من حسن الحظ، ودواعي الاطمئنان أن لازال بيننا من يشتغل، بحماس وعفوية وتصميم، من لازال يُقبل على العمل، لا فقط كواجب مهني ولكن كشرط حياة أو وجود لاغنى عنه، من يستيقظ مثلا في الصباح الباكر، وقد ألقى جانبا كلام التلفزيون عن الغد الواعد، وما بعد الغد المشرق، والمشاريع الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، والآفاق المفتوحة، وكل ذلك الكلام الذي يردَّد بشكل بليد، منصرفاً عنه إلى العمل، مسلحاً بحدس تلقائي تعززه تجربة الأيام، بأن العمل وحده يبقى في نهاية المطاف الضمانة الوحيدة، له وللعيال. هذا الصنف من الناس العاديين، البسطاء، «الناس اللي تحت» (بتعبير إحدى السكيتشات المصرية القديمة)، والذين يكتفون من متاع الدنيا بالضروريات ويحصلون على هذه الضروريات بالكد والجهد والعرق، هؤلاء البسطاء المستقيمون، المسدِّدون لضرائبهم، عند المنبع وفي الأكشاك في الإدارات، والمؤدون لفرائضهم الدينية بيقين واعتدال، هؤلاء بالذات هم صانعو ذلك الفائض الاقتصادي الذي يسمح لعدد كبير ممن يصعب حقا تصنيفهم ضمن المنتجين، بالعيش الرغيد، أولئك الذين يسرحون بخيالهم الاستهلاكي إلى ما وراء الضروريات، إلى الكماليات والموضة والتعليمات الجديدة. هذا الصنف من الناس، الصانعين للثروة والفائض، لم يدرسوا بالطبع تلك الأجزاء من أدبيات الاقتصاد السياسي التي تتناول نظرية القيمة وعلاقة القيمة بالعمل، ولكنهم، في حياتهم اليومية، حياة العمل، يضعون تلك النظرية موضع التطبيق بشكل دقيق ومباشر، ودون احتيال، لا على العلم، ولا على الواقع. هؤلاء الناس البسطاء، المشتغلون باليد والعقل، في وئام وانسجام لا تفسده مَفسدة من طمع أو شره أو رغبة في الإثراء بلا سبب، هؤلاء لم يدرسوا بالطبع كل تلك الأجزاء من الدراسات الاقتصادية التي اهتمت بالعلاقة المركبة بين العمل اليدوي والعمل الفكري، كما لو يدرسوا تلك التصنيفات التي قسّمت الأنشطة المنتجة الى قطاع أول فلاحي، وقطاع ثان صناعي وقطاع ثالث خدماتي، ولكنهم يدركون بالحدس والتجربة الميدانية والمراس الطويل أن أي تصنيف للأنشطة لا يمكنه أن يقفز على تلك الحقيقة الأولية والأساسية والقائلة بأن العمل سيبقى أساس كل قيمة، في الحاضر وفي المستقبل. وهؤلاء المشتغلون، باليد والعقل في وئام، يذكروننا كل يوم أنه بدون استيعاب هذه الحقيقة الأولية والأساسية والقاعدية، فإن الحديث عن اقتصاد المعرفة يصبح، عند البعض، مجرد لغو لفظوي متعالم، وعند البعض الآخر، وهو الغالبية عندنا نوعاً من التهرب من عناء العمل ومسؤوليته، حيث يتم الاحتماء بهذه المقولة ذات الحمولة المعرفية حينما تستخدم في محلها للتملص من العمل والعيش على حساب الفائض الذي ينتجه الآخرون. المنتجون عندنا، ممن يعولون على العمل، ويؤمنون بقيمته وفضائله، مبثوثون في كل المناطق والأحياء وأماكن تواجد الأنشطة في مدننا الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، وفي بوادينا والقرى، ومن دواعي الارتياح أنهم لا يزالون يشكلون الأغلبية رغم تنامي أعداد غير المنتجين الملتهمين للفائض، والذين يجب منهجيا وعمليا، تمييزهم عن العاطلين: العاطلون عن العمل مقصيون عن دوائر الإنتاج بغياب مناصب شغل تدر أجراً أو مرتباً أو تعويضاً من التعويضات، أما غير المنتجين، الذين نقصدهم هنا، فهم في الغالب أشخاص بعوائد مالية كبيرة، لكن مساهمتهم الفعلية في خلق الثروة أو في تنمية ما هو موجود منها أمر مشكوك فيه، وهذه المساهمة لا ترى، في كل الأحوال، لا بالعين المجردة، ولا بعين الاقتصادي المتخصص والباحث في ثنايا ودواليب الدورة الاقتصادية، كل ما يرى هو التهامهم للفائض الاقتصادي الذي يخلقه بالعناء والجهد صنف الناس البسطاء، بل الأدهى من ذلك، أنهم قد يعمدون في بعض الحالات وباستخفاف كبير إلى عرقلة مشاريع وأنشطة من موقع المسؤولية الادارية وهم أول المستفيدين من عائداتها الضريبية المحتملة بحكم عيشهم على أجور هي في نهاية المطاف، وفي جزء كبير منها، مداخيل ضريبية متأتاه من استخلاصات دورية على الأنشطة المنتجة. عينة صغيرة من الناس البسطاء المجتهدين في خلق الثروة والفائض بالعمل المنتج أصادفها شخصيا في طريقي كل صباح وأنا أعبر أزقة ودروب حي لابيطا بفاس قرب محطة القطار، حيث تختلط أصوات العاملين في مختلف الأوراش بأصوات الباعة من كل صنف وحيث تتجاور الحرفة مع التجارة، مع المقاولة الصغيرة وحيث ترتبط المعاملات الاقتصادية بحميمية العلاقات الإنسانية. الناس البسطاء المنتجون من أمثال نشيطي حي لابيطا يكتفون في الغالب من ملاهي الحياة بعد يوم العمل المضني بتلك القهوة السريعة أو الشاي يتناولونه في مقهى الحي قبل الدخول إلى المنزل ويقنعون من العطل في العادة بتلك الأيام المحدودة والمعدودة التي تلي الأعياد الدينية، يستريحون خلالها ثم يجددون العزم على مواصلة رحلة الحياة بالعمل. أما ملتهمو الفائض، فإن التخطيط للعطلة الصيفية مثلا يبدأ عندهم منذ الأيام الأولى لشهر أبريل، ثم تتناسل حكاياتها الى ما بعد شهر شتنبر. أتذكر، قبل سنوات، وأنا أودع أحد الأقارب بميناء طنجة الذي كان قاصداً الديار الفرنسية بعد نهاية إجازته الصيفية وقد سألته عن شعوره وهو يغادر، أنه رد علي بأن في ذهنه وعقله وقلبه كل هؤلاء الناس البسطاء الذين يشكلون الدرع الثاني من الجنود الحارسين للبلد بعد جنود الحدود والثغور. الناس البسطاء، منتجو الثروة الاقتصادية والمادية، هم أيضاً من لازالوا متشبعين متشبثين بتلك القيم النبيلة والأصيلة، قيم التضامن والمساعدة المتبادلة والعطف والرحمة، تلك القيم التي أسماها الروائي الانجليزي الشهير سامويل بيكيت بالفضيلة المشتركة Common decency المنتجون البسطاء يخلقون الثروة ويكتفون من ثمراتها بالضروريات، وملتهمو الفائض يبررون في الغالب مواقعهم المريحة حينما يجررون وامتيازاتهم، بأنهم أصحاب مهام الادارة والتنظيم وهي الشروط الأولى لخلق الثروة. لكن ما نلاحظه في بلدنا السعيد أن الموازين اختلت بشكل غير مقبول ولا معقول بين الإنتاجي والتنظيمي، وربما كانت إحدى مؤشرات التخلف الكبرى أن يختل التوازن إلى هذا الحد بين من يعمل وينتج وبين من ينظم ويؤطر. ومن المحقق أن تعديل هذا الاختلال المجتمعي الكبير يبدأ بإنصاف العاملين المنتجين.