في أعقاب أحداث تونس كان يعتقد جلّ المراقبين أنّ النظام التونسي لن يسقط، لما يتمتع به من "استقرار" ناتج عن طبيعته القمعية الشرسة التي شلت حركة الشعب التونسي طيلة عقود، ثم ما لبث أن انهار النظام وفرّ الدكتاتور، بفضل الهبة الشعبية الباسلة للأشقاء في تونس، ثم انتقلت موجة الغضب إلى مصر، فقال زعيمها المخلوع، مصر ليست تونس، وبعد عناد ومكابرة عمّرت 18 يوما اندحر وتوارى عن الأنظار في شرم الشيخ في انتظار محاكمته، ثم انتقلت شرارة الثورة إلى ليبيا فقال زعيم الجماهيرية، إنّ ليبيا لا هي بتونس ولا مصر، وها هو الآن يضيق الخناق من حوله، ويفرّ المقربون منه، الواحد تلو الآخر، حتى كاد يكون سقوطه مسألة أيام لا غير. وبنفس المنطق يحاجج حكّام الدول العربية، كلّ منهم لإقناع العالم أن بلاده ليست... ومع التسليم بهذه الحقيقة وأنّ لكل بلد خصائصه وبأنه يختلف عن غيره من البلدان، فقد أغفل هؤلاء جانبا مهما من المعادلة، وهي بقدر ما تكون حجتهم هذه صحيحة إلى حدٍّ ما، فقد غاب عنهم شطر من الحقيقة لا تقلّ أهمية وصحة؛ فهذه الأنظمة العربية مع ما تتميّز به من اختلافات، تتشابه في بنيتها ووسائلها وطبيعة حكمها، منها على وجه الخصوص الطابع المستبد في الحكم، واستشراء الفساد، من احتكار مجموعات أو أسر أو عصابات حاكمة وموالين لها لموارد البلاد، بالإضافة إلى الفشل التام في تسيير دواليب الحكم، بحيث أضحت دول عالمنا العربي تحتل المراتب الأخيرة في كل تصنيف دولي في مجال التنمية، والحريات، والتعليم والصحة والشفافية في تسيير شؤون البلاد. كما تجدر الإشارة إلى أنه من بين العناصر المشتركة بين النظم العربية المتساقطة، انخراطها في سياسة مكافحة الإرهاب التي تشكّل إحدى الروافد التي غذّت ولو بشكل غير مباشر هذه الهبات الشعبية، علما أنّ هذه السياسة تمّ تنفيذها بتنسيق ومباركة الدول الغربية، الأمر الذي أشعر هذه الأنظمة العربية بحرية أكبر في زيادة قمع الشعوب، مقابل تقديمها المساعدة في مجال "تنفيذ مهام التحقيق" مع "الإرهابيين" بوسائلها الناجعة، داخل مراكز سرية خارجة عن إشراف وسلطة القضاء. ومن جهة ثانية، فالمنطلق الذي حرّك هذه الشعوب يتّخذ عنوانا واحدا: تطلّع هذه الشعوب إلى إحداث تغيير حقيقي، يعيد لهم كرامتهم وحريتهم ويقفز بهم إلى مصاف الدول الحرة. إنّ الأسباب التي أخرجت الشعب التونسي والمصري والليبي واليمني، وحتى الشعوب الأكثر رفاهية، من البحرين وعُمان، متوافرة في الجزائر إلى حد كبير إن لم تكن أكثر من غيرها، الأمر الذي يفرض على أصحاب القرار، الكف عن المماطلة والهروب إلى الأمام، من خلال معالجة الوضع المتفاقم بالمسكّنات، حتى ولو بلغت مليارات الدولارات من عائدات النفط والغاز، في شكل مِنح، التي أضحت تُعرف باسم الرشاوى الاجتماعية. إنّ مثل هذه الإجراءات، لن تنطلي على أحد، وكل ما ستحققه لهم، هو تأخير ساعة الحسم لا أكثر، ذلك لأنّ الأزمة المستشرية أعمق، ولن يجدي معها سوى انتهاج إرادة سياسية حقيقية وصادقة من خلال عملية جراحية واسعة. وفي هذا السياق تحديدا، تشهد الجزائر تململ بدأ يترسّخ ويفرض نفسه على المشهد، وذلك منذ فترة ليست بالقصيرة. والكلّ يعلم أنّ الشعب الجزائري قد دفع ثمنا باهظا من أجل التخلّص من الاستبداد والحكم البوليسي الذي جثم على صدر أهله دهرا، منذ بداية تسعينات القرن المنصرم، كما عرفت البلاد هبات متكررة خلال الفترة الأخيرة، حتى قبل ثورة أشقائنا في تونس ومصر وليبيا، ورغم ذلك ظلّت السلطة النافذة في البلاد تنتهج نفس الطريق، من خلال طرح حلول ترقيعية، رافضة الاعتراف بشرعية المطالب الحقيقية للشعب الجزائري. وما أن سقط زعيما تونس ومصر، ويكاد يلحق بهما ملك ملوك ليبيا وزعيم اليمن، حتى شعرت هذه السلطة النافذة أنّ الخناق بدأ يضيق فعلا من حول رقبتها، واستشعرت باقتراب لهيب الثورة من ركائز كيانها. تتدافع هذه الأيام الأنباء من مصادر مختلفة، بعضها مقرّب وبعضها الآخر "مأذون" في شكل تصريحات وأحيانا تسريبات، قد يكون الغرض منها جس النبض لمعرفة مدى ردود الفعل بشأنها، خاصة وأنها صيغت هذه المرة بحيث تبدو وكأنها حلول جذرية، خلافا لما كان معتمدا حتى الآن، ولا أحد يشكّ في أنها تأتي استباقا لما قد يحدث في الجزائر في سياق هبة الشعب الجزائري المرتقبة كتطوّر طبيعي. وتأتي وعود الساسة محاولةً منهم لإجهاض المبادرات الفعلية التي تعمل بجدّ وصدق لإحداث التغيير السلمي المنشود، من خارج إطار النظام، رافضة استمرار أسلوب إطالة عمر الأزمة بتغيرات شكلية، تضمن بقاء جوهر السلطة الفعلية، التي تخوّلها التحكّم في البلد، من خلف الستار، دون تبعات أو مساءلة. وكان الأجدر أن يستخلص الحكم في الجزائر دروس الدول الشقيقة والمجاورة، فلا حاكم قرطاج نجح في تجنّب المصير المحتوم بوعوده المتأخرة من خلال عرض رشاوى اجتماعية، ولا تعنّت ومكابرة زعيم مصر المخلوع استطاع ثني عزيمة الشعب المصري، وهو الآن ينتظر المحاكمة على ما ارتكبه من جرائم، بعد أن تمّ تجميد أموال عائلته بالكامل، ومنعهم من السفر خارج البلاد، أما الدرس الليبي فلا يزال جرحا غائرا، مع استمرار دكتاتور طرابلس في رفض الواقع الجديد، وارتكابه جرائم مهولة بحق الشعب الليبي المغوار والمجاهد الذي يوشك على اقتلاع جذور الفساد. وإلى جانب ذلك، حريّ بحكام الجزائر استيعاب المتغيّرات الجديدة، التي تفيد بأنه لم يعد مقبولا في عصرنا استمرار نظم الحكم المستبد، بحيث لم تعد حتى الأنظمة الحليفة سابقا تقبل بها لما أضحت هذه النظم تشكّله من عبء عليها، وتحمّلها وزرا محرجا أمام شعوب هذه المنطقة، وقد أقرّ وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ مؤخّرا، أنه "قد حان الوقت لتجاوز إطار مكافحة الإرهاب كمطية في إطار نسج العلاقات بدول المنطقة، واعتقد أنّ الفرصة سانحة الآن، لإقامة علاقة أوسع نطاق من العلاقة الأمنية الحصرية، التي لطالما انتقدتها الشعوب باعتبارها قوانين بوليسية تستهدف قمع الحريات والمعارضين السياسيين". وهذا يُثبت أنّ العواصمالغربية أدركت أنّ مصالحها المشروعة والثابتة على المدى البعيد تضمنها النظم الديمقراطية المعبّرة عن اختيار الشعب وليس الطغم المستبدّة مهما كان تعاونها الأمني مع هذه العواصم، سواء في مكافحة الإرهاب أو في وجه الهجرة غير الشرعية. وربحا للوقت والجهد والمال وحقنا للدماء، ومن أجل تفادي تطوّرات قد تخرج عن السيطرة بحيث تتّخذ منحى تونسيا أو مصريا أو لا قدر الله ليبيا، يتحمّل أصحابه كل المسؤولية عمّا يلحق بالبلاد والعباد من أذى، يستدعي الأمر الكفّ عن تكرار الحلول التي لن تغيّر من الوضع شيئا، والقيام بدل ذلك بجملة من التدابير لحفظ البلاد من مخاطر محدقة. وفيما يلي جملة مما يتعيّن تركه، وما يستجوب الإسراع به: 1- يجب الكف عن: - المراهنة على (والعمل على تغذية) الانشقاقات بين مختلف فئات المجتمع، لتسويق صورة عن المجتمع الجزائري في شكل فسيفساء يستحيل عليها الاجتماع حول مشروع مشترك، ومن ثمّ لا بديل عن نظام الحكم القائم، مع تعمّد تجاهل أنّ هذه الفئات المكوّنة لنسيج الشعب الجزائري تُجمع على ضرورة تغيير حقيقي للنظام الذي فقد مبرّرات بقائه، وتناضل من أجل مكافحة الفساد والأسلوب البوليسي للدولة، والملفت أنّ هذه الحجّة قد استُخدمت من قبل الأنظمة التي انهارت، وثبت فيما بعد زيفها، حيث رأينا كافة أطياف المجتمعات التونسية والمصرية والليبية واليمنية موحّدة في طلبها برحيل (وليس إصلاح) أنظمتها، هذا بالإضافة إلى أنّ الجزائر أثبتت قبل أكثر من عقد من الزمن أنها تستطيع الاجتماع حول أرضية مشتركة للخروج من الأزمة كما جرى في عام 1995 في روما من خلال العقد الوطني. - استعمال الورقة المستهلكة، التي استخدمها مبارك وبن علي والقذافي، لاستمالة الدول الغربية، أي التلويح بخطر الإرهاب الإسلامي، والقاعدة وما إلى ذلك، وقد أثبت الواقع هنا أيضا أنّ تلك الحجج زائفة وسمجة، سخرت منها حتى الدول الغربية المستهدفة من خلال التلويح بتلك الفزاعة، وأتضح جليا أنّ الشعب برمته هو من خرج للمطالبة برحيل أنظمته الفاسدة. - محاولة احتواء الوضع، بالشروع في حوار شكلي ومزيّف مع أطراف معروفة فاقدة لكل شرعية ومصداقية، وهي أصلا امتداد للسلطة ذاتها التي أغدقت عليها رشاوى طيلة عقود. - استمرار لعبة " تبديل" الواجهات السياسية، في عمليات متتالية لا تغيّر من واقع الأمر، حتى ولو كان ذلك بطرح أسماء أشخاص "يحظون" ببعض المصداقية، لكنهم يشكّلون جزءا من النظام القائم، ومن ثمّ لا يمكن اعتبارهم تغيّرا خارج إطار النظام ذاته، الذي يشكّل أحد المطالب الرئيسية للتغيير المنشود. - اللجوء إلى "الرشوة الاجتماعية" من خلال تبديد موارد البلاد في عملية شراء سكوت وانصياع فئات محرومة من الشعب، عبر توزيع مبالغ مالية ووعود بمنحهم شققا ومناصب شغل. - اختزال معالجة الأزمة في بعدها الأمني، وحلّها من خلال المطالب الاجتماعية والمعيشية، مع القفز على جوهرها السياسي. - محاولة غلق ملفات عالقة مثل المفقودين والمجازر والاختلاسات المهولة، لأنّ الشعب عامة وضحايا المرحلة الدامية على وجه الخصوص، لهم الحق في معرفة الحقيقة، وليس من حق أحد عرقلة أو تجريم أصحاب هذا الحق، كما لن يتأتّى انتشال البلاد من محنتها وإرساء قارب الجزائر إلى شاطئ الآمان وبناؤها من جديد على أسس متينة، دون معرفة حقيقة ما جرى. - تكرار تجربة أكتوبر 88 وجوان 91 وجانفي 92 وإلى يومنا هذا، في توريط الجيش في عمليات قمع المتظاهرين السلميين، عكس ما تحلّى به الجيشان التونسي والمصري. - المغالطة في مسألة رفع حالة الطوارئ الشكلية مع الإبقاء على قوانين مكافحة الإرهاب التي تمنع المواطنين من التعبير الحر والتنظيم بل وجعل هذه القوانين جزء لا يتجزّأ من التشريعات العادية، أي بعبارة أخرى لجوء السلطة إلى استبدال حالة الطوارئ المرفوعة بحالة الطوارئ المكرّرة تحت مسمّى قانون مكافحة الإرهاب والتخريب. 2- يجب المباشرة في تحقيق: - الاستجابة الفعلية لمطالب الشعب الجزائري، فالعالم لم يعد يتحمّل التسويف خاصة مع ما تجتازه المنطقة قاطبة، ولم يعد مقبولا بالنسبة للمجتمع الدولي رؤية سفك دماء المدنيين لمجرّد خروجهم للتظاهر سلميا للمطالبة بحقهم في التغيير من أجل العيش الكريم وتغيير طبيعة نظام الحكم الذي يريدونه والممثلين الذين يختارونهم، مع التوضيح أنّ موقف المجتمع الدولي لا تتحكّم فيه القيم الأخلاقية بالدرجة الأولى، بل هو قائم على أساس الحفاظ على مصالحه، التي تحتّم عليه الاحتفاظ بمصداقية تجعله طرفا يُصغى إليه. - الإقرار بمشروعية الدعوة إلى إحداث قطيعة شاملة وفعلية مع نظام الحكم رجالا وهياكل ونظاما، ومن ثمّ إرساء أسس دولة تقوم على رجال مشهود لهم بالنزاهة والمصداقية والكفاءة، لم يتورّطوا في تسيير البلاد من قبل،وليس لأقطاب النظام القائم أيّ قرار في تشكيل قواعد النظام الجديد أو التأثير فيها. - إبعاد مؤسسة الجيش عن الشؤون السياسية والمهامّ القمعية وعودتها إلى مهامّها الدستورية في حماية الوطن، لا في حماية العصب الحاكمة والدائرين في فلكها. - حلّ جهاز المخابرات (الدي أر أس) وإبعاد جميع عناصره من مختلف هياكل ومراكز ومواقع الدولة، التي كانوا يجثمون من خلالها على المؤسسات ويتّخذون القرارات باسمها، وإعادة تشكيل هذا الجهاز بحيث يضطلع بمهام محدّدة دستوريا ويخضع للمساءلة البرلمانية والمتابعة القضائية في حال التجاوزات. إن الفساد والاستبداد اللذان جثما على صدر الشعوب العربية ما كان له أن يستفحل لولا غياب الشفافية في تدبير شؤون الدولة، بحيث أضحى معروفا لدى العام والخاص أن الشؤون الحقيقية للبلاد لا تديرها الواجهات السياسية، بل جهات غير معروفة لا تخضع للسلطة ولا للمساءلة، متمثلة بالأساس في أجهزة البوليس السياسي أو المخابرات أو مباحث أمن الدولة، بحسب كل دولة، وقد تأكد ذلك في كل من الدول التي تخلصت شعوبها من الأنظمة الفاشية مؤخرا (تونس ومصر تحيدا)، ما إن انهارت تلك النظم حتى طالبت هذه الشعوب بحل تلك الأجهزة المتغولة التي كانت تقف خلف كل ما عانوه من ويلات، من كبت للحريات، والتعرض للقمع والتنكيل الجسيمين والتجسس عليهم والقتل خارج نطاق القضاء، والتفقير لحساب جهات نافذة. ونشهد الآن تونس تبادر بحل جهاز البولس السياسي بعد إسقاط دكتاتور قرطاج مواصلة لثورتها التحررية، ومصر تحذو حدوها، لتقتفي الأردن اثارهما حيث تطالب كافة فئات المجتمع بإعادة هيكلة هذا الجهاز بحيث لن يقدم بعد الآن على تمدده الأخطبوطي واختراق كافة مؤسسات الدولة للسيطرة عليها، بما في الصحافة والبرلمان والوزارات. - تفكيك المركزية النقابية لتورّطها في العمل السياسي غير المشروع وفي انقلاب يناير 1992 ووقوفها إلى جانب السلطة الانقلابية على حساب العمال والمواطنين، وفتح المجال أمام تكوين نقابات عملية تعدّدية ومستقلة. - فتح المجال أمام حرية التعبير بكل أصنافه، وحرية التجمّع وتشكيل الأحزاب والمنظمات والجمعيات، دون أن يكون للداخلية حق القرار في ذلك، أي نزع من الداخلية صلاحية النظر في ملفات الأحزاب والجمعيات. - وضع وزارة الداخلية تحت مساءلة البرلمان مع المتابعة القضائية لجميع من ثبت في حقهم التورّط في جرائم جنائية أو مالية أو سياسية ضد الشعب الجزائري. - تنظيف هياكل الدولة من هذه الأجهزة المتغوّلة، هدفه إرساء نظام حكم يخضع من كل النواحي، السياسية والأمنية والمالية وغيرها، للشفافية التامة، بحيث يخضع جميع المسؤولين فيها للمسالة، ويضع حدا لما كان يعاني منه المواطنون في ضل حكم تلك العصابات. - وضع آليات راسخة تعمل بشفافية حتى لا تبقى أيّ من مؤسسات الدولة فوق القانون والمساءلة وفوق الإرادة الشعبية. - وضع آليات شفافة تضمن التوزيع العادل للثروات. رشيد زياني-شريف عضو حركة رشاد الجزائرية