صعب للغاية أن تكتب عن إنسان من عيار الأستاذ طلحة جبريل موسى، الصحافي المغربي من أصل سوداني، ولا أقول "الصحافي السوداني المقيم بالمغرب".ولا تسألوني لماذا؟ ولكن أرجو أن تسألوني عما يجعل الكتابة عن الرجل صعبة.والأسباب، برأيي، بسيطة ومعقدة في آن. فالرجل ليس شخصا آخر غير الذي علمني أبجديات المهنة وبالتالي لا يمكنني إلا أن أكون ممتنا له، ولكن ليث الأمر يتوقف هنا بل إن له تجارب مهنية وإنسانية توزن بميزان الذهب جعلتك يراكم الأمجاد والحساد. وبناء عليه، فله من المحبين الكثير وبمقداره من الحاقدين الحانقين.أعداء النجاح.لكني لن أتحدث عن جبريل من فراغ بل من معرفة امتدت لعقد من الزمن، ولم تتوقف زمنيا منذ سنة ألفين عند إطلاق الصباح وامتدت على محاور مكانية شاسعة: الرباطلندن، لندنواشنطن، واشنطنلندن، الرباطواشنطن، واشنطنالرباط. ومناسبة الحديث عن الرجل هي عودته لبلده المغرب الذي يحمله معه أينما ارتحل، وقد فارقه عندما ظن مخطئا أنه لم يعد له به مكان. "" عاد طلحة جبريل إلى جريدة "الشرق الأوسط" التي سيلتصق إسمها به وإسمه بها في المغرب إلى الأبد،هو من صنعها وصنع نفسه معها.أيام كانت "الخصراء" تكشر عن أنيابها فيخافها الكبار قبل أن يدركها صباح طارق الحميد فسكتت عن الحس المهني المباح وصارت تتثاءب من شدة التنويم.أيام طلحة جبريل كان الناس يهفون للإنتساب إليها ولو بصفة متعاونين..واليوم تبدل الحال بشكل مأساوي. ساعتها فتح جبريل جسرا لمفكري المغرب وعرف بهم في المشرق، وكان الراحل محمد شكري في طليعتهم.عاد جبريل قبل أسابيع لمكانه الطبيعي يبحث كيف يسقي جذور الخضراء علها تينع..وما أصعبها من مهمة حينما نعلم أن حاتم البطيوي، المدير السابق، قد تركها خاوية على عروشها وكأن مهمته كانت تجفيف طبعة المغرب من المغرب: ظل المكتب في مكانه والعنوان هو العنوان ..لكن الناس، أهل المهنة، رحلوا عن الجريدة نحو عوالم فسيحة..أو هكذا أرادوها.لم أكتب عن طلحة وأنا من بين من غادروا السفينة قبل عامين؟ الحقيقة أني كنت أريد أن أكتب لكم عن ظاهرة "نص نص"،لكن الصديقين نور الدين الأشهب وخالد برحلي استفسراني كثيرا عن طلحة جبريل ومثلهما كثير من الزملاء والناس العاديين، باعتباري اشتغلت معه وقد كانت إجاباتي متناثرة فأحببت أن أنظمها في مقال، لكن ما يحفزني أكثر هو أن عودة طلحة جبريل إلى المغرب لم يكن لها الصدى اللائق برجل غير عادي عاد بتجربة نوعية جدا من عاصمة العالم، واشنطن. أكتب هذا وأعرف أن كثيرين سيتشوقون لمعرفة باقي الموضوع وأن كثيرا مثلهم سيصابون بالقرف من كلامي ويتمنون لو أني لم أكتب عن الرجل أصلا . إن للنجاح ضريبة وأم الضرائب كلها الحقد غير المبرر.ما علينا. تعرفت على طلحة جبريل ذات فبراير من العام 2000 في أحد مكاتب صحيفة "ليكونوميسيت"عندما جيء به ليصنع الصباح من لا شيء.لعلي كنت أول صحافي يلتحق بها بعده.دار بيننا حوار بالعربية وإنجليزية وقليل من الفرنسية.أذكر أنه سألني فيم يمكنني أن أكتب فقلت على الفور: في كل شيء ما عدا الرياضة.سألني هل هي ثقة زائدة بالنفس؟ فقلت: هذا ما أستطيع فعله.قال لي سنمنحك فرصة ستة أشهر، فقلت شهران يكفيان. ابتسم ابتسامة غامضة، وانصرفت أنا إلى قسم الموارد البشرية لأوقع العقد.وبدأت قصة مغامرة مهنية جميلة انتهت بحزن على صانعها حين استغنوا عنه بشكل مهين وبأسلوب بشع.ساعتها تفرقنا في أرض الله الضيقة مهنيا. ثم انطلقت مغامرة "الجمهور" التي أسدل الستار على مسرحيتها قبل أن يبدأ العرض أصلا، وكان ما كان من خذلان المقربين، وعلى رأسهم عبد الكريم بنعتيق الذي قال لي طلحة يوما بشأنه: الرباط عندي هو بنعتيق.كنت أصر على إرهاق نفسي بالعمل بالبيضاء والسكن بالقنيطرة، أراد أن ينصحني بالسكن في المحمدية التي لم أستطب العيش بها، وكانت رسالته إلي أن الإنسان هو من يعطي للمكان معنى، وضرب لي مثلا بعلاقته ببنعتيق التي كانت تعطي لوجوده بالرباط طعما، ولم يكن يعلم أن البنكي سيضرب بعرض الحائط كل ذلك، ذات حساب سياسي ضيق في زمن أخلاقي أضيق.وإني أجزم أن طلحة جبريل راكم ما لا يحصى من السبق الصحافي لكن أكثر من ذلك كانت حصته من طعنات من أحسن إليهم ومن المقربين، ولإثبات كلامي يكفي الاطلاع على مقدمة كتابه "أيام الرباط الأولى" حيث ذكر بالنص:"إن شظف العيش والمكابدة مع ظروف الحياة وتقلباتها مقدور عليه، أما تخلي الأصدقاء والقريبين، فأمر فظيع، فظيع جدا". عايشت بعض محنه عن قرب ورأيت في عينيه الألم يتلألأ لكن أبدا لم يفقد توازنه ولا أناقته من اللباس إلى الحديث والتفكير بشكل إيجابي..ولسان حاله يقول "أما الماضي فقد مضى لكن المستقبل أمامنا" أو ربما ردد مع المشاهب "ولاتحافي ألوافي". هو يحب جيل جيلالة على أية حال سيما أغنية "آه يا جيلالة" وقد كانت شريطا قدمته له "رشوة" ليرخص لي عطلة من يومين. لكن اللافت ان الرجل، عن تجربة، له قدرة رهيبة على التذكر بذاكرة قوية تنتمي إلى قرون مضت لكنه يصر على نسيان من أساءوا إليه، بينما من سابع المستحيلات أن ينس من وقف معه نصف موقف رجولي.في ساعات الانكسار يعتصم طلحة جبريل في مكتبه، في شبه بيات قد يكون صيفيا أو شتويا مادامت النكبات لا تستشير، يرابط هناك في حي أكدال إلى أن يدق الفرج باب مكتب الصحافي الوحيد الذي يتوفر على مكتب في المغرب بأوقات دوام وسكرتيرة.في ذلك المكتب بالذات رأيت أستاذا في المهنة والحياة والأبوة.قلما رأيت رجلا عربيا يعامل أولاده كما جبريل.باختصار،يستحيل أن يكون لك أب مثله وتنشأ بعقد ما إلا إذا كنت ولدت بعاهات خلقية. هذا، باختصار فيه حيف، هو طلحة الإنسان، فماذا عن جبريل المهني؟ هذه قصة أخرى إليكم بعض ملامحها. لعله حطم رقما قياسيا في عدد الجرائد التي أسسها والمهام الصحافية التي أوكلت إليه أو عدد رؤساء الدول والملوك الذين حاورهم، وعلى رأسهم المرحوم الحسن الثاني، الذي يحتفظ بصور تذكاريه له معه، ويقول دائما إنه لو كان يريد المال لما وجد أكرم من الملك الراحل، لكنه لم يفعل.وبالمناسبة لو أعطيت طلحة مال الدنيا لصرفه واقترض قبل أن يلاقي ربه، كرمه وإقباله على الحياة سببا كثيرا من "بلاويه".سأختصر في عبارات مقتضبة ملامح جبريل المهنية: "اعطني أحسن ما لديك أما أسوأ ما لديك (أنت الصحافي) فاحتفظ به لنفسك" "رئيس التحرير الذي لا يصنع نجوما فهو فاشل، ولهذا فما أكثر النجوم" التي صنعها جبريل القليل منهم من يقر بالأمر وما أكثر النجوم التي ترسل في سماء الصحافة في وجهه شهبا كأنها الرجوم . "كل آليات صناعة الصحف محايدة إلا الإنسان"، ولذلك فهو يدافع عن مرؤوسيه بشراسة ماديا ومعنويا ولعله ساهم بشكل جلي في رفع سقف سعر الصحافي المعرب بالمغرب "الصحافي الحقيقي في العالم العربي مثل الملح" قليل لكنه يداوي الجراح.ولذلك ما أكثر جراحنا المهنية وما أقل من يداويها.هذه من عنديتي. " لكل شيخ طريقة وهذه طريقتي لمن أراد أن يشتغل معي"،طريقة أقر لي عدد ممن اشتغلوا معه وتعلموا منه أنها كانت زادا مهنيا سيرافقهم بقية حياتهم. "الصحافة هي الميدان" وليست "صحافة ألو" كما كتبت في مقال سابق.ولذلك غالبا ما يحزن حينما تكون كل مقاعد الصحافيين ملأى بهواة قال وصرح وأوضح وزاد..و"أجاب محتدا" هذه عبارة تكررها صحافية عن ادريس لشكر فتثير قهقهاتي. أخطر ما في الصحافة المكتوبة..أنها مكتوبة.يكفي. إذا كتب لك الله العمل مع طلحة جبريل فإما أن تتعلم أو تغادر، ليس هناك خيار آخر.في سنة 2001 انطلقت في الميدان "أعيت" فيه تحقيقات شمالا وجنوبا وصحراء فكان متفهما جدا لإكراهات الميدان ومتطلباته المادية واللوجيستية.لكن قبل أن "أنتشر" في الميدان استغربت أنه كان يكثر علي العمل ولا يبدي تجاهي أي لين فسألته لم يعاملني بتلك الطريقة – سيما أني كنت من بين أكثر المحررين لجاجا في اجتماعت التحرير فذهبت بي الظنون – فقال لي ببساطة "أضغط باش نحيد منك السليت لأن لك كل مقومات الصحافي ولو كنت مثل بعضهم لما كلمتك أصلا" وقد قصد ب " بعضهم" صحافية فرضها عليه مدير المؤسسة كاستثناء.يعتقد البعض أن طلحة جبريل "غاوي تنقلات" والحقيقة أن للرجل شروطا مهنيا لا يتنازل عنها وعندما تمس في العمق يترجل. ومن المفارقة أن جبريل، الصحافي المعروف في العالم العربي عبر قنواته أيضا، يكره التلفزيون ولا تربطه به سوى نشرات الأخبار وبعض المباريات القوية في كرة القدم.وقد عبر عن كرهه للتلفزيون في برامج تلفزيونية! وبالمقابل يشدد على أن الصحف لن تذهب للمتحف وأن البقاء للكلمة، الكلمة التي دأب على احترافها ثلاثة عقود بلا كلل، فصارت روحه ونفسه ومبرر وجوده.يقرأ بشراهة ويفاجئني كثيرا بعبارات ينحتها بين الفينة والأخرى فتعلق بذاكرتي مثل "لكن الصحيفة قررت أن تتحول إلى جريدة منوعات تهتم بتشوهات المجتمع" خاصك تحفي عينيك بش دبر على هاذ التعبير.. "لكن الجلالي اختار كلاما مؤلما في لحظة مؤلمة"..أنا براسي ملي قريتها اندهشت. عموما، طلحة جبريل يمكن أن يلخص مقالا في فقرة وفقرة في جملة وجملة في كلمة وموقفا في تعبير. قناعتي أن من مر "بمعسكرات" الصحافة العربية سيتعلم شيئا ما، ومن لم يلتحق بمدرسة طلحة جبريل فاته الكثير، والذي اشتغل معه ولم يتعلم.. قطعا لن يتعلم..ومن اشتغل معه بجد وتعلم لا يخاف عليه أينما ذهب.أدعي لنفسي أني أخذت من الرجل ما أغناني عن الدراسة في أي معهد للصحافة ولا أملك لرد جميله شيئا سوى هذه الكلمات النابعة من قلب صادق لا يرغب في تدخل لصالحي لدى جهة معينة ولا يطمع في وظيفة صرت فيها زاهدا ولا أريد عليه شكرا لأنه واجب. يحزنني كثيرا نكران الجميل والتجاهل تجاه رجل بصم صحافتنا المغربية بكثير من طابعه وعلم أجيالا متوالية ومثل المغرب كواحد من خيرة أبنائه ولم يفوت فرصة للدفاع عن قضاياه الحيوية.التاريخ وحده سينصف طلحة. في عقده السادس مازال طلحة حيويا نشيطا يكتب ويشتغل بحماس الشبان وبروح الفريق في مكتب لا يوجد فيه غيره.مكتب الرباط. وقبله كان هو المكتب في واشنطن، عاصمة الدنيا، بينما في لبنان، الصغير مساحة والكبير حسابات، يضم المكتب قرابة عشرين موظفا.مفارقات صحافتنا العربية البئيسة. إنها المهنة التي تأكل أبناءها، والتعبير عنوان لكتاب قادم لجبريل موسى، لعله أتمه. هذا هو طلحة جبريل موسى باختصار مجحف.. كما عرفته وخبرته، والذي لم أره منذ خريف 2005، ولعلي أتمتع بجلسة أخوية معه قريبا..يشرب فيها هو شاي ليبتون وأرشف أنا، غاوي المقاهي، "نص نص"، موضوع مقالي القادم الذي سأكتبه بحول الله بعد يوم صيام تقبله الله منا ومنكم.آمين. [email protected]