجاوز شعار الثقافة الشعبية كونه جوابا عن تناقض وطني- استعماري إلى كونه جوابا عن تناقضات اجتماعية؛ بل عن تناقضات عالمية بين شعوب وإمبرياليات(ص128). لكن هذا الطرح تواجهه إشكالات كثيرة تجعله غير مقنع تماما، فالثقافة الشعبية بالمعنى السابق ذكره، تلغي قاعدة نظرية وتاريخية تؤكد أن الثقافة السائدة في كل مجتمع غير متجانس هي دائما ثقافة الطبقة الحاكمة والمسيطرة. كما أن الحديث عن ثقافة شعبية يفترض وجود شعب متجانس، وأيضا جوهر ثابت، وهو أمر غير واقع. ويطرح المفهوم إشكالا آخر من حيث إنه يوحي بإمكان تصور وجود ثقافة كاملة وناجزة وثابتة، وهذا يلغي بعدا أساسيا في الثقافة هي التجديد المستمر والخلق الدائم. والثقافة الشعبية لا تقابل كلمة أرستقراطية أو الاستعمار بل توضع في تناقض مع المثقف إذ هو غير شعبي. وعليه لكي يصير شعبيا عليه أن يتبني الثقافة الشعبية، وهذا أخطر ما يمكن أن يكون، لأن المثقف مهمته التوعية من أجل التغيير. إضافة إلى أن اقتصار الثقافة على الشعبية، مصدر ووسائل ومحتوى، يوفر شروط كل نزوع إقليمي انعزالي متعصب. فضلا عن ذلك، يطرح مفهوم الثقافة الشعبية إشكالا يتعلق بغموضه وتعدد دلالاته ومضموناته، وهو التباس يطرحه كل مصطلح إديولوجي. فهو مفهوم لا يعنيه تحديد مظهر ثقافي وقياسه إلى مضمون ما. إذ ما يحدد ثقافية فعل أو شيء هو صيغته المظهرية وصورته الشكلية بغض النظر عن وظيفته أو معناه ونتائجه. فهو لا تهمه الوظيفة المعنوية ولا تهمه المردودية الاجتماعية للشيء الثقافي(ص134). وبذلك مثلا تنقلب العلاقة بين الدال والمدلول، بين الوسيلة والغاية، ويصبح المهم هو الدال والوسيلة والإشارة. ويصل الأمر إلى أخطر نظرة وهي إلغاء قيمتين من أهم قيم عصرنا هما العقل والتاريخ. خلاصة القول أن مراجعة الأصول الفكرية والاجتماعية لمفهوم الثقافة الشعبية كما تعكسه وتقدمه خبرة الغرب يرتبط بالبرجوازية الأوربية خلال طموحها لبناء أمة ودولة قوميتين، ومن خلال صراعها مع الكنيسة والإقطاع. حيث قامت بتأسيس ثقافة بديلة أساسها الوطن وليس الدين، وبالتالي تأسيس لغة وطنية بدل لغة الكنيسة المحملة بالرموز والأسرار. أما عندما حققت تلك البورجوازية هدفها، فقد تخلت عن قيمها القديمة، حول الحرية والعدالة والمساواة، وفرضت ثقافتها. ولم تجد نفسها أمام واقع مغاير جديد عليها إلا عند استعمارها لغيرها، حيث اصطدمت بشعوب لها ثقافتها الخاصة بها، وهكذا جعلت من تلك الثقافة موضوع اهتمام لها، من موقع عنصري استعلائي ينطلق من مركزية العقل والحضارة والإنسان الغربي، تجلى في عمل المستشرقين. 4- الاستشراق والتراث الشعبي: لم تبدأ الظاهرة الاستشراقية، بمعنى توظيف المعرفة للسيطرة السياسية والعسكرية، وتيسير سبل الاحتلال باستغلال التناقضات وتشويه الوعي وإفساد الوجدان وتمييع إرادة المقاومة ونسف مقومات التماسك والوحدة وفي مقدمتها الدين واللغة، إلا في القرن الثامن عشر. ولذا سيركز هؤلاء المستشرقون على دراسة الفلسفة والأدب والعقائد والطوائف والتجمعات القبلية. بالموازاة مع ذلك، تم الاشتغال على المأثورات الشعبية والتقاليد والعادات والمعتقدات والتجمعات والزوايا...الخ. لقد اشتغل المستشرق على كل ذلك من أجل الأهداف نفسها. واستخلص عن شعوبنا خلاصات زائفة. لقد سفّه الزمان أحلامهم، وذلك ببداية الحركات السلفية ثم الوطنية وتنظيم أولى بوادر المقاومة الوطنية ثم المسلحة. وتَكَشّف الشعبي عن إنسان لا يقل عقلانية وواقعية وتاريخانية عن غيره من أنماط البشر. فمن تقاليده صاغ ردود فعله وأساليب مقاومته، ومقومات تحصين تراثه الثقافي بانتظار مؤهلات التحول نحو الهجوم السياسي والعسكري. لقد أكد إدوارد سعيد أن الاستشراق كمعرفة لم يكن سوى رغبات الغرب وآماله، تصوراته وأوهامه عن الشرق. 5- الثقافة الشعبية: الخبرة العربية الأمة العربية- بحسب الكاتب- أمة لافظة بالأساس اعتمدت اللغة في البيان. وقبل تأسيس الدولة، كان المجتمع العربي مقسم عموديا بين قبائل. إن غياب الدولة يعني غياب السياسي، وبالتالي الإيديولوجية. بعد الإسلام، تأسست الدولة، كما تأسس مجتمع جديد، ولأن الإسلام يجُب ما قبله، فقد تم الحسم بين نموذجين للمجتمع والثقافة، أي بين الجاهلية والإسلام، لأنهما متناقضان. لكن ثمة قاعدة هامة، إن المجتمعات لا تعيش بدون ذاكرة، ولذلك عندما اتسعت دولة الإسلام، بفضل الفتوحات، دخلت في الإسلام مجتمعات جديدة بثقافتها ولغتها حتى، أمام ذلك اضطر المجتمع العربي إلى العودة إلى ثقافته وتراثه الشعبي، ومع تراكب المجتمع وتعقده، وبالتالي تعقد المصالح وتنوعها، زادت حاجة العرب إلى حماية الإسلام واللغة، فبدأ عصر التدوين، وبدأ التقعيد في الشعر واللغة، والتأصيل في الفقه. لقد برز صراع بين العرب وغيرهم، تم اللجوء فيه إلى العربية وتراثها الشعبي، وعاد الماضي من جديد، أي الذاكرة، لكن بوظائف جديدة تلائم الحاضر، وتحولت الثقافة الشعبية إلى أدب جديد، شكل إيديولوجية للدولة وضمن وحدتها أمام التنوع والاختلاف، وتجسد بذلك أول وحدة بين الأدب والثقافة الشعبية في النهوض بالوحدة والتوحيد. ولم يقع الافتراق إلا بعد اضطرار العرب للتنازل عن الخلافة للأتراك العثمانيين أمام ضغط الغرب المسيحي، ومع دخول المستعمر الأوربي ستشهد الظاهرة مزيدا من الاتساع، لكن مع الشرط الجديد تغيرت العلاقة في اتجاه إصلاحي. وعلى الرغم من ذلك، فإن علاقة المثقف مع ما هو شعبي ظلت حذرة ومبتعدة، بينما أولى الغرب اهتماما وعناية فائقة لذلك التراث بقصد التحكم والاستعمار. 6- العرب المحدثون وتراثهم الشعبي: إن العلاقة بين الفصيحة والعامية في التاريخ العربي علاقة ثرية ومحترمة- بحسب المؤلف-، وبسبب ذلك نجد كتبا عن لحن العامة مثلا، والتي رصد فيها مؤلفوها ظواهر التطور اللغوي في الخطاب اليومي. وذلك في اتجاه التقريب بين الفصيحة والعاميات وثقافتهما. ولم تتوقف هذه العلاقة إلا حين تعرضت الأمة العربية أو أجزاء منها إلى الاستعمار الخارجي. فمنذ الحملة الاستعمارية الفرنسية على مصر بدأت طلائع المستشرقين التي تجسدت في بعثات فرنسية، اختصت بتجميع ورصد ظواهر اللغة والثقافة الشعبية العربية، وهي التي بدأت لأول مرة تعليم العامية في مدارس الاستشراق، خاصة الفرنسية منها. وفي مرحلة ثانية، وقع التغرير بالأقباط المصريين الذين وقع اغتصابهم ثقافيا، ثم لحق بهم بعض شيوخ الأزهر نفسه إلى أوربا للاستفادة منهم على صعيد التعليم والترجمة، فيما يهم الغرب معرفته. ومن أوائل هؤلاء محمد عباد الطنطاوي، الذي خلف كتابات في المجال منها بحث في اللغة العامية ، والحكايات العامية المصرية. على أن المرحلة الحقيقة للتأسيس بالنسبة للعرب المحدثين فعلا، بدأت مع الباحث أحمد تيمور باشا الذي وضع عدة تآليف منها الكتابات العامية ويجري فيه مقارنة مع الفصيحة. كما أن أحمد أمين يعد رائدا في هذا الباب من خلال قاموسه العادات والتقاليد والتعابير المصرية. وقد توالت بعد ذلك الكتابات في اتجاه تقريب العامية من الفصحى. بل إن عناية المحدثين العرب بثقافتهم الشعبية على سبيل الممارسة الإبداعية أكثر منها على صعيد الممارسة النظرية. ففي المسرح مثلا ثمة محاولة جادة للاتصال بالتراث الشعبي العربي، وكذلك حدث بالنسبة للموسيقى والغناء والفنون التشكيلية والسينما، بل حتى في القصيدة الحديثة. وبالرغم من الإشكالات التي تثيرها أشكال جديدة للاستعمار، فإن مقومات المشترك الثقافي العربي، وهي بالأساس الذاكرة الإسلامية وركيزتها القرآن الكريم واللغة العربية الفصحى، تحمي تلك الثقافة. 7- الخصوصية المغربية: يتسم المغرب بهشاشة الوحدة بين عناصره ومكوناته، بحسب المؤلف، واستمرار ضعف تماسكه الداخلي على مختلف المستويات، استمر حتى مراحل متأخرة من تاريخه. وقد ساهمت في هذا الواقع(الانحلال الداخلي- التبعية للأجنبي) عدة عوامل منها ما هو جغرافي، ومنها ما هو سياسي عسكري، يتمثل خصوصا في غزوات أوربا والشرق، والتي اتخذت طابع احتلال أو استيطان...هذا الواقع التاريخي المتميز لم يسمح ل(الأمة المغربية) أن توجد في القديم(ص 221). كما أن الفتح العربي الإسلامي كان يمكن أن يكون نقطة البداية لتكوين الوحدة المنشودة، لكن عوائق قامت دونه، أبرزها تباين وتباعد المدينة عن البادية. في هذه الأخيرة، ظل النظام القبلي مكتف بذاته، روابطه واهية بالمدينة وحتى بالدولة. وهو ما أوجد نمطان من الاقتصاد والاجتماع، بل ومن الثقافة. ولم تحصل الوحدة إلا حين يتم النداء للجهاد والدفاع الوطني. ومنذ القرن ,15 بدأ الارتباط النسبي بين المدينة والبادية، مما ساعد في بروز طبقة وسطى، عرقل نموها حدثين اثنين: سقوط الأندلس، وبداية الغزو الاسباني والبرتغالي للمغرب. ولم ينقذ المغرب سوى حدث تاريخي حاسم هو معركة وادي المخازن، حيث بدأ تشكل حقيقي لمفهوم الأمة (الوطن) في إطار مجرى الصراع ضد الأجنبي(ص222). وهو خيار رسخته الدولة السعدية التي تجاوزت الارتكاز على القبلية إلى الارتكاز على الدين. المحاولة الأخرى لتحقيق النهضة بدأت مع ملوك علويين حاولوا تقوية الجيش والدولة، وبناء تحالفات، وإصلاح التعليم والاقتصاد. لكن تلك المحاولات انتهت بالفشل، نتيجة ضعف القوة الاجتماعية القائدة في الداخل، واستمرار التناقض بين البادية والمدينة، وتشكل بورجوازية مرتبطة بالأجنبي. وهي تطورات انتهت إلى غلبة المستعمر الأوربي وسقوط المغرب رسميا في سنة .1912 وقد ناهض المغاربة ذلك، واتخذ ردّ فعلهم منحيين متناقضين: ضمان شروط المقاومة والاستقلال الثقافي للمحافظة على الخصوصية المغربية، وحماية قيم الشخصية الثقافية المستقلة في مواجهة أخطار المسخ والاجتثاث. وبفعل المستعمر، عادت المدن إلى الذاكرة الإسلامية، والفكر السلفي، بينما عادت البادية إلى أعرافها وتقاليدها وما يسمى الثقافة الشعبية(ص237). أمام ذلك، اضطرت النخبة إلى الاعتراف الضمني أو الصريح بأهمية تلك الثقافة الشعبية في توفير شروط الذود والحصانة للكيان. لقد تبنت النخبة تلك التقاليد، وارتدت إلى الماضي لأنه كان يبدو كقوة لا يمكن مقاومتها، من حيث إنها توطد المجتمع ضد مستعمريه(ص 239). في هذه المرحلة، بدأ الاهتمام بالآداب الشعبية، ومنها شعر الملحون، على يد المستشرقين أولا، لتيسير فهم المغرب قصد احتلاله، وفي مرحلة ثانية شاركهم المغاربة الاهتمام به، لكن بتوجيه ورعاية من المستشرقين، ويعتبر محمد الفاسي(التلميذ) نموذجا في هذا السياق. وقد كان موقف النخبة الوطنية في البداية عدم الاهتمام بالثقافة الشعبية، لكن في مرحلة موالية، خاصة منذ الخمسينات، بدأ الاهتمام الجدي بها، ولو من باب الرد على المستشرقين وخرافاتهم. ويعتبر عبد الله كنون، ومحمد الفاسي بعد التحاقه بالحركة الوطنية، ومحمد بن شريفة وآخرون، كوكبة مؤسسة للاهتمام بالآداب الشعبية، وكان أن عاد الاهتمام أكثر، حيث تأسست جمعيات تهتم بالشعر الملحون، وانتشرت مقالات في الصحافة، ثم اقتحم المسرح والسينما بعد ذلك، لكن الحصيلة إلى اليوم تبدو هزيلة ومعكوسة. (*) عبد الصمد بلكبير/ في الأدب الشعبي: مهاد نظري-تاريخي/ المطبعة: الوراقة الوطنية الداوديات/ مراكش، ط1، 2010.