كاشفةً عن ملامحها الأطلسيّةِ أنذرتِ الجندَ أن لهم من جماهيرها الخِصبَ والأذرعَ المستعادة من صدأ الثلجِ وأن لهم من بنادقهم لحظةََ الاتّقاد وكان الصباح يُداهم أحياءها الغجريّةَ وميناؤها يتلقّى فحيحَ البواخرِ منقبضاً وكأن المحيط تحوّل في هدأة الليل كثبانَ رملٍ وليلَتَها انتهتْ سهراتُ العقارِ المدجّج بالعملة العربيّةِ في أول الفجرِ. وانطفأتْ بنواصي الشواطىءِ بعض المصابيحِ واشتعلتْ أعينُ الكادحين بأكواخهم : سلاماً لعشرين يونيو سلاماً لنّيفٍ وستين طفلاً يمدّون أعناقَهم للمشانق مستعلين برغبتهم في الحياة وفي رونق الخبزِ والمعرفه . سلاماً لعشرين يونيو الجميلِ الرهيب الفسيح العميقِ سلاماً لأغنية الصمتِ والطلقات الحقوده وكاشفةً عن ملامحها الأطلسيّةِ كانت تغذّي ضفائرَها بنشيج المسافاتِ وتحفر في صدرها الغضِّ أسماءَ قتلاها وتمرحُ في حزنها وتبوح بشهوتها »لشاويةِ« الجوعِ والانفجار تتشّكل بين التوابيت والوردِ وتنبع كاسحةً كامتداد السحاب وضعتْ حملَها البِكرَ في حجرة الغاصبين وسمّتْه لوناً وفاكهةً وآلت على نفسها أن تجوع وتعرى وتخلقَ من لحمها الشمسَ والقمحَ والأقحوان ليصبحَ طعمُ الولادةِ كالأرض والماء والمطر المستحيل تتشكّل من دفقة الصيفِ والعرق المرِّ من سواد الصباحات حين تقيء المعاملُ أنفاسَها ويخطو المهاجرُ من حانيات القرى خطوةً نحو أنيابها الصفرِ وحدَها كارتعاش الندى كانتشار الأشعّةِ كانشطار الصدى وحدها تصدقُ الوعدَ للعاشقينَ وتغرق في وجدهم: مشتهاةً وماديّةً ومحقّقة لا تشيخ ولا تتكلّسُ مُشرِعةً قلبَها زورقاً للتوغّل والانتشار ولا يشتكي عاشقوها البعاد ولا يشتكون الهزيمةَ ناعمةً في ليالي الشتاءِ وهادئةً في ليالي الربيعِ وصاخبةً كلَّ صيفٍ ومنهكةً في الخريف ومُسطِعةً فصلَها الخامس فصلَ الحناجرِ والخوف والانكسار يمخرون عبابَ التحقّقِِ قافلةً تتهجّى حروفَ السفر السنابلُ مترعةٌ بالدم البربريّ وبالوشم والخيل الجبالُ الغريبة في أرضها تتبرعم ناتئةً كيدٍ باتجاه الغمام يمخرون عبابَ التناسلِ لا سبيلَ إلى دمهم لا سبيلَ إلى قلبهم أقبلوا من تجاعيد أرضٍ تلاشتْ قبائلُها واستقامتْ لقافلة الفاتحين أيها الحلمُ أن يستفيق السنونو على رغبة في احتراق الحقولِ ويشتعلَ الصبحُ فوق اتّساع المزارع وتموتَ اشتهاءاتنا فجأةً تلك فاجعةٌ حفرتْ مهدَها وأخاديد هي العلامة وأنتَ كأوسع ما يبزغ الحلم يقهركَ العجز وتغدو رجاءً وأمنية باهته وتسكن بين الرغيف وامتلاء الحواصلِ أقبلوا من مخاضات عشرين حولاً : جباهٌ نحاسيّة تتسامى بمنعرجات الحصارِ سواعدُ مسكونة بالعناق الأخيرِ صدورٌ معمّدة بالغبار عيونٌ: تقول انبجاسُ الأشّعةِ في أول الصيف تقول اتّقادُ الحصى والتماعُ الينابيع تقول اشتعالُ الأغاني بلحظة خوف أَقْبَلوا في البدايةِ كانوا قبل صدور المراسيمِ أن تتحوّل فاكهةُ الأرضِ أروقةً للمعارض، أقبيةً لاجتزاز النواصي وأرصفةً لبيوت القِوادةِ والنرد في البداية كانوا وكانوا كما تحضن الأرضُ غاباتِها كما يتحدّر ثلجُ الجبالِ كما يبدأ الطفلُ خطوتَه البكر في غابة الكلمات طافحين ببهجتهم مُترعين بسحر الكلام، بقهقهة الأرضِ ذاكرةً كسواقي البساتينِ ممتدّةً في الزمان وفي التربة الناضجه أقبلوا شاهرين على الفقر سحنتَهم يمخرون عبابَ التحقّقِ يمخرون عبابَ التناسلِ قافلةً تتهجّى حروفَ السفرْ أيهذا الدمُ المتحوّل في صدرنا غابةً لعصافيركَ الزرقِ أغنيتي لامتدادكَ حلمي وخارطةُ الحبِّ والجوع ستأتي القصيدةُ سابحةً في الحرائق وستمضي إلى واحةٍ من نخيلكَ العذب تمضي لتنتشلَ الكلماتِ اليتيمةَ من يُتمها وتحفر بيني وبين اشتهائي مدًى للصهيل أيهذا الدمُ المتحوّل في صدرنا غابة ستمرّ التوابيتُ بعد قليلٍ ورودًا ملفّعةً بالنحيب وسينسحب الموتُ من منعطفات الأزقّة امرأةٌ تتهاوى لتمسحَ وجهَ المدينة شيخٌ يحثّ الخطى حاملاً بين كفّيه مقبرةً نهرٌ من البشر المتسابق نحو الشظايا انكسارُ المسافاتِ انكسار الحواراتِ انكسار الحنايا مَن وراء البنادق ؟ مَن أمام الرصاص ؟ من يتلكّأ خلف الصراخ؟ من يخاطر في حمأة الغيثِ باللقمة السائغه ؟ فاصلاً بين أغنيةٍ وخطاب رديء وتمضغ قارئةُ النشرات السريعة أخبارَ تلك التي كشفتْ عن ملامحها الأطلسيّةِ : »شرذمةٌ من هوامش هذي البلادِ تُحطّم أروقةَ الذهبِ الوطني وتشوّه وجهَ المدينة مضرمةً نارَ أحقادها الطبقيّة في كلّ شيءٍ جميل وفي كل شيء ثمين وفي كل شيء تباركه شهواتُ الذئاب وها أقبلوا يكنسون المدينة من وجهها المرمريِّ« قبّعةٌ تقتفي أثرَ الخطوِ تخرج من تحت أشداقها جثّةٌ تنفث الدودَ والانتظار مرقتْ طفلةٌ بين أقدامهم وأشارت إلينا وبسمتُها تتلاشى على مهلٍ : إنهم فيلقان فتذكّرتُ »بيروتَ« تذكّرتُ طفلاً يسائلني هل يداهمنا في البلاد البعيدة رعبُ القذائف ؟ وتذكّرتُ خطَّ التماسِّ ومبنى الإذاعة إذ يسألون رفيقي عن البرلمان ونسأل كيف السبيلُ إلى الشام قبل اشتعال الطريقِ؟ وبين مكالمتين تقولان إن الدكاكينَ مقفلةٌ والمقرّاتِ قد طُوِّقتْ والمعاملَ مشرعةٌ للرياحِ وقفتُ أراجع بيني وبين اشتياقي ركامَ العلاقات كيف يصير الرغيفُ بحجم الحصار وكيف تصير الحدودُ مجالاً لكسب الرهانِ وكيف تصير الجبالُ جداراً وكيف يُساوَمُ ملحُ البحار ؟؟ تذكّرتُ وجهاً كجمر ليالي الشتاء تستشيط بداوتُه غضباً فينبّهني لمجال القطيعة فيلقانِ وقيل ثلاثةٌ ورابعُهم حقدُهم وكّنا بداخل ملجئنا نمارس عنفاً وحيدا عنفاً وحيداً: هو السيرُ ضدّ التيار وتذكّرتُ بطيبوبة الكادحينَ نهراً من الرغباتِ : كأنْ أستحمّ بنبعٍ من الثلج في جبلٍ تتداخل فيه الفصول وأن أسمعَ الأغنياتِ القديمة في موسم للحصاد وأن أتحدّث لامرأةٍ كهبوب القصيدة أقفر الدربُ وحَسَبنا الدقائقَ تلو الدقائق انتبهْنا لملامحنا قرأنا وراء ابتسامِ التحدّي اعترافاً برعب الحقيقة ثم تشكّلَ موكبنا الفردُ واحداً واحداً كما يعبر الياسمينُ إلى هدأة الليلِ جاهزٌ قرارهم وجاهز ٌرصاصهم ونافذٌ قرارُنا: لن تمرَّ المهزله.