في هذه الحلقات ، تركيب لمشاهدات ومرويات توفرت لدي إثر زيارات قمت بها، في مناسبات ثقافية مختلفة، لسوريا التي توصف عادة بأقدم بلاد مأهولة في التاريخ. فقد عبرتها، منذ تكوينها الأول، ديانات وحضارات وحروب أهدتنا عراقة المعمار وأصالة الغناء والشعر والجمال. وعلى ثراها العاطر، يرقد عدد من الصحابة والأدباء والمتصوفة والعلماء، بدءا من خالد بن الوليد الذي زرناه بالمسجد الذي يحمل اسمه بحمص، وأبوالعلاء المعري وعمر بن عبد العزيز بمعرة النعمان في الطريق إلى حلب، وصلاح الدين الأيوبي ومحيي الدين بن عربي بدمشق ، وصولا إلى الجنود المغاربة الذين استشهدوا في حرب أكتوبر 1973، وإلى المبدعين الذين أضاؤوا قراءاتنا دائما: محمد الماغوط، سعدالله ونوس ونزار قباني الذي أسلم الروح بلندن، موصيا بأن يدفن بدمشق التي كان «لا يستطيع أن يكتب عنها دون أن يعرش الياسمين على أصابعه». وبالنسبة إلي فقد منحتني هذه البلاد، من خلال زياراتي، صداقات وأمكنة، ومحكيا قريبا إلي عن اللقاء المؤجل بهوى شرقي اسمه «أنهار». في مطار إسطمبول فقط، انتبهت إلى أن السيدة المحتجبة التي كانت، إلى جانبي، في الجو من الدارالبيضاء قد صارت امرأة أخرى، بسالف ممدود ورموش معلقة وصدر من البلور. اسمها نازك، وهي مثلي تسير باتجاه العاصمة السورية. وعلى طاولة المقهى أخبرتني بأن وسطاء خير قد تدخلوا من أجل إيجاد فرصة عمل بدمشق، وفي العين ضحك خفيف. ولأنني أتابع شبكات تشغيل المغربيات بالمشرق العربي، ولأنني كذلك لا أعرف إن كانت السيدة ضمن نفس الدائرة أو خارجها، لم اسأل عن التفاصيل، فهي نفسها لا تعرف سوى أنها ستلحق بزميلاتها هناك للعمل في الفنادق والمطاعم السورية، بعد أن جربت بمسقط الرأس بالرباط مهنا أخرى. بعد انتظار صعب في المطار، عدنا إلى الخطوط التركية التي ستنقلنا إلى دمشق. في الطائرة تناولنا وجبة الغذاء. أبدت نازك سعادتها بالمسار الجديد، فيما كنت أواصل قراءة الدليل السياحي الذي يحتفي بسوريا أرضا باركتها الأديان والأشعار والأساطير. إن إحدى صفحات الدليل، مثلا، تنقل عن الإمام أحمد والترميذي قول الرسول الكريم «طوبى للشام. إن ملائكة الرحمان باسطة أجنحتها عليها». وربما لذلك يختارها العابرون مثوى أخير. حتى أنني فوجئت مرة وأنا في الطريق الحدودية من بيروت إلى دمشق حين وجدت ما يشير إلى قبر هابيل بن آدم، المزار الذي لا بد أن يثير السؤال حول إمكانية أن يصمد قبر ما لإنسان كان هنا منذ فجر الإنسانية. ومع ذلك فهابيل كما في الطريق، وكما يروي مرافقي لا يزال يستقبل الزوار إلى اليوم. أما خارج الدليل، فقد كانت الشام تتقد في البال سيدة شرقية بعطر نادر، لاتفتأ تتجدد في كلما تجددت زياراتي لهذه البلاد. بعد إجراءات المطار، ودعت نازك في مآلها الجديد، فقد ألقاها يوما ما في دمشق، أو صديقاتها على الأقل. وحجزت غرفتي بفندق الشام، بشارع ميسلون الرابض على سفح جبل قاسيون. لكل اسم في الشام تاريخ وحكاية. قاسيون هو راعي دمشق، والشاهد الأزلي على نشوئها الأول، وعنه تنقل المأثورات أنه شهد قصة عاشقين استشهدا فداء للهوى والشباب. هي إذن الصيغة الشرقية لقصة إيملشيل، ولذلك صار قاسيون قبلة للعشاق. أما فندق الشام فهو أحد أكبر وأشهر فنادق العاصمة، إلى جانب الميرديان والشيراتون والفصول الأربعة . وميزته أنه ليس فقط الأعرق، ولكن لأنه سوي بمعمار شرقي أصيل، يعكس روح الشام ونبراتها، ولأنه كذلك ملتقى فناني وأدباء دمشق الذين التقيت بعضهم، مسائي الأول، في البهو الأخضر للفندق. عازفات أوربا الشرقية يمنحن الزبناء إمكانية إعادة اكتشاف أحد استهلالات موازات. نفس المقطع الذي كانت تعزفه بطلة فيلم «صمت البحر» لبير بوترون كما شاهدته قبل يومين. موزات لا يزال ينثر سمفونياته بكرم،، وسيدة الكمان بنفس هالة الحسناء جولي دولارم في الفيلم، والمساء يدعوني إلى الجولة الأولى. أخرج من الفندق وأعرج يسارا، باتجاه ساحة «يوسف العظمة». الجرائد بالأكشاك لها نفس العنوان. أشغل الهاتف. أجدد الاتصال بأصدقائي المغاربة والسوريين في دمشق. وأختار المشي عبر شارع 29 ماي. أناقة السوريين والسوريات واضحة، وكذلك ما يعطي الانطباع بالهدوء، الذي يشوش عليه قليلا بعض تحرشات الشحاذين وبائعي السجائر بالتقسيط وماسحي الأحذية القاصرين .. ولأمر ما توارد إلى البال ماكتبه فقيدنا الكبير محمد عابد الجابري، في «حفرياته»، عن دمشق إثر إقامته الطلابية خلال الموسم الدراسي 1957-1958 ، بحيث وجد صاحبه (كناية عن الجابري نفسه) العاصمة السورية «مدينة هادئة ونظيفة، ووجد سكانها في غاية النظافة والهدوء واللطف، يعتبرون كل عربي واحدا منهم فيشعر الوافد عليها من العرب، فعلا، بأنه بين أهله وذويه: في دمشق، يواصل الجابري، لا يشعر العربي بالغربة أبدا، أو على الأقل هكذا كان الشأن يومئذ». يقودني شارع 29 ماي إلى ساحة كبرى سماها السوريون «ساحة التجريدة المغربية»، تكريما للجنود المغاربة الذين قاتلوا ببسالة في حرب الجولان سنة 1973، ولاتزال رفاتهم إلى اليوم بمقبرة الشهداء بدمشق. في هذه الساحة الأساسية من جغرافيا العاصمة يوجد البنك المركزي، ومنها تتفرع شوارع أخرى بنفس الأهمية. يمينا، باتجاه شارع بغداد الذي يقودك إلى ساحة التحرير. ويسارا، باتجاه شارع باكستان الذي يقودك، من جهة أولى نحو شارع جمال عبد الناصر، ومن الجهة الثانية نحو شارع المهدي بنبركة. وربما تعودت أن أختار اتجاهات المشي هاته، لأن سائق الطاكسي الذي نقلني، في الزيارة الأولى، من المطار إلى فندق الشام كان قد سألني عن بلدي. وحين سمع كلمة المغرب مدح جنودنا، وأثنى على بسالتهم في القتال، ومجد تلك الروح التي ابتكرت فكرة الوحدة للقتال ضد إسرائيل. السائق ترك جزءا من دمه في هضبة جولان. والده استشهد هناك، وعمه لا يزال يروي بقايا الحرب. ولذلك رفض أن يتسلم كلفة النقل، ولذلك كرمنا السوريون بتسمية تلك الساحة ، وأيضا وفي سياق آخر، بإطلاق اسم الشهيد المهدي على شارع مميز وأنيق، سأظل أذكر اسمه لأنه أتيح لي أن استمتع في أحد زواياه، بمركز أبو رمانة الثقافي، بقصائد ونثريات من الذخيرة العالمية مسرحتها فرقة إيطالية على إيقاع موسيقى المتوسط. وقد اختار منظمو العرض دعوتنا إلى حفل عشاء بمطعم «أليسار» ب «باب توما». أليسار أسطورة من تاريخ صور. ملكة قرطاج، سيدة الجمال والنار، ونحن في ضيافتها إلى مطلع الفجر.