كنا زملاء ولم نكن أصدقاء. ثم صرنا أصدقاء بدون أن نكف عن أن نكون زملاء، وهذا قبل أن تتطور بيننا تلك العلاقة الغريبة التي تمثلت بزهاء ربع قرن من الحوار اللاحواري منذ شرعت بالإعداد للجزء الآول من مشروع «نقد نقد العقل العربي» رداً على مشروعه الرائد في «نقد العقل العربي». ذلك أني التقيته، أول ما التقيته، على مقاعد الدراسة في جامعة دمشق، قسم اللغة العربية. كان ذلك سنة 1959 يوم كان كلانا طالباً يجمعنا درس مشترك هو ذاك الذي يعطيه كبير أساتذة اللغة العربية الذي كانه سعيد الأفغاني . لا أذكر أنه في سنوات الدراسة تلك وقع بيننا أي صدام، ولا كذلك أي تفاهم . كنا زميلين، ولم نكن صديقين. وكان بيننا ضرب من تنافس مكتوم، أو على الأقل هذا ما صارحني به يوم صرنا أصدقاء: تنافس لا على الأولوية في الصف ، فقد كنا كلانا من المتفوقين ، بل على مسائل عاطفية. ثم انقطعت بيننا الأيام، عشرين عاماً أو حتى أكثر. لست أدري ما فعل، وما درى هو ما فعلت. كل ما هنالك أني وجدت نفسي ابتداء من عام 1972 رئيساً لتحرير مجلة «دراسات عربية» الشهرية التي كانت تصدر عن دار الطليعة في بيروت. ووجدته يبعث إليّ بأكثر من دراسة فنشرتها بلا أي تردد، لما فيها من تميز في المنهج كما في المداورة المعقلنة للغة العربية. ولكن المفاجأة الكبرى كانت في عام 1984. فيومئذ أرسل إلى دار الطليعة كتاباً برسم النشر هو المجلد الآول من مشروعه لنقد العقل العربي : تكوين العقل العربي. وبهدف نشر فصل من الكتاب في المجلة قرأت بضعة فصول من المخطوط ، وسارعت أبلغ بشير الداعوق ، صاحب الدار ، بأن ما قرأته هو من أروع ما قرأت في حقل الدراسات التراثية. وأذكر أني قلت له : هذا باحث ذو مستوى أوروبي ، وليس محض باحث عربي. وشاءت الصدف أن أقرر في ذلك العام نفسه الرحيل عن بيروت التي هي أحب مدن العالم الى نفسي . كان ذلك في الربع الآخير من عام 1984 ، وكنت تعبت كل التعب من تلك الحرب الأهلية اللبنانية التي لا ناقة لي فيها - وأنا السوري - ولا جمل. شددت الرحال الى باريس حيث كنت سأصدر، مع الراحلين إلياس مرقص ومحيي الدين صبحي، مجلة «الوحدة». وباستثناء حقيبة الملابس فإني لم أحمل معي في الطائرة من بيروت الى باريس سوى كتاب تكوين العقل العربي الذي كان خرج لتوه من المطبعة في بيروت. قرأته في الطائرة ، ثم عاودت قراءته لاحقاً مرتين على التولي. ولا أكتم أن انئخاذي بالإشاكاليات المصاغة بين دفتيه قام لي في حينه ، وإلى حد غير قليل ، مقام الترياق من قلق الهجرة والإقامة المستجدة في دار الغربة. وعلى صفحات مجلة «الوحدة» استقبلت الجابري في أول لقاء بعد أكثر من عشرين عاماً من الانقطاع. ثم استقبلته أيضاً في بيتي على العشاء في الضاحية الباريسية. وليلتئذ ، ونحن نتناول العشاء، صارحني بأنه يعاني من مشكلة في القلب. ولم أتردد بدوري في أن أصارحه بأني أعاني من مشكلة مماثلة. ثم انقطعت العلاقات بيننا. انقطعت ودياً كما انقطعت فكرياً. ذلك أن خيبة كبيرة شقت طريقها الى عقلي كما الى قلبي. فعلى صفحات مجلة «الوحدة» دوماً كنت كتبت مقالة عن كتابه تكوين العقل العربي قلت فيها بالحرف الواحد :هذا كتاب لا يثقف فحسب، بل يغير أيضاً، فمن يقرؤه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه. ولأقل، بلغة فرويدية، إني رفعت ذلك الأخ الذي صاره الجابري الى مرتبة أب مثالي. وهي بكل تأكيد مرتبة كان يستأهلها بقدر ما أنه أخذ بيدي، من خلال قراءتي ل «تكوين العقل العربي»، ثم ل «بنية العقل العربي»، الى إنجاز نقلة، بل قطيعة، من الايديولوجيا الى الابستمولوجيا. فأنا الماركسي السابق، والقومي العربي الأسبق، والفرويدي المنزع لاحقاً، وجدتني على حين فجأة أمارس هوايتي شبه العصابية في تنحية آبائي بعد أن أكون قد أمثلْتهم. هذا ما فعلته مع ميشيل عفلق، بعد أن كان أبي المؤله، في يوم انتقالي من القومية العربية الى الماركسية. وهذا ما فعلته مع سارتر، ومع ماركس ولينين ، في طور انعتاقي من الايديولوجيا الماركسية . وهذا ما كدت أفعله مع فرويد نفسه بعد طول إقامتي في قصر وسجن التحليل النفسي. ولكن مع الجابري كانت جريمة قتل الآب المؤمثل من طبيعة مغايرة . فقد شاءت الصدفة - والصدفة وحدها - أن أكتشف أن هذا الأخ ، الذي أردته بكل وعيي أخاً كبيرأً، لن يستطيع أن يقوم مقام الأب المؤمثل. لا لأنه في مثل سني، بل لخلاف معه حول طبيعة الفردوس الذي أدخلني اليه : الإبستمولوجيا. ففي الوقت الذي أدين له بقسط كبير من تحولي من الايديولوجيا الى الابستمولوجيا ، اكتشفت على حين غرة أن ممارسته للإبستمولوجيا بالذات هي إيديولوجية، أو محكومة على الأقل باعتبارات ايديولوجية. ولن أدخل هنا في التفاصيل. حسبي أن أشير الى موقفه من العلمانية. فعلى صفحات «اليوم السابع»، الناطقة في حينه باسم الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي حواره المتعدد الحلقات مع حسن حنفي، أطلق مقولته الشهيرة : العلمانية فصل الدولة عن الكنيسة؛ والحال أنه ليس في الإسلام كنيسة، إذاً فالعلمانية لا لزوم لها في الإسلام. يومئذ اكتشفت أن الإبستمولوجيا المنطوق بها يمكن أن تخفي إيديولوجيا مسكوتاً عنها. فتعريف العلمانية بأنها فصل الكنيسة، لا الدين، عن الدولة كان يخفي موقفاً مسبقاً. فصحيح أنه ليس في الإسلام كنيسة - اللهم إلا في الإسلام الشيعي - ولكن الإسلام، على الأقل في الشكل التاريخي الذي تجلى به، هو مثال ناجز لدين لا يفصل بين شؤون الدنيا والآخرة. وحصر العلمانية بكفّ يد الكنيسة، دون الدين، عن التدخل في شؤون الدولة معناه إبقاء حدود الدولة مفتوحة أمام ذلك الدين الذي لا كنيسة فيه الذي هو الإسلام. وحتى أطروحة كهذه كان يمكن أن تبقى من طبيعة إبستمولوجية لولا أنها تواقتت مع صعود الموجة الأصولية الإسلامية التي اعتقد الجابري أنه مستطيع لجمها أو الالتفاف على خطابها عن طريق التكلم بمثل لغتها ان دعت الضرورة ، ولو من منظور تكتيكي. وعلى هذا النحو تباعدت الشقة بيني وبين ذلك الأخ الكبير الذي كانه الجابري والذي كنت رشحته بيني وبين نفسي لأن يكون أباً مؤمثلاً. واليوم، إذ يسبقني الى الرحيل، فإني لا أملك إلا أن أعترف بمديونيتي له: فهو لم يساعدني فقط على الانعتاق من الايديولوجي الذي كنته، بل كانت له اليد الطولى، ولو من خلال المناقضة ونقد النقد، على إعادة بناء ثقافتي التراثية. والتراث هو المحل الهندسي لكل معركتنا اليوم. فالموقف من التراث ومن نقد التراث وإعادة بناء التراث - ونحن أمة تراثية بامتياز - هو ما سيحدد موقعنا في التاريخ والجغرافية البشريين : أاندفاعة نحو الحداثة أم الانكفاء نحو قرون وسطى جديدة؟ . (٭) كاتب وباحث سوري، خصنا بهذه الشهادة مشكورا، التي كان الفضل في وصولها إلى الجريدة والقراء يعود إلى الباحث المغربي الصديق، سعيد ناشيد.. هنا، سنكتفي فوق بالوقوف عند مشروعه الكبير الثاني، بعد مشروعه الضخم الخاص ب «نقد العقل العربي» بأجزائه الأربعة. وبالنقاش الذي فتحه حول العقل البرهاني والعقل العرفاني، وانتصاره بوعي تاريخي أصيل، للعقل الرشدي المغربي الأندلسي، المنتصر للعقل على النقل، وللبرهان على العرفان. مشروعه الثاني الضخم هذا، الذي صدر بدوره في أربعة أجزاء الخاص بتفسير القرآن الكريم (إذا ما أضفنا إليه كتابه الأول «مدخل إلى القرآن الكريم»، الصادر عن مركز الدراسات العربية ببيروت سنة 2006، في أكثر من أربعمائة صفحة). إن أطروحة الجابري الجديدة هذه، بما صاحبها من ضجة إعلامية هنا وهناك، ومن تسرع في إصدار بعض المواقف بالمشرق العربي، لعل أكثرها غرابة بعض الموقف المصري، من داخل الأزهر، الذي ذهب باتجاه «تكفير» المبادرة المعرفية تلك، وهو الأمر الذي لم يلق صدى، حتى عند أكثر المدارس الإسلامية تطرفا في الخليج العربي، وفي الشام، وفي مصر، لأنها بعد التمحيص وجدت نفسها أمام معرفة رصينة بالنص الديني، وأن الأمر جد في جد، واجتهاد بين اجتهادات من داخل النص، ومن داخل المنظومة الحضارية للعرب والمسلمين. بل، هناك من ذهب إلى اعتبار مبادرة الجابري الجديدة، مجرد نوع من التجميع والترتيب لاجتهادات آخرين على مدى تاريخ العرب والمسلمين. وهو كلام مردود عليه، من حيث تأكيد الجابري نفسه، أنه في سياق دراسته للتراث العربي الإسلامي، ضمنه مشروعه لنقد العقل العربي، تجمعت أمامه معطيات ثرة، مرتبطة بالنص القرآني، سمحت له بتلمس ملامح تفسير متجدد للنص. وهو تفسير، إذا كان حقا، مندرجا في باب التفاسير الكبرى التي سبق وتوالى صدورها بعالمنيا العربي والإسلامي على مدى قرون وقرون (لعل أكثرها شهرة وبروزا هم تفسير الإمام العلامة، السيوطي)، فإن إضافتها النوعية، هي في أنها تموضع تجميع النص القرآني في سياقاته التاريخية للدعوة المحمدية، التي جاء بها الرسول الكريم، وتساءل تلك الوقائع التاريخية، انطلاقا من الإشكالات التي اعترضت ذلك التجميع. سواء على مستوى الإضافة والحدف والضياع. وهي قضايا جد دقيقة وغاية في الخطورة، معرفيا وتأريخيا ودينيا، كان السلف يمتلكون شجاعة معرفية للتداول حولها وطرحها وتمحيص الجواب الديني الفصل فيها. وكان كل اجتهاد يذهب حيث منطلقاته التي تكون إما عقلية أو نقلية. وما قام به الجابري في الأجزاء الكاملة لمشروعه الجديد هنا، هو أنه رتب ومحص كل تلك الإجتهادات ووضع لها سياقاتها التاريخية والمعرفية. والتمحيص والتجميع والترتيب، ليس تكرارا لجهد قام به الآخرون عبثا، بل إنه يسمح بخلق تأويل يساعد في فهم أعمق وأدق علميا لتاريخنا كعرب ومسلمين. إن من القضايا الهامة التي يأخدنا إليها مبحث الجابري التفسيري هذا، من خلال البناء النظري المؤطر للمشروع ككل، والذي نجده أوضح في كتابه «مدخل إلى القرآن الكريم»، هي تمثل الواقعة الحضارية للمسلمين والعرب، بمنظار معرفي أكثر علمية، من حيث أنه يبني آليته التحليلة الخاصة، دون الإرتكان إلى محاولة البحث عن التشابهات مع تجارب حضارية أخرى. فسؤال الدين كما طرح في الغرب، ليس بالضرورة قدرا لإسقاطه على التجربة التي تحققت مع العرب والمسلمين. ومفهوم «العلمانية» الغربي، له سياقاته التاريخية، التي ليس قدرا أن تتكرر عندنا، دون أن يلغي ذلك واجب مصالحة التراث مع التنوير، عربيا وإسلاميا. وهذا من الأمور التي جرت نقدا على الجابري من بعض مثقفي اليسار في المشرق العربي. وإذا كان الكثير من منظري التيارات الدينية بالمشرق العربي، خاصة من التيارات السلفية بالخليج، قد ناقشت مشروع الجابري، من موقع الموقف المسبق من العقل، وانتصارها للنقل والتأويل والتفسير الذي بناه الفقيه ابن تيمية، فإن من الدراسات التي تعاملت مع مبادرة الجابري بمقاربة علمية رصينة، هي تلك التي صدرت في لبنان وسوريا وتونس، من موقع التخصص الفقهي التفسيري للنص القرآني. وضمنها دراسة قيمة لأستاذ الشريعة بجامعة دمشق الأستاذ سامر رشواني، التي انتبهت إلى أن مبادرة الجابري لا يمكن فهمها بعزلها عن سياقات بحثه المعرفية السابقة عن ذلك التفسير. مؤكدا أن محاولة « الجابري هي أن يضع كتابه هذا في سياق التداعيات التي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول وما تبعها من هجوم على الإسلام، فألف كتابه هذا «مدفوعا برغبة عميقة في التعريف به للقرّاء العرب والمسلمين وأيضا للقرّاء الأجانب، تعريفا ينأى به عن التوظيف الإيديولوجي والاستغلال الدعوي الظرفي من جهة، ويفتح أعين الكثيرين ممن قد يصدق فيهم القول المأثور »الإنسان عدو ما يجهل«، على الفضاء القرآني كنص محوري مؤسس لعالم جديد كان ملتقى لحضارات وثقافات شديدة التنوع، بصورة لم يعرفها التاريخ من قبل» (ص 14 من « مدخل إلى القرآن الكريم»). منتبها إلى أن هذا لا يمنعنا من أن نضع المبادرة ضمن سياق المشروع العام للجابري أو سيرته الفكرية، فبعد إنجازه مشروع قراءة التراث الفكري العربي في أنساقه المختلفة، انتقل الجابري إلى قراءة الأساس والأصل الذي قام عليه هذا التراث، محاولا تطبيق نفس المبدأ الذي اعتمده في تناول التراث ألا وهو: »جعل المقروء معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في الآن نفسه«. أما معاصرة النص لنفسه فتتم من خلال تطبيق المبدأ الذي نادى به كثير من علماء المسلمين، من المفسرين وغيرهم، وهو أن »القرآن يشرح بعضه بعضا«، وذلك دون إقصاء الروايات والمأثور، على أن يشهد القرآن لهذه الروايات بالصحة، ولا تقع في تصادم معه. والجابري في اعتماده هذا المبدأ لا يبتغي بعمله هذا أن يدون تفسير للقرآن، بل يقتصر هدفه على التعريف به، ولكن هذا التعريف قد يدعوه إلى قراءة القرآن نفسه، وتفسير بعض نصوصه. وأما معاصرة النص لنا، فإنما تتم كما يرى الجابري على صعيد الفهم والمعقولية لهذا النص، هذا فضلا عن صعيد التجربة الدينية المتحققة دوما. وقد سمّى الجابري كتابه هذا مدخلا وتعريفا بالقرآن، إذ أراد من خلاله أن يكتب سيرة للقرآن، يرى أنها ضرورية جداً لفهمه، وضرورية لجعله معاصراً لنفسه. من أجل هذا جعل كتابه على ثلاثة أقسام: عرض في القسم الأول منها لقضايا تنتمي إلى التاريخ السابق على القرآن، بما هو رسالة إلهية موحاة، ودعوة نبوية جديدة. من هذه القضايا مسألة التبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الفكر الديني السابق على الإسلام، وهي قضية لم تزل مثارا للجدل بين المسلمين وأهل الكتاب من يهود ونصارى منكرين وجود مثل هذه البشارة (1) وقد أوضح الجابري أن المسألة لم تكن مجرد تبشير ب»الأمي« الذي اسمه أحمد أو محمد، على النحو الذي فهمه كثير من المفسرين، وحاولوا بناء عليه التنقيب في كتب اليهود والنصارى على دليل عليه بل مسألة التبشير مرتبطة بوجود تيار ديني توحيدي قام في وجه نظرية التثليث التي رسمتها المجامع الكنسية برعاية الإمبراطورية البيزنطية. ولعل أبرز من يمثل هذا التيار هو آريوس الذي قام بثورته في القرن الرابع الميلادي متبعا عقيدة »النصارى« الموحدين أو من أطلق عليهم أصحاب التثليث لقب »الأبيونيين« أي الفقراء نظريا وفكريا وعمل على نشرها في أنحاء عديدة من الإمبراطورية البيزنطية. ولكن المجامع المسكونية الرسمية قابلت مذهب آريوس بالرفض وبدَّعت كل من يرفض فكرة التثليث، فما كان من هؤلاء بحسب رأي الجابري إلا أن طرحوا فكرة النبي »المنتظر« الذي بشرت به نصوص بعض الأناجيل تصريحا أو تلميحا، أو على سبيل التأويل. وفي هذا الإطار يمكن فهم ما جاءنا من أخبار عن كثير من الرهبان يصرحون بقرب ظهور نبي جديد، وكذلك نفهم ظاهرة »الحنفاء« الباحثين عن الدين الحق، التي انتشرت في أرجاء جزيرة العرب. وقد حاول الجابري أن يؤكد على أن العلاقة التي تحكم الإسلام بكل من اليهودية والمسيحية هي علاقة تحكمها شجرة نسب واحدة، جذعها المشترك هو إبراهيم شيخ الأنبياء. وهذا كلام لا إشكال فيه، لولا أن السياق يقتضي التفريق بين اليهودية (2) أو المسيحية الأصلية الحقة وبين اليهودية التاريخية أو المسيحية البيزنطية التي انحرفت وانجرفت بعيدا عن أصل التوحيد الإبراهيمي. والكلام الذي أسلفه المؤلف يقتضي هذه التفرقة أصلا. يطرح الجابري بعد هذا مسألة »النبي الأمي« ومفهوم »الأمية« على بساط البحث والنظر، وهي مسألة كثيرا ما طرحت في العصر الحديث، وقد وافق فيها الجابري آراء كثير من المعاصرين من المستشرقين والمسلمين. حيث ذهب إلى أن المعنى الذي ألصق بكلمة »الأمي« وأنه من يقرأ ولا يكتب، معنى لا يسنده أصل لغوي سليم، ولا استعمال عربي معهود، ولا واقع تاريخي صحيح. فهذا اللفظ »الأمي أو الأمية« لم يستعمله العرب قبل الإسلام، بل هو معرَّب، ومأخوذ عن اليهود الذين كانوا يطلقون على غيرهم ممن ليس لهم كتاب منزل لفظ »الأمم«، وعليه فإن »الأمي« مشتق من »الأمة « كما يقول الفراء وليس من »الأم« كما يقول الزجاج وغيره من المتأخرين. كما أن كثيرا من الدلائل تشير إلى معرفة العرب بالكتابة والقراءة، فضلا عن إلمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بها. وعليه فإن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في أنه قد جاءهم بكتاب، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، بل المعجزة أو فلنقل المنة كانت في إنزال كتاب سماوي على رجل أمي من أمة أمية لم يسبق لهم علم بكتاب سماوي، فأصبح العرب بهذه المعجزة »القرآن« أمة من أهل الكتاب، بعد أن كانت أمة أمية لا كتاب لها. ثم تطرق الجابري لحدث الوحي، ومفهومه، وللاتهامات التي وجهتها قريش لدعوى الوحي، إذ لم يكن مفهوم الوحي، بالمعنى القرآني، معروفا في معهود العرب اللغوي والثقافي، بل إن مفهوم النبوة أيضا لم يكن من معهودهم، فهذه المفاهيم مما نشأ مع الإسلام، وقد استطرد الجابري بعد ذلك في عرض نظرية النبوة ومفهومها عند المسلمين من المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة والمتصوفة والشيعة، كما تعرض لمفهوم الوحي في اليهودية والمسيحية، مبينا تميز مفهومه في الإسلام عنهما. أما القسم الثاني من كتابه، فقد خصصه الجابري لبحث مسارات الكون والتكوين للقرآن. واعتمد في بنائه، وفي تخطيط ما سيليه من بحثه على المفاهيم التي عبَّر بها القرآن عن نفسه، مع ملاحظة السياق التاريخي الذي جاءت فيه. فقد لاحظ الجابري أن القرآن أولَ ما نزل، عبَّر عن نفسه بلفظ »الذكر« ولفظ »الحديث«، حينها لم يكن قد نزل من القرآن إلا سور معدودة قصيرة، ومع انتقال الدعوة إلى المرحلة العلنية، وبدء المواجهة مع المشركين، وتكاثر السور حتى بلغت نحو ثلاثين سورة، ظهر لفظ »القرآن«، ليشير إلى أنه كلام تقوم طريقة تلاوته وترتيله بتأثير ينقل موضوع الذكر والحديث إلى مشاهد صوتية منغمة، تقرر وجودا يحمل معه برهانه، فيستغني عن برهان العقل: { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر:21، وقد استقر هذا الاسم علما على الوحي المحمدي، وأصبح »الذكر« و»الحديث« أوصافا للقرآن، وعلى نحو أدق أصبح المراد بالذكر جزءا مخصوصا من القرآن، وهو آيات القصص، والوعد والوعيد. أما لفظ الكتاب فقد بدأ مع سورة الأعراف {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الأعراف:2، التي تستحق أن توصف بأنها كتاب بحد ذاتها، فهي أطول سورة نزلت بمكة، وإطلاق اسم »الكتاب« على القرآن عملية ذات مغزى، فهي أول إشارة إلى انتقال العرب من وضع أمة أميَّة لا كتاب لها إلى وضع أمة لها كتاب، وفي الوقت نفسه تضع حدا لاحتكار اليهود والنصارى للقب »أهل الكتاب«، وسورة الأعراف على وجه الخصوص، تضع بين ناظري العرب تاريخهم الخاص على مسرح النبوة والرسالات السماوية، أي أنبياء العرب »البائدة« عاد وثمود ومدين وغيرهم. هذه هي اللحظات الثلاث في سيرة القرآن، لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، ولحظة القرآن/الذكر:القص، ثم لحظة القرآن/الكتاب: عقيدة وشريعة وأخلاق. وقد عرض الجابري في كتابه هذا اللحظتين الأوليين وترك اللحظة الثالثة للجزء الثاني الذي وعد به القراء. أما لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، فقد عرض فيها لمسألة الأحرف السبعة والقراءات، وجمع القرآن، وما أثير حوله من القول بالزيادة والنقصان، وترتيب المصحف، وترتيب النزول. وقد مسَّ الجابري هذه المسائل المشكلة مسَّا خفيفا، فلم يحلَّ إشكالاتها، ولم يأت بما يشفي الغليل، بل اكتفى بسرد بعض الآراء التي ذكرت في كتب علوم القرآن حول هذه المسائل، مع الميل إلى المشهور وما عليه الجمهور من هذه الآراء. وكان من الواضح أنه يريد بإيراده هذه المسائل تقرير بعض الأسس التي سيستند إليها في فهمه للقرآن، لاسيما التسليم بصحة المصحف العثماني وما ثبت من القراءات المتواترة، كما انتهى إلى أن ما ينسب إلى المصادر الشيعية من القول بنقصان شيء من القرآن فهو ليس إلا انعكاسا لموقف سياسي احتجاجي. أما فيما يتصل بترتيب النزول فقد اهتم الجابري بهذه المسألة اهتماما بالغا، إذ إن هذا الترتيب لا بد منه لرسم المسار التكويني للنص القرآني. وقد لاحظ الجابري التقارب والتشابه بين لوائح ترتيب السور التي نقلتها كتب علوم القرآن عن ابن عباس وجابر بن زيد وغيرهما. كما عرض لاجتهادات المستشرقين في ترتيب السور. وخلص إلى القول بأن «القرآن كتاب مفتوح، يتألف من سور مستقلة تكونت مع تدرج الوحي، والسور نفسها مكونة من آيات مرتبطة في كثير من الحالات بوقائع منفصلة هي أسباب النزول. من أجل ذلك كان من غير الممكن التعامل مع القرآن كنص معماري مهيكل حسب ترتيب ما» (ص243). بهذا المعنى، يكون الجابري، قد دخل بمشروعه الفكري الثاني هذا، إلى خانة العالم الفقيه، بذات الحمولة الكلاسيكية للفقيه في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، أي منتج الأفكار وموجه العقول من خلال امتلاك حجية الاجتهاد. وهو الاجتهاد الذي تكون قوته آتية من اتساق معارف المجتهد وأيضا من جرأته في الانتصار للعلم والحق والعقل. بذلك يكون فعلا محمد عابد الجابري، قد بصم لاسمه صيرورة أبدية، بصفته فعليا «ابن رشد القرن العشرين».. على الأصح، جابري الفكر العربي الإسلامي.. فالرجل أصبح علما وأيقونة ومعنى.