أن تزور سوريا أو الشام يعني أن تشم رائحة حضارات و ثقافات بل وتسير على خطى آثارها الشامخة. قبل أن أقرر السفر إلى سوريا ترددت كثيرا لكن الرغبة الجامحة في ترويض الروح واقتناص فرصة ثمينة لاكتساب تجربة عربية فريدة كانت أقوى مما كنت أتصور. غادرت الطائرة برلين واستوت في السماء قبل أن تحط بمطار دمشق. وبين عالم الغرب و لقاء أهل الشام كانت الرحلة . رفعت الحجاب على وجوه سوريا المختلفة التي لا تختزل في كلمة واحدة أو حكم معزول عن سياقه، بل تتعرى عندما نمارس اليومي ونحن بين أحضان هذا البلد العربي. "" علي سفير المغرب في سوريا ! كان الضباب قد خيم على العاصمة الألمانية برلين، عندما قررت أن اتصل بالصديق علي المقيم في دمشق. وكعادتي، أردت أخذ فكرة عن سوريا من عارف قبل انطلاق الرحلة. لم أتردد في أن أساله بفضول: صباح الخير أخي علي، وكيف هي الأجواء في عاصمة سوريا ؟أجابني بصوت فيه الكثير من الحماسة : بخير والحمد لله . سألته قبل أن أتركه يسترسل في كلامه عن أحوال المناخ والصهد و فصل الصيف الذي على الأبواب! وهل هناك من جالية مغربية في سوريا و في دمشق خاصة ؟ لم ينتظر ثانية واحدة حتى رد علي : هناك فقط بنات الليل وبعض الطلبة ؟ هل تقصد بنات الهوى . لم يرد . أبديت له الرغبة في معرفة ما يقع في عوالم بنات الهوى المغربيات، لكن دون أن أعبر عن تعاطف معين مع مُمَارسات أقدم حرفة في التاريخ.وقبل أن أحزم حقائبي بدأت أفكر في خطاطة لموضوع هذه المقالة. جمعت أمتعتي، وقصدت دمشق. لقاءي مع الصديق علي كان على غير ما توقعت. كلام مغربي أصيل و حركات هادئة وموائد فيها رائحة الكرم المغربي. علي يذكرني بجيل يقول البعض أنه لم يبق من آثاره إلا القليل . كنت متشوقا لجمع معلومات و معطيات عن عوالم بنات الهوى المغربيات في الشام. لا أخفي أنني تخليت منذ زمن بعيد عن إصدار الأحكام عن موضوع بنات الهوى وتبنيت روح الفهم. أعرف أن هذا العالم فيه حكي يمتزج فيه الوهم و الواقع والأسباب معروفة في مجملها. ففي كل مسكوت عنه توجد مناطق مظلمة. أريد الخروج من خطاب المشاكل والأسباب الاجتماعية و الاقتصادية و الاغتصابات ....قرأت عن الموضوع، وجمعت المعطيات المطلوبة و اتصلت بمصادر عديدة في عين المكان . تعددت المصادر و الهم واحد: الاقتراب من صورة بائعات الهوى المغربيات. بائعات الهوى موجودات في أهم المدن السورية ،دمشق و اللاذقية وحلب . قدمن إلى العاصمة بالمئات و يشكلن منافسة حادة للسوريات ،لكن قدوم العراقيات اللاجئات بعد احتلال وطنهم ن سيخلق لا محالة جوا آخر ،وربما سيساهم في محنة المغربيات حسب العارفين بهذه الفضاءات. إذا أردنا أن نعثر على الجسد المغربي الذي يباع في سوق دمشق ، فما علينا إلا الذهاب إلى أماكن مثل فندق لوميريديان القريب من فندق الفصول الأربعة المعروف وسط العاصمة أو في بعض العلب الليلية . قدوم المغربيات لممارسة العهارة في سوريا ليس وليد اليوم ، بل وقع منذ أعوام عديدة ،لكن اليوم أخذ الأمر صبغة خاصة وأبعادا مغايرة. مصادري تقول، إن هناك شبكات خاصة من سوريين و مغاربة تقوم بتهجير الفتيات المغربيات. البعض منهن يقعن ضحية هذه الشبكات التي تعدهن بالعمل في أماكن مختلفة، أما البعض الآخر فيكون عارفا لكل ما ينتظره في عوالم دمشق الليلية. ونظرا لتوافد المغربيات بكثرة على سوريا التي لا تفرض على المغاربة تأشيرة للدخول إلى أراضيها، قامت السلطات السورية بوضع شروط أمام المغربيات الذي يقل أعمراهن عن 35 عاما الراغبات في دخول هذا البلد. المراقبة الأمنية لم توقف زحف هجرة المغربيات اللواتي يفرض عليهن بمجرد دخول عوالم الليل السوري، الإنخراط وأخذ بطائق سنوية بطائق تحمل صفة فنانات وبمقابل مبلغ من المال،. لم أكن أصدق أن العديد من سائقي سيارات الأجرة يعرفون الواقع الدمشقي حتى قال لي أحدهم، إن المغربيات بنات الهوى ، لا يخرجن إلا في أوقات معينة نظرا للضرورات الأمنية.بنات الهوى المغربيات يمارسن حرفة أزلية لا تختزل أسبابها في عامل أو سبب واحد . لذلك لا أريد الدخول في تفاصيل من هذا النوع . أريد أن أفهم شيئا آخر. هجرة بائعات الهوى المغربيات ، تعد مفتاحا لفهم العديد من الأزمات والظواهر الاجتماعية التي تتجذر شيئا فشيئا في المغرب ، بالرغم مما يقال عن التغيير في البلاد. هذه الليلة قرر علي أن يغير وجهة أسئلتي النارية حول بائعات الحب والهوى ... عرض علي أن أرافقه في جولة لاكتشاف دمشق ليلا. قبلت العرض، لأنني أحب المغامرة و أعتبر الحياة في حد ذاتها مغامرة قصيرة الأمد. تلك الليلة المقمرة، اكتشفت العديد من الخفايا و الأماكن الجميلة بعيون صديقي علي . باب تومة ، الذي يعود أصله إلى الاسم اللاتيني سان توماس ، فهو يرتبط بالحي المسيحي . أما الساحات الشامية فهي شاهدة عن تاريخ بلد بأكمله. طرحت سؤالا إنكاريا على علي: كيف لهذا الحي أن يكون منظما وله نمط خاص الشيء الذي يختلف عن أحياء يقطن فيها المسلمون من السوريين ؟الفرق لا يحتاج لذكاء خارق من أجل معرفة أسبابه. متعة في هذه الجولة و شوق لمعرفة المجهول . لم ينس أخي علي و هو يتجول معي في دروب المدينة الضيقة أن يشير بإصبعه إلى إحدى العلب الليلية، التي تستقبل كل ليلة الفنانات المغربيات، فهو يعرفني أنني أصبحت مهووسا بهذا السؤال المزعج.انتهت زيارتي الليلية الدمشقية ، لكن لم تنته حرقة أسئلتي و لعبة السفر الذي قررت أن أروض فيه معارفي الضالة ، وكانت هذه هي فرصتي بجانب صديقي علي و موائد الطواجين المغربية التي يصير معها الكلام له طعم خاص.لقد حان وقت الرحيل إلى مكان آخر من هذا البلد، وتنتظرني فصول جديدة من الجهد و المغامرات. عندما تلتقي الثقافات و الأديان ! في البداية قررت أن أتجول بين أسوار الجامع الأموي، لأنه و كما يقال مكان يجمع علامات عدة. فهذا الجامع بني بحجر روماني ورسمت معالمه الهندسية الثقافة المسيحية، أما الخصوصية الإسلامية فتميز الكثير من فضاءاته. زيارتي للجامع الأموي من الداخل كانت محطة أولية للتعرف على كيف تسري روح التواصل بين الثقافات و الديانات في دماء السوريين. فداخل الجامع، الزوار يصورون ويناقشون ويتجادلون، قبالة الرجال و النساء الذين يصلون جماعات و فرادى. شعائر و طقوس تتم داخل هندسة هذا المكان المقدس الذي يحتضن الإنسان بكل حركاته. هل هو أسلوب سوري أو لغة تسامح فريدة ؟ يمكن القول إنها غيرة و حب الانسجام بين تعدد الأديان و الثقافات في هذا البلد . زوار المسجد يمثلون فسيفساء رائعة في الجمال و ينشدون أغنية منسجمة. عندما تحدثت مع عدد من السوريون وجدتهم يفتخرون بأماكنهم المقدسة و بالتجاور الواقع بين المسيحيين و المسلمين. فالمسلم و المسيحي و السني و الشيعي وغيرهم من الأقليات يعيشون في وطن واحد . تحدي ليس سهلا بالمقارنة مع بلدان أخرى لكن ما السر في ذلك ؟ اتبعت خطى المقدسات ودخلت القبور و الأضرحة . اليوم كان الموعد مع قبر السيدة رقية الواقع قرب باب الفراديس المعروف. مقام السيدة رقية اهتمت به الحكومة الإيرانية وحولته إلى فضاء شيعي مقدس يحج إليه الشيعة من كل حدب و صوب.احتضنني الجامع الأموي و استقبلني ضريح صلاح الدين القريب منه ، والذي بات قبلة للسياح من كل مكان .فوجدت نفسي من غير أن أعلم بين أسوار و نقوش ضريح رقية . هذا الضريح تحول خلال السنين الأخيرة إلى قبلة شيعية لكن كيف يحدث ذلك في بلد فيه أقلية شيعية ؟ ذلك هو السؤال!أغراني المعمار و اللوحات المكتوبة باللغتين العربية و الفارسية. دخلت إلى داخل الضريح و قررت أن أتبادل أطراف الحديث مع أبو علاء، سوري، كان يقرأ القرآن في زاويته المفضلة التي يزورها مرة كل أسبوع. متقاعد وعمل في التربية و التعليم سنوات قبل أن يخلد للراحة بين أسوار الأمكنة المقدسة والهادئة. كان لطيفا و مهذبا ، يجيب عن أسئلتي بحكمة . حدثني عن تاريخ الضريح و مكانة المقام. انتقد المغالاة الشيعية في أمور عدة، وأحب الضريح بل وجد ضالته في تلاوة القرآن قرب بنت الحسين التي تخلت عنها أمها الإيرانية في زمن الشدائد و الأزمات . رحلت رقية إلى دار البقاء و عمرها لم يتجاوز الرابعة من العمر . يبكيها الشيعة الذين يأتون لزيارة قبرها في لحظة إنشاد ذات قدسية، قبل أن تتساقط دموعهم في جو من الخشوع. رحلة روحية ينتقدها أبو علاء. الحديث مع شامي من أصول حمصية نسبة إلى حمص له طعم خاص . فهو يصف رأس النبي يحيى الابن المدفون في الجامع الأموي بأنه القاسم المشترك بين المسلمين والمسيحيين الذين يطلقون عليه يوحنا. اعتزازه بالتاريخ السوري المسيحي و الإسلامي لم ينسيه الحديث عن اليهود الذين تركوا البلد ورحلوا إلى إسرائيل ودل غربية عديدة، كان يلمح بيده اليمنى في إشارة إلى أن اليهود هُجّروا من سوريا. علاقة اليهود و الشاميين كانت جيدة على حد قوله، لكن لغة الحروب والساسة قضت على علاقات إنسانية و اجتماعية أغنت الشام و ثقافاته المختلفة. كلام من هذا النوع و ذكريات الماضي، مازالت راسخة في أذهان السوريين ومرسومة على جباههم وأسوارهم وحتى على بناياتهم القديمة و الحديثة. صباح الخير يا ماجدولين ! كانت المرة الأولى التي تستقبلني فيها امرأة بالورد وأنا أدخل غرفتي في فندق البستان الواقع في مركز العاصمة. ورود تزين سريري مكتوب عليها: أهلا و سهلا في دمشق. ماجدولين أعرفها منذ مدة عبر كتاباتها القصصية و تعرفت عليها في إطار مشروع طبع كتاب. عبارات الترحاب تفتح شهية الزائر وتثير فضوله. لغة الورد الجميل اكتشفتها و أنا أرافق ماجدولين في أماكن عديدة من دمشق و خاصة متحف قصر الأعظم توج بأكلة شامية رائعة . تبادلت كلمات الود مع أديبة مهذبة ، قررت أن تتحمل مسؤولية التحرير في جريدة مستقلة أطلق عل تسميتها الصوت ، و هي صوت إعلامي لحزب البعث العراقي ، رفقة صديقها و زميلها العراقي مؤيد عبدالقادر الذي ما أن استقبلي حتى بدأ يحكي لي عن مذكراته رفقة عبدالرحمان اليوسفي و الراحلين علي يعتة و الفقيه البصري . لقاءاته مازالت لابدة في ذاكرته و تذكره بمغرب الأمس . اكتشفت ماجدولين المبدعة و الصحفية في جريدة الصوت . وبالرغم من تحفظاتي حول عمل حزب البعث و لغة السياسة المتآكلة وكذلك دور ماجدولين في لعبة جريدة الصوت ، فإني حاولت التواصل معهما حتى أصل إلى جوهر ما أريد معرفته . أمطرت ماجدولين بوابل من الأسئلة و هذا قدر الصحافي إن أراد أن يفهم هذا العالم. طرقت أبواب عدة مع ماجدولين التي تحب السفر و الترحال في بلدان عديدة كأسبانيا و لندن و غيرها . قصر الحمراء يمثل لديها عنوانا بارزا للثقافة العربية ن ويشكل بؤرة أساسية في تفكيرها وإبداعها.لقائي بماجدولين لم يكن عابرا ، فقد أكرمتني بدعواتها رفقة صديقها وزميلها مؤيد عبدالقادر الذي لا يخفي انتماء جريدته لحزب البعث ، ويقول إن جريدة الصوت ولدت في اليوم الذي ولد فيه الشهيد الراحل صدام حسين . مأساة الوطن و محنة اللاجئين العراقيين و غربة المكان و أشياء أخرى كانت مواضيع لأحاديثنا. عبدالقادر عبر لي عن حبه للمغاربة و للمغربيات و اكتشفت أنه ينظر إلى ملايين المغاربة من خلال بنات الهوى الذين اكتسحوا سوريا و دمشق . سألت المناضل في حزب البعث عن الديموقراطية في البلدان العربية . سكت قبل أن ينطق: ليس هناك نظام سياسي عربي ديموقرطي على الإطلاق في البلدان العربية ، لكن لماذا إعدام صدام حسين بالضبط ؟وبين ابتسامات الترحاب، ونقاش يطغى عليه الحذر، ظل حديثنا وجدلنا معلقا على البقية. ودعت ماجدولين لأرحل إلى أمكنة أخرى ، فذلك هو قدري في زمن الهجرات القاسي. في ضيافة الشيخ محيي الدين بن عربي سؤال واجهني و أن أخترق دروب و أضرحة دمشق الشاسعة: هل يمكن لزيارة ضريح الشيخ محيي الدين بن عربي أن تكون مادة صحفية لقراء الصباح ؟ لم أكن قادرا على إصدار قرار إلا بعد زيارتي للضريح الموجود في أعلى جبل واقع بالعاصمة السورية : جبل سفح قاسيون.هذه الزيارة حركت شيئا في نفسي. امتطيت صهوة الترحال وقاومت ضجيج العاصمة وجريت وراء المآذن حتى وصلت إلى مكان منعزل حيث يرقد الشيخ. دخلت إلى هذا المقام .ابتسامات عريضة ترتسم على أعداد من الوجوه الجالسين قرب بوابة الضريح. لا يمكن أن نفرق بين الخدم و المتسولين والفقراء، فهم جماعات و فرادى تنتظر الزوار طالبة ما يسميه السوريون بالإكرامية. بروح ترحاب و هدوء متميز استقبلني مرشد الضريح . تقدم نحوي و بدأ يقدم لي توضيحاته عن الشيح و حياته و المغالطات التي عثر عليها في كتابات عديدة حول بن عربي. مع هذا المرشد تعرفت على نقاط حول سيرة الشيخ. كان ينظر إلي وهو يحدثني عن ولادة المتصوف الكبير المعروف بالإمام محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي ، الملقب بالشيخ الأكبر ، في مدينة مرسية في الأندلس ، في شهر رمضان الكريم عام 558ه الموافق 1164م ، لكن وفاته كانت في مكان غير منتظر ، واعني بذلك دمشق عام 638ه الموافق 1240م. ودفن في جبل سفح قاسيون. وبين الفينة و الأخرى كان المرشد يسألني عن وطني و أصولي و عملي وميولاتي المختلفة. أجبته بسرعة و باختصار، لأنني أهوى السؤال عوضا عن أكون في موقع المستجوَب. قلت له وأنا ابتسم في وجهه: أنا قدمت من بلاد دخلها الشيخ بن عربي وعاش فيها وكتب بين أحضانها. أليس كذلك؟ أغرته حكاياتي و أنا أقول له : لقد رحلت من ذلك البيت المغربي إلى كندا و ألمانيا و أنا مستقر مؤقتا في موسكو واعتبر نفسي مغتربا دوما . إذن، أنت رحلت مثل الشيخ بن عربي. هكذا أجابني المرشد . المتصوف ابن عربي رحل من اوطان متعددة للبحث عن المعرفة والعلم وحقيقة الروح. مرشدي اليوم لم يتوقف عند حب الله و حكايات الشيخ الذي لم يكن له مريدين. قال لي في نشوة العاشق للشيخ : لقد رحل محيي الدين في جولة فكرية و مات وهو يكتب كتاب تفسير القرآن. هذا يخالف قراءات عديدة مغلوطة كتلك التي تقول إن الشيخ بن عربي سبق وأن قال : إن معبودكم تحت قدمي هاتين حتى أعلن الناس بأن هذا الشيخ قد أصبح زنديقاً ويتوجب هدر دمه. لكن مرشدي اليوم، ألح على مقولة الشيخ : “لن تعرفوا حقيقتي حتى يدخل السين بالشين”، وبالطبع لم يفهم أحدٌ ما قصد الشيخ لكن مريدي وضح ذلك مبتسما. إنه دخول سليم (أول حرف سين) إلى الشام (حرف شين) وهذا للدلالة البليغة التي يتحدث بها العلماء و الشيوخ و أولياء الله فيستخدمون العبارات والكلمات المجردة والبليغة.وبين الحقيقة الضائعة و الكلام المباح تجولت مع هذا الشامي الذي يسهر على وضع بيوغرافيا للشيخ ابن عربي باللغات الأجنبية رفقة أحد الكتاب الغربيين . تعرفت هذا الصباح على أن محمد بن علي بن عربي شخصية فريدة و مبهمة وشهرته لا تنحصر في حدود العالم الإسلامي، فشخصيته مثيرة للجدل، فلا يكاد يتفق عليه اثنان حتى أن تحديد مذهبه الفقهي أو الكلامي من خلال كلماته يكاد يكون ضربا من التعسف و المجازفة. أما ضريحه فيكشف لنا عن تاريخ يجمع الشرق بالمغرب. فهو يرقد إلى جوار المجاهد عبد القادر الجزائري الذي دفن إلى جانبه قبل نقل رفاته سنوات الستينات إلى وطنه الجزائر. ابن عربي راقد في صمت قرب ابنيه يحتضن أسرارا ربما لم يصل إليها الباحثون و العلماء. انتهت زيارتي لضريح الشيخ و العلامة ابن عربي و ليس لفكر المتصوف الاندلسي . فحب علم بن عربي لا ينسينا الفتوحات المكية و لا حتى مئات كتبه التي أحصاها المرشد الشامي ووصلت إلى أكثر من 400 مئة كتاب لم نعثر إلا على القليل على حد قول مرشدي . فهذا كلام يفهم إذا تعرفنا على جذور الشيخ أولا، فقد كان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه و الحديث، و من أعلام الزهد و التصوف ، كما كان جده أحد قضاة الأندلس و علمائها ، فنشأ نشأة تقية ورعة نقية من جميع الشوائب الشائبة. و هكذا درج في جو عامر بنور التقوى ، فيه سباق حر مشرق نحو الشرفات العليا للإيمان . وكما يقول أجدادنا: كل خادم له أجرة، قدمت له الإكرامية في صمت و هو اعتبرها بركة سقطت في جيبه بردا و سلاما. بركة دنيوية لا تمت بصلة للبركة الربانية الذي يظل هو أفضل العارفين بها. ودعت مرشدي هذا الصباح قبل صلاة الظهر بساعة واحدة و هو يدعو لي و للشيخ بن عربي الذي استضافني هذا اليوم في اليوم الثاني من رحلتي للشام. عظمة الإنسان تنطق في تدمر حكاية الحافلة التي أقلتني من دمشق إلى تدمر غريبة. مراقبة المواطن السوري و الأجنبي في كل سوريا تعد قاعدة و ليس استثناء. فقبل أن تركب الحافلة يجب عليك أن تدلي بجواز السفر و تسجل في ملف خاص قبل أن تتتسلم تذكرة السفر. الركاب السوريون لا يخرجون عن قاعدة المراقبة فهم يدلون ببطاقة الهوية. كل شيء مراقب هنا. القادم من بلدان فيها روح الديموقراطية لا يسعه إلا أن يقول: هذا أسلوب دولة بوليسية. لكن الحافلة السورية تظل جميلة ومن بين أفضل الحافلات حافلات شركة القدموسي. فأكواب الماء توزع بالمجان على الركاب، يليها مرور الساقي بين الفينة و الأخرى لتقديم الماء لكل عطشان من الراكبين الذين يجلسون في صمت. هذا الصمت ، يقدم إشارات عدة حول طبيعة البلد و عقلية الشاميين ولغتهم العامية التي لها نكهة خاصة. قطعت المسافة بين دمشق و تدمر في ظرف لم يتجاوز ثلاث ساعات. استقبلني سيل من الشباب و العجزة يصرخون و ينادون الركاب من أجل تاجير فنادق و شقق. الكل أتى إلى هنا لاقتناص السياح الأجانب . قبلت عرض مناسب قدمه لي أحد الشباب الذي يبدو انه يتحدث لغة شكسبير . ركبت مع زميله في السيارة و خلال خمس دقائق كنت في غرفتي في فندق الفارس. بيت عائلي حوله صاحبه إلى فندق شعبي فيه 14 غرفة . الكثير من السوريين يقومون بنفس العملية من أجل لقمة العيش في بلد تلتهمه حمى الأسعار و تراجع الدخل الفردي. محمد يعمل في الفندق مع زوج حماته وأجر سعر الغرفة يصل إلى 1000 ليرة بما فيها وجبة الفطور. أغلب السياح و القاطنين في الفندق من الألمان و بعض الأمريكيين . الكل أتى إلى مملكة تدمر لاكتشاف عمق الحضارات الإنسانية في هذه المنطقة. كان علي أخذ سائق خاص من أجل اكتشاف المدينة و آثارها من خلال عيون أهلها أولا و عيوني التي تتهيأ لاقتناص صور فريدة لا ينتبه إليها العوام. تدمر مدينة أثرية وواحة تقع شمال شرق دمشق على بعد 240 كلم من العاصمة. أنشأت في البداية كمحطة للقوافل في القرن الأول قبل الميلاد، ثم تحولت إلى موقع روماني ثم مركز مقاطعة في الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول الميلادي. ازدهرت مملكة تدمر في عهد الملك أوديناثوس الذي كان موالياً للرومان واستعاد الأراضي التي فقدتها الإمبراطورية من الفرس. وبعد اغتيال الملك أوديناثوس، تولت زوجته زنوبيا الحكم. كانت زنوبيا تطمح إلى توسيع نفوذ مملكة تدمر إلى آسيا الصغرى ومصر، إلا أن طموحاتها انتهت في حربها مع الإمبراطور الروماني أورليان، الذي احتل تدمر عام 272 ودمرها، وساق زنوبيا أسيرة إلى روما. هذه التوطئة التاريخية لم تكن كافية لمعرفة خفايا و أسرار مملكة تدمر . كان لابد من اسجواب السائق أبو علاء وهو ابن المنطقة من أجل اكتشاف أهم الآثار الباقية في المدينة.لقائي مع مملكة تدمر العظيمة تم بعد زوال ثالث أيام رحلتي الشامية. زرقة السماء ناصعة و الحرارة شديدة . شمس تدمر قريبة من الأرض ويبدو للزائر أنه قادر على أن يلمسها بيديه. وبين آثار المدينة القديمة والمنطقة السكنية الجديدة طريق واحد، يربط بين القديم والحديث بصورة منسجمة وسحرية. بدات الرحلة، وتوقفت سيارة أبو علاء بجانب الطريق أكثر من مرة للاستطلاع . آثار تدمر العريقة بكاملها صارت في محيط رؤيتي. في الصحراء الشاسعة، تنتشر الأطلال الحضارية الرائعة. المشاهد المتضادة لها دائما جمال يهز النفس. وقفت بين الآثار التي لم يبق منها إلا الأعمدة الحجرية القديمة المصفرة وتطلعت إلى قوس النصر الذي لا يزال شاهقا، ورحت أفكر في ازدهارها القديم. تواجه الأعمدة الباهتة السماء الزرقاء مبدعة صورة جمالية تعجز الكلمات عن وصفها. هنا، ذاكرة خالدة تنتقل من جيل إلى جيل، بتلك القوة الأبدية التي تخترق العصور الراحلة. في وقت الأصيل، يصعد السياح و الزوار إلى قمة قلعة تدمر ،حيث تضيء أشعة الشمس المملكة الأثرية القديمة بلونها الذهبي. الكل ينتظر لحظة غروب الشمس ، قبل أن يحلق سرب من الحمام في السماء، فتتشكل لوحة فنية بديعة تجمع بين عظمة البناء القديم وجمال الطبيعة. شعرت وأنا أزور قبور قلعة ابن معن بالطمأنينة لعظمة الإنسان . توقفت عند عائلة إيلابل التي بنت المقابر التي يعود تاريخها إلى عام 106 الميلادي .تدمر تريد أن تحكي لي عن أسرارها المتعددة الدفينة ، وعندما أنصت إليها، لم أستمع إلا إلى صوت فيافي الصحراء قادم من بعيد ، ونغمات حول الحب والموت والعذاب . قررت أن أكتشف قبور الإخوة الثلاثة فعثرت على نفس الفضاءات التي ترحب بزوارها و هي تنطق كلمات التاريخ الإنساني العميق. الكل نصحني بان أزور معابد بل في البداية. قررت أن أقوم بالمغامرة. رحلة دفعتني للتأمل في أكبر وأشهر المعابد الدينية في الشرق القديم. فالمصادر التاريخية و حكايات سكان المنطقة تقول ، بأنه منذ القرن الأول الميلادي بني المعبد على جزء من الأرض وظل يبنى ويتوسع حتى أواخر عهد تدمر لأهميته, إلى أن أصبح بمقاييس لا يمكن تصورها لضخامتها, وأحيطت جدرانه ب375 عموداَ طول الواحد منها أكثر من 18 متراَ وهو من الضخامة بحيث لا يوازيه أي معبد آخر في الشرق, ولا يزال قائماَ من أعمدته الشامخة سبعة في الواجهة الرئيسية وعدد آخر في محيط المعبد . زيارتي للمعبد لم تبعدني عن مكان المدافن الملكية والمدافن العادية . فضاء نكتشف فيه فن ومجال أبرز فيه التدمريون ببراعة فريدة. مقابر المعابد, كانت في حلة مغايرة و لا تعتبر قبور لاحتضان الجثث بل تزين بالورود وكانت بمثابة أماكن للجلوس يسمونها أهل تدمر ببيت الأبدية. وقرب معابد بل يقع بيت صغير عمره قرنين خصصته السلطات لاستقبال علماء الإركيولوجيا الألمان و اليابانيين الذين يقيمون في تدمر من أجل إنجاز مهام التنقيب عن القطع و المنحوتات و اكتشاف أسرار المنطقة. وعلى هذه الأرض الطيبة، خرجت من ذكرياتي القديمة و دخلت عالم مملكة تدمر وتواصلت مع تاريخها القديم. فاكتشفت الحمام التقليدي الذي يحلق فوقها، لكن لم يبق منه سوى الأطلال و هو الذي كان حيا بمياهه المحملة بمادة الكبريت المعدنية قبل خمسة عشر عاما. حكى لي السائق أبو علاء عن أسباب انهيار الحمام و علاقة هذا الخسارة ببناية فندق الشام و أطراف أخرى متورطة في هذه الجريمة التاريخية. جولتي في مدينة تدمر رفقة السائق، سمحت لي بالتعرف على مواقع تركتها عظمة الإنسان كشارع الأعظم المحفوف بالأعمدة والتي يمتد لمسافة عدة كيلومترات ويطلق عليه الشارع المستقيم، الذي يمتد إلى حدود المسرح الأثري. وبينهما يظل بارزا كل من السوق التاريخي و الآغورا و البوابة الكبرى المعروفة بقوس النصر. وأخيرا، حان زمن وداعي لمملكة تدمر العظيمة. قلت مع نفسي ، ليت التاريخ يعود يوما إلى الوراء حتى أعيش لحظات هذه المدينة الأثرية الخالدة. لقد كانت تدمر واقفة ومبتسمة تطل علي من عدة نوافذ و اليوم أودعها لألتحق بأبواب و منافذ أخرى من عالم الشام. ولسائقي سيارات الأجرة ألف حكاية ! الزائر لسوريا لابد له أن يجرب مغامرات سيارات الأجرة الصغيرة حتى يتعرف على مقالب السوريين و أوهامهم و مشاكلهم و حتى على محنتهم مع الحياة. فالسائق لا يقود فقط الزبون إلى المكان المقصود ، بل يقدم لك صورة معينة عن البلد وخاصة إن أمطره الراكب بأسئلة عديدة كما فعلت أكثر من مرة. فهذه العملية تنسجم مع طبيعة عقلية السوريين الذين يحبون أن يتعرفوا على الغريب و الأجنبي، و ما أن يلتقوا به حتى يسألونه عن أصله و جنسيته و عدد الأطفال و حتى عن راتبه الشهري. أكيد أن سائقي سيارات الأجرة يختلفون في الطريقة و الشخصية ، لكن الذي يجمعهم في دمشق و اللاذقية و حلب هو نظرتهم للآخر وخاصة الأجنبي الآتي من العالم الآخر . فالعديد منهم يرفض أن يستعمل العداد بدعوى عدم تحديثه بما ينسجم مع ارتفاع أسعار النفط و هذا سبب مشكلة كبيرة معي. والحل يظل هو الاتفاق منذ البداية عن السعر ، حتى لا نسقط في فخ السائق الذي يحدد هو ومزاجه سعر المسافة. لم أكن أعرف أن العديد من السائقين في اللاذقية يتفقون مع وكالات على اصطياد السياح إلى هذه المدينة الشاطئية . جماعة منهم ينتظرون الزبائن أمام بوابة محطات القطار و الحافلات، ومهمتهم هو إغراء الأجانب بما يعرفونه من شقق ممتازة مطلة على البحر. العملية كلها عبارة عن تلاعب واستغلال لسذاجة الزائر الذي لا يعرف الكثير عن المدينة ، حتى يستفيد السائق من أجرين ، أجر الوكالة و أجر الزبون. العديد من الزوار الأجانب اكتشفوا أن الشقق المطلة على البحر متسخة و لا تليق بمقامهم ، وكأن الحكاية كلها محاولة لنهب أموال السياح و استغلال سذاجتهم. لكن حبل الكذب قصير و السياحة في سوريا تتأثر سلبا بسبب هذه الممارسات التي تقف أمامها الدولة صامتة وعاجزة عن فعل أي شيء، فهي لا تراقب إلا همسات المواطن و الأجنبي في حركاته و سكناته ، لكنها تظل بعيدة عن توفير فضاء سليم للسياح بعيد عن منطق السياحة المغشوشة. أبو علي ، السائق الذي رافقني اليوم لا يخرج عن هذا المنطق. فهو ينتمي إلى منطقة البسيط المعروفة ، و يدافع عن فترة حكم جمال عبدالناصر و يحكي عن ذكريات الزعيم مع مسقط رأسه و الوحدة المصرية السورية ، لكنه لم يتجرأ على نقد النظام السوري . انتهت مقالب السائق ، ودخلت الشقة الموعودة . خرجت لاكتشاف المدينة التي تتوفر على شاطئ معروف بتلوثه و ينصح الأطباء و المختصين بعدم الاستحمام فيه. حكاية السائقين لم تنتهي، فقد حدثني صديقي علي والذي يعرف جيدا هذا البلد عن العديد من السائقين الذين يعرضون على الرجال شققا وحتى بنات الهوى كذلك. القوادة سلوك متعارف عليه بين عدد من سائقي سيارات الأجرة في دمشق و مدن عديدة . وقبل أن أظل لقمة سائغة في فم سائقي سيارات الأجرة، قررت العودة من اللاذقية إلى دمشق ، و في نفسي شيء من الحسرة على بلد فيه جمال و قبح و أمن وتراجع على جل المستويات. واستخلصت ان الأمن ليس جزءا من عقلية أهل الشام بل قبضة النظام من حديد هي مفتاح فهم الظاهرة . وبين وجوه سوريا المختلفة، و المتناقضة أحيانا، ضاعت حقيقة الشام وأصبح كل شيء ممكن في زمن المستحيل. محمد نبيل كاتب و صحافي مقيم بين برلين و موسكو